- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
الجاسوسية أسرار وألغاز: الجاسوس العاشق فؤاد حمودة (2 – 3)
الجاسوسية أسرار وألغاز: الجاسوس العاشق فؤاد حمودة (2 – 3)
- 26 مايو 2024, 9:32:09 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الجاسوس فؤاد حمودة
لأن الجاسوسية هي السلاح الرابع كما يطلقون عليها، بعد سلاح الطيران والبحرية والقوات الجوية، فهي اولاً وأخيراً تعتمد على عقول ماهرة تبني الحقائق، وتحلل المعلومات وتستخلص النتائج وتضع الخطط، وتصنع ما لا يتخيله عقل او منطق من خداع وحرب خفية اسلحتها الذكاء، والشفرة، والرموز، وأجهزة الارسال اللاسلكي، وآلات التصوير، إلى جانب العامل البشري، واللجوء لشتى السبل من إغراء أو تهديد أو إرهاب وخلافه لتجنيد الجواسيس، لذلك أصبحت الجاسوسية هي الأداة الأساسية في تحديد السياسات الدبلوماسية للدولة الحديثة، وكذلك هي المستشار الخفي والأمين لرؤساء الجمهوريات والحكومات عند اتخاذ القرارات المصيرية التي يتوقف عليها مصير الدولة.
ولأهمية الجاسوسية أفردت لها الصحف والكتب والمواقع الإلكترونية صفحاتها لتسجيل أغرب الحوادث وأندر الحالات، وهو ما حاولت جمعه وطرحه بين يدي القارئ في سلسلة «الجاسوسية أسرار وألغاز» التي سبق أن نشرتها في جريدة «النهار» الكويتية في عام 2013. ولأهمية الموضوع ولحب الجمهور لقراءة ملفات المخابرات، نعيد نشرها في موقع «180 تحقيقات»... خدمة لقراء الموقع الأعزاء إلى قلوبنا.. وذلك بمعدل حلقة أسبوعية ننشرها يوم الاثنين من كل أسبوع .
الحلقة السادسة
الجاسوس العاشق فؤاد حمودة (2 – 3)
الخطوة الثانية حبر سري وراديو المخابرات
>> غسيل دماغ سياسي لفؤاد حمودة.. وفنون التجسس خلال دروس الإغراء
>> حاصروه بكل الأسلحة.. وعالجوا صدمته بموت عبد الناصر
>> ذكروه بتسوله ثمن التذكرة.. وغيروا كل مفاهيمه السابقة عن إسرائيل
>> خدروه ليفيق على أنامل سيلفيا التي حضرت خصيصاً من تل أبيب لتهدئته
سيطر العشق على قلب فؤاد حمودة واستحوذ على عقله وتفكيره.. وصار حب نوسة أهم شيء في حياته، دفعه هذا الحب المجنون للسفر للخارج، فرمقته عيون الموساد واصطاده رجالها في ألمانيا.. دربوه على فنون التجسس ومهارات التخابر.. وعاد إلى مصر ليرسل للعدو الصهيوني أدق أسرار بلاده.. مستغلاً- حسب تعليمات الموساد - حالة الإحباط التي يعيشها رجال الجيش عقب نكسة 67، وتعمد استفزازهم بالاستهانة بالجيش المصري والتركيز على النكسة، فيسرعون بالبوح بأدق الأسرار عن التدريبات والمناورات والعمليات العسكرية.. لكنه لم يكن بعيداً عن أعين المخابرات المصرية الذين فاجئوه ذات يوم بالقبض عليه، ومواجهته بجريمته، وتم الحكم عليه بالإعدام، وادعى محامي فؤاد أن موكله مجنون، ليتم تأجيل التنفيذ.. لكن لأسبوعين فقط يكتب فيهما فؤاد مذكراته وهو بالبدلة الحمراء.. ويذكر فيها أدق التفاصيل عن عملية تجنيده وعملاء الموساد الذين قابلهم وكيف أغروه بالمال والنساء، وكيف عاد لنوسة وأعاد علاقته معها رغم زواجها، ويكون طلبه الأخير قبل ان تعلق رقبته في حبل المشنقة أن يتم إعدام نوسة معه.
