- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
ابراهيم نوار يكتب: إسقاط الصين من النظام العالمي مهمة مستحيلة
ابراهيم نوار يكتب: إسقاط الصين من النظام العالمي مهمة مستحيلة
- 19 أبريل 2023, 3:22:28 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الخلل في توازن القوى، يضع العالم كله، خصوصا المنطقة الممتدة من تايوان واليابان وكوريا الشمالية، إلى الشرق الأوسط والقرن الافريقي وأوكرانيا وكوبا، أمام ما يمكن أن نطلق عليه «صدمة جيوسياسية عظمى»، على غرار تلك التي وقعت بانهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وتقسيم أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وانهيار الاتحاد السوفييتي بعد الحرب الباردة. الصدمة الجيوسياسية العظمى، التي تتجلى إرهاصاتها في أوكرانيا وتايوان، والشرق الأوسط، يمكن أن تعيد كل محاولات التهدئة وتجنب الحرب إلى المربع الأول. فلا تستهينوا بخطورة ما يحدث من تفاعلات عميقة، تتجلى على سطح الخطاب السياسي العالمي، في صورة انتشار أربعة مصطلحات جديدة، تقتحم العقل السياسي للبشرية، أولها مصطلح decoupling الذي يعني في قاموس السياسة الأمريكية فصل الصين عن العالم، وليس عن الولايات المتحدة فقط. وثانيها مصطلح de-dollarization الذي يعني في قاموس السياسة الخارجية الصينية إسقاط هيمنة الدولار على النظام النقدي الدولي. وثالثها مصطلح energy transition الذي يعني نهاية عصر الطاقة التقليدية، والانتقال إلى عصر الطاقة المتجددة والثورة الصناعية الرابعة، ورابعها مجموعة مصطلحات الأسلحة الجديدة، مثل الأسلحة الحرارية (الكهرومغناطيسية والليزر)، والأسلحة ذاتية القيادة، والأسلحة الفرط صوتية، والأسلحة الفضائية.
ويكشف شيوع هذه المصطلحات عن تغيير جوهري في طبيعة علاقات القوى العالمية، وهو ما نرى جانبا منه في سعي الولايات المتحدة إلى فصل الصين عن العالم، وما يقابل ذلك من سعي الصين إلى إنهاء هيمنة الدولار على النظام النقدي الدولي، وتعد هيمنة الدولار آخر مظاهر النظام العالمي الأحادي القطبية.
مشكلة أمريكا أنها لا تحب المنافسة، وتكره الدولة التالية لها في القوة الاقتصادية، وتعتبر استمرار هيمنتها على العالم مشروط بإضعاف القوة المنافسة، لا بتفوقها هي في المنافسة
ومع أن الصراع بين الولايات المتحدة والصين يمثل الصراع الأساسي المحرك للصدمة الجيوستراتيجية المقبلة، فإن هناك أطرافا أخرى في النظام الدولي، وجدت نفسها تلقائيا في جانب واحد من القطبين المتناقضين، مثل كوريا الشمالية وإيران وروسيا وكوبا وفنزويلا، التي وجدت مكانها الطبيعي مع الصين. وفي المقابل فإن دولا مثل اليابان وبريطانيا واستراليا، اصطفت وراء الولايات المتحدة مثل معظم دول حلف شمال الأطلنطي. وهناك قوى أخرى أهمها الاتحاد الأوروبي، تحاول استكشاف مسار واضح يستجيب لمصالحها وهويتها السياسية. وبعد الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بكين ولقائه بالزعيم الصيني شي جينبينغ، فإنه دعا صراحة إلى إطلاق عملية لتحقيق «الاستقلال الذاتي» للسياسة الخارجية، تقوم على «المصلحة الأوروبية»، حتى إن اختلفت عن «المصلحة الأمريكية». ومع أن دعوة ماكرون ما تزال بعيدة عن تحقيق الإجماع الأوروبي، إلا أنها، من الناحية العملية، ألقت حجرا في بركة ماء هادئ، فحركته بقوة. هذه الدعوة إلى تحقيق الاستقلال الذاتي للسياسة الأوروبية، تلتقي مع دعوات سابقة، في ألمانيا وفرنسا على وجه الخصوص، لضرورة ترسيخ الهوية الأوروبية، من خلال إجراءات لبناء سياسة دفاعية وخارجية مستقلة، ورغم محاولات ضبط ردود الفعل على جانبي الأطلنطي تجاه دعوة ماكرون، فإن ردود الفعل الأمريكية جاءت غاضبة وشديدة التطرف، سواء على الصعيد الإعلامي أو السياسي، وصلت إلى حد إطلاق تهديدات غير مباشرة من جانب أعضاء بارزين في الكونغرس الأمريكي، بأنه إذا لم يقف الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة في مواجهة الصين، خصوصا مع زيادة احتمالات المواجهة العسكرية حول تايوان، فإن واشنطن يجب أن تضع في اعتبارها التوقف عن مساندة أوروبا في حرب أوكرانيا ضد روسيا!
