د.أيمن منصور ندا يكتب : الحُطَيْئَة رجل دولة

profile
د.أيمن منصور ندأ رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة
  • clock 16 يونيو 2021, 2:42:37 ص
  • eye 1270
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

هو أبو مليكة جرول بن أوس؛ من الشعراء المخضرمين ممن شهدوا الجاهلية والإسلام (600- 678 م).. وُلِدَ لقيطاً لا يُعْرف له نسبٌ أو أهلٌ، وقصيراً ولذا سُمَّي بالحُطَيْئَة إشارةً إلى قربه من الأرض، وذميماً منبوذاً يتم التنمُّر به، وشبَّ محروماً وفقيراً وساخطاً.. غير أنَّه كان يعتقد أنه "نمبر ون" في مجال الشعر..وتخصص في الهجاء، فكان يهجو كلَّ من يقابله أو يعرفه، واعتاد الناس أن يجزلوا له العطاء اتقاءً لشره ولشعره.. قائمة الذين هجاهم الحطيئة طويلة؛ حتى شملت أقرب المقربين منه: هجا "الحطيئة" أباه، فقال: "وبئس الشيخ أنتَ لدى المعالي"، وهجا أمَّه فقال: "أراح الله منكِ العالمينا" ، وهجا زوجته فقال: "لها جِسمُ برغوث وساقُ بعوضةٍ... ووجهٌ كوجهِ القردِ بل هو أقبحُ".. وعندما لم يجد من يهجوه، هجا نفسه فقال: "أري لي وجهاً قبَّح الله شكله" ..

كان الحُطَيْئَة يعتقد أنَّ موهبته أكبر من حظّه، وأنَّ حظَّه أقلُّ مما يستحق، ولذلك كان غضبه شديداً وكان هجاؤه مقذعاً لاذعاً؛ شبيه بما كان يعتقده، عن حق، نجيب سرور(1932- 1978) في نجيبياته الذائعة، وعبد الحميد الديب (1898- 1943) في قصائده الشهيرة .. وكان الحُطَيْئَة يعتقد أن موهبته من الاتساع بحيث تشمل كلَّ شيء: الشعر والقصة والأنساب وركوب الخيل.. وكان يرى نفسه "رجل قبيلة" رغم أنَّه كان الأبعد عن هذه الصفة!

كان شعر الحُطَيْئَة منتشراً لدى الطبقة الدنيا من عرب الجاهلية: العبيد والموالي؛ كان تعبيراً عنهم، وعن طريقة حياتهم وعن رغباتهم المكبوتة .. لم يكن ينتمي إلى "الشعراء الصعاليك" الفرسان كتأبَّط شراً (550- 607 م.) وعروة بن الورد (555- 607 م.)، ولكنه كان يعتقد في أهمية الشعر المقذع في إرهاب الناس وفي الحصول على حقه الطبيعي.. كان يرى نفسه "عبدة مؤتة"، و"سليم الأنصاري" و"خالتي فرنسا" في نفس الوقت: كومبو الفتونة والشعبوية والشرشحة.. وكان يعتبر نفسه "أسداً" في مواجهة مؤامرات الآخرين، وكثيراً ما أحاط نفسه بمجموعة من أولي البأس والقوة يذودون عنه الأذى، وينشرون عنه شعره وبذاءاته..

كان الحُطَيْئَة عليماً بأغوار الشعر وبقوانينه، وكان يستغل الشعر في فرض سيطرته على أقرانه.. وكان يؤمن بأهمية "التواجد الدائم" في وسائل إعلام عصره، وركوب "التريندات اليومية"، وصناعة "الهاشتاجات" الشعرية.. ويؤمن بأنَّ ذاكرة الناس كذاكرة السمك قصيرة المدى، وأنَّ لسانهم مثل لسان أمّه بالضبط أشبه بالغربال الذي لا يحتفظ بسر: "أغربالاً إذا استودعتِ سراً .. وكانوناً على المتحدثينا؟".. وكان "فُضَحيَّاً" يفشي أسرار معارفه وأصدقائه، ويخوض في أعراضهم، ويستمتع بذلك، وكان يفرض سطوته وسيطرته على الآخرين بالصوت العالي وبالبذاءة، ورغم ذلك، كان أشبه "بالريس حنفي" في رجوعه عن شعره إذا تم الدفع له بصورة مجزية..

كان الحُطَيْئَة دائم التحدي للجميع بمن فيهم من كانوا على رأس السلطة حينذاك، وارتدَّ عن الإسلام في عهد أبي بكر، وهجاه، وامتد هجاؤه إلى عمر.. غير أنَّ قوة عمر كان لها تأثيرها في التصدي له، فقد أمرَّ بسجنه، وقال له: "والله لولا أنَّ تكون سُنَّةً لقطعتُ لسانك".. ومكث في السجن بضعة أشهر حتى استعطف عمرَ فعفا عنه، واشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة ألاف درهم، فما هجا أحداً بعدها حتى مات في ولاية عثمان.

بعض القوة كانت مطلوبة إزاء الحُطَيْئَة، وبعض الحزم والحسم كانا لازمين في مواجهته.. ووصفة عمر في التعامل مع الحُطَيْئَة درس عمليّ مطلوب في كلّ زمان ومكان، ولكن "هذه الفاتحة فأين عمر؟"

التعليقات (0)