كما تابعنا في الحلقة الماضية وقع فؤاد حمودة في وكر التخابر، وعلم أن هاوزن يهودي ألماني يعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية، وأغرقوه بالمغريات، وصاحبته سيلفيا ليتم تدريبه وتأهيله للمهمة الدنيئة وحياة الخيانة التي اختارها.
ويقول فؤاد عن الساعات التي صحبتها فيها سيليفا قبل السفر إلى بون ليتلقى التدريب والتأهيل على يد رجال الموساد: طفت بخيالي كالطائر فوق كازينو الشاطئ على الكورنيش وتجولت بداخله. واتجهت إلى الركن الذي شهد أروع لقاءاتي مع نوسة، فتحسست الموائد والمقاعد علني أتنسم عطرها، وعندما اتجهت طائراً بذهني إلى قلعة قايتباي.. مدت سيلفيا يدها تداعب شعري ولكن هيهات، لم تخرجني من رحلتي لمسجد سيدي بشر الذي يطل على البحر من مرتفع، فلكم جلست على أسواره أتفكر في مستقبلي المجهول وحياتي الخاوية، وكثيراً ما عرجت خلف المسجد حيث تقع المقابر فأنشد بعض الرضي والصبر.
ياه.. ها هي أشجار التين البرشومي على ساحل العجمي تتناثر على مرتفعات التلال وصبيان يرعيان الماعز ويلعبان، طفت أتذكر مراتع طفولتي وصباي.. برائحته الآزوتية يلفح وجهي نسيم البحر رطباً.. ويطير خيالي إلى محرم بك حيث بيتنا الجميل وضوضاء الباعة الجائلين، وتوقفت عند يوم سفري حيث وجه والدتي النوراني والدموع تشق أخدودين على خديها، وبحنان كبير تقبلني وتضمني إلى صدرها بحرارة،وها هو يقف محزوناً، لم أر والدي من قبل يبكي، أشعره العجز عن تحقيق آمالنا بحسرة تنطق بها نبرات صوتها الحزينة، وها هي هدير صغرى شقيقاتي تخلصت من أحضانها بمعجزة، كانت تحس بمعاناتي أكثر من شقيقتي الكبرى التي وقفت تقول: دعوه يسافر، فالسفر يحوله إلى رجل.
ودون وعي.. أزحت يد سيلفيا عن صدري ونظرت إليها في زهق فانتبهت.. ورفعت رأسها قليلاً لتلمح حبات دموع تعرف طريقها جيداً على وجهي، وانتابتني رجفة خفيفة فضمتني إلى صدرها وقالت: علام القلق يا فؤاد؟ أنت لن تذهب إلى جهنم حتى تضطرب هكذا.
أجبتها بصوت مبحوح مختنق: سيلفيا.. أنا فقط تذكرت أهلي في مصر.
- وهي تضغطني بشدة: عما قريب ستعود إليهم ومعك آلاف الماركات.
- ماذا يريدون مني مقابل هذه الثروة.
- أنا لا أفهم في السياسة، لكنهم بلا شك يعملون من أجل السلام وأمن إسرائيل.
- أنا أيضاً لا أحب السياسة ولا أفهمها، وما أذكره أن إسرائيل احتلت سيناء والضفة والجولان.. ولا أعرف بالضبط ما هي الضفة أو الجولان؟
- أعتقد أنك مصري مقامر.. لديك عزيمة المغامر وإصرار العنيد.
- ربما أكون كذلك وإلا ما جئت إلى هنا.
- قلت لي أنك جئت مديوناً.. أليس كذلك؟
- بلى.. جئت مديوناً.. وكنت أتسول مصاريف السفر ذليلاً، حتى والدي كان يعتقد بأنني سأخذله، ولم يكن يثق فيّ للحظة.
- زوج شقيقتك قلت لي أيضاً أنه آلمك كثيراً وسخر منك.
- كفى.. كفى سيلفيا.. أريد ألا أتذكره، لقد رفض وداعي في المطار وقال باستخفاف سأذهب لاستقباله بعد عدة أيام قادماً بفشله.
مشاهد الإذلال
هجمت علىّ مشاهد الإذلال التي عشتها في الإسكندرية وأنا أبحث عمن يمد لي يده بجنيهات قليلة تعينني في سفري.. فامتلأ قلبي غيظاً وغضباً.. وسمعت سيلفيا تقول: فؤاد لا تحرق أعصابك فأنت مقبل على عمل مهم يجب أن تستعد له بذهن صاف.