محاولة إنهاء العولمة
تمثل محاولة فصل الصين عن العالم، امتدادا للحرب التجارية والتكنولوجية، التي بدأها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب (جمهوري) عام 2018، واستمر فيها الرئيس الحالي جوزيف بايدن (ديمقراطي). وهي عملية أصبحت تكتسب طابعا مركبا أيديولوجيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، تنطبق عليها كل ملامح وخصائص الحرب الباردة العالمية، وتعيد فيها الولايات المتحدة استخدام حقيبة الأدوات التي استخدمتها في المرة الأولى، حيث أثبتت نجاحها، لكن الحرب الباردة الجديدة تختلف جذريا عن الأولى، في أنها لا تستند إلى قوة محركات انقسام العالم، وإنما هي تستهدف خلق محركات لتقسيمه وتفتيته. خلال السنوات الأربعين الأخيرة نشأت وتطورت سلاسل إمدادات عالمية، من خلال تقسيم دولي جديد للعمل، مدفوع بارتفاع مستوى المهارات البشرية والتكنولوجية، وإنتاجية العمل ورأس المال، وقوة القدرات التنافسية في سوق عالمية مفتوحة، وذلك على عكس تقسيم العمل على أسس أيديولوجية أو استعمارية، وقد سمح ذلك بأن تصبح دولة اشتراكية مثل الصين أو فيتنام، جزءا لا يتجزأ من النظام العالمي الجديد، الذي يتجاوز الحدود الجغرافية للدول، ودرجة تقدمها الاقتصادي، وطبيعة نظمها السياسية. على سبيل المثال فإن فيتنام، وهي دولة نامية صاعدة، تشترك في العديد من سلاسل الإنتاج العالمية، جنبا إلى جنب مع دول صناعية متقدمة، أبعد عنها جغرافيا مثل إيطاليا، وأكثر منها تقدما مثل اليابان، وعلى النقيض منها سياسيا مثل الولايات المتحدة، هذا لم يكن هو حال التقسيم الدولي للعمل خلال الحرب الباردة الأولى. وتعني عملية فصل الصين عن النظام العالمي أولا وقبل كل شيء تفكيك سلاسل الإمدادات العالمية، رغم كل ما حققته للبشرية من تقدم، وقد عرف العالم خلال السنوات الأربع الماضية كيف أن ارتباك سلاسل الإنتاج العالمية كان سببا رئيسيا من أسباب الركود والتضخم وعدم الاستقرار الاقتصادي. ومن ثم فإن فصل الصين عن العالم ينبئ بمستقبل أشد سوءا، خصوصا أن الصين أصبحت أقوى وأهم محركات النمو في العالم.
سياسة أنانية غير مسؤولة
ترافقت مظاهر الوهن الاقتصادي للولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي بزيادة القوة الصناعية والتجارية لكل من اليابان وألمانيا (الغربية في ذلك الوقت). وعندما شعرت الولايات بذلك، فإنها قررت خوض حرب اقتصادية ضدهما، واستخدمت سلاح الدولار لتحاربهما به. ووصلت المواجهة بين الطرفين إلى ذروتها في عام 1985 بعد فشل سياسة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في تعزيز النمو وزيادة الإنتاجية، من خلال تخفيض الضرائب، وتقليل تدخل الدولة في تنظيم السوق، وإطلاق حرية العمل، وقد تبخرت النتائج الإيجابية لهذه السياسة، مع انخفاض استمرار تدهور القوة التنافسية للمنتجات الأمريكية، وارتفاع سعر الدولار الأمريكي، بسبب رفع سعر الفائدة لمكافحة التضخم، الذي كان قد اقترب من 20 في المئة، في نهاية حكم الرئيس جيمي كارتر. ومع أن التضخم هبط إلى 5 في المئة، فإن قدرة الصادرات الأمريكية على المنافسة ظلت ضعيفة. ومن أجل كبح النمو في اليابان وألمانيا، فإن ريغان فرض ضغوطا شديدة على كل منهما، حتى تم إقرار خطة لتخفيض سعر الدولار مقابل كل من الين والمارك، شاركت فيها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان، بمقتضى اتفاق «بلازا» في نيويورك عام 1985. وأدى الاتفاق إلى تراجع الدولار في العامين التاليين بنسبة 40 في المئة تقريبا، وهو ما تسبب في ضغوط عكسية لوقف تدهور الدولار، فتحقق للولايات المتحدة ذلك بمقتضى اتفاق آخر تم توقيعه في فرنسا عام 1978 (اتفاق اللوفر).
مشكلة الولايات المتحدة هي إنها لا تحب المنافسة منذ ذلك الوقت، كما إنها تكره الدولة التالية لها من حيث القوة الاقتصادية، وتعتبر أن استمرار هيمنتها على العالم مشروط بإضعاف القوة المنافسة، وليس بتفوقها هي في المنافسة. وهو ما يضعنا وجها لوجه أمام تفسير حقيقي للحرب الباردة الحالية، التي تخوضها الولايات المتحدة ضد الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم. الدرس الذي لم تتعلمه أمريكا هو أن اتفاق بلازا لم ينقذها من الأزمات الاقتصادية التي ظلت تلاحقها، من انهيار أسواق المال عام 1987، إلى الأزمة المالية في عام 2008، وأخيرا أزمة النظام المصرفي التي انفجرت هذا العام. وفي المقابل فإن اتفاق بلازا كلف اليابان عقودا من الركود، ما تزال تعاني منه حتى اليوم.
فصل الصين خسارة للعالم
بينما تسببت السياسة الأمريكية في تنشيط محركات عدم الاستقرار الاقتصادي في السنوات الأخيرة، فإن الصين استطاعت أن تنجو من الوقوع في مصيدة تلك السياسة، كما استطاعت تصميم سياسة اقتصادية تساعد على تنشيط النمو داخليا وإقليميا وعالميا. وقد أكدت كريستالينا غورغييفا مديرة صندوق النقد الدولي، أن الصين ستسهم وحدها بتوليد ثلث معدل النمو الاقتصادي المتوقع في العالم خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يعني أن فصل الصين عن الاقتصاد العالمي، من شأنه أن يؤدي لانخفاض معدل النمو من 3 في المئة إلى 2 في المئة فقط. ومن غير المنطقي على الإطلاق إقامة نظام اقتصادي عالمي متوازن بإسقاط مصنع العالم الرئيسي، وأكبر مركز تجاري، واستبعاد الكتلة السكانية الأكبر، التي تضم بينها أكبر طبقة وسطى في العالم. ببساطة من المستحيل أن يكون هناك عالم من دون الصين.