- نعم.. صدقت أيتها الملعونة.. وضممتها مداعباً خصلات شعرها الذهبي الناعم وقبلتها قبلة نارية طويلة وقلت: متى سنلتقي بهم في بون؟
- لم ترد علي فقد استغرقت قبلتها المجنونة وقتاً طويلاً.. ثم انتصبت جالسة فجأة وأخذت تضرب صدري بيديها وتصيح: من أي أرض أنت أيها الوحش؟
- كانت حرارتها قد ازدادت اشتعالاً.. وتعمدت أن تغرقني في مستنقع الجنس ولا أفيق من خمره أبداً.. أنوثتها أسبغت عليها الخبرة أنوثة أقوى.. وبعد أن استرحنا قليلاً أدارت قرص التلفون وتحدثت مع هاوزن.. فلم أستطع فهم حوارهما حتى انتبهت إليها تقول: ميعادنا الثامنة مساء اليوم في بون؟
نظرت في ساعة يدي وقلت: 75 كيلو متراً يقطعه الباص في ساعة تقريباً حتى بون يجب أن نصل مبكراً، أريد شراء ملابس جيدة من محلات غونتر الشهيرة.
استسلمت لمصيري.. وأغمضت عيني عن المخاطر التي تحدق بي.. فقد كنت كالتائه في الصحراء أكاد أموت عطشاً لو لم أنبش الأرض بأظافري لأشرب. وأخذت سيلفيا تسقيني جرعة زائدة من الثقة في نفسي، وتؤكد على أنني حر ولا سلطان لأحد علي إلا المال الذي سوف يتدفق من حيث لا أدري، وتمادت في إيهامي بأنني شخصية مرموقة ومهمة حتى خيل إلى أنني رئيس الجمهورية العربية المتحدة، وبيدي حل أزمة الصراع العربي الإسرائيلي في الشرق الأوسط.
عندما ركبنا الباص في بون كان نهر الراين عن يساري ينساب رقراقاً متهادياً تغطيه أحياناً أسراب من الطيور البيضاء، وكانت الخضرة تمتد يميناً ويساراً إلى مساحات شاسعة، فتبدو كبساط رائع تتخلله ألوان الزهور الزاهية في الربيع، وتظهر البيوت الريفية وسط الحقول بشكلها الجميل يبعث شعوراً بالبهجة والهدوء.. تذكرت النيل وأرض الدلتا تزهو به وترفل في أثواب بديعة من ألوان شتى، وتذكرت الريف الفقير في بلدي وقلت في نفسي إن الفارق الكبير بينه وبين الريف الألماني الذي لا يقارن يعود في الأصل- كما قال هازون- إلى حالة الحرب التي سيطرت على مصر. ولولا الحروب لكانت أجمل بقاع الأرض.
تغير المفاهيم
هذا الأمر جعلني لا أنبذ فكرة الاتصال باليهود أو التعاون معهم، إذ صور لي خيالي أنني قد أساهم في خلق مجتمع أفضل في وطني، اعتقدت أيضاً أنني صاحب رسالة يجب أن أؤديها، ولم أقنع عقلي أنني بالتعاون مع الإسرائيليين صرت جاسوساً لهم على أهلي ووطني، ولكن، تغيرت المفاهيم تماماً بعد زيارتي لسفارة إسرائيل!.
في غرفة رائعة بفندق ماجستيك.. استبدلت ملابسي وتهيأت للقاء المرتقب، وعند الباب الرئيسي كانت تقف بانتظارنا سيارة أوبل حديثة وقف بجانبها شاب مهذب فتح الباب الخلفي فركبت بجوار سيلفيا وساقاي ترتعشان في قلق لا إرادي، واخترقت السيارة شوارع بون تحملني إلى المجهول، وعندما وقفت أمام مبنى سفارة إسرائيل يعلوها العلم الأبيض ذو النجمة السداسية الزرقاء- نجمة داود- تسمرت قدماي واقشعر بدني كله.. فجذبتني سيلفيا إلى الدخل وهي تصيح في دلال: هه.. حبيبي.. ماذا جرى لك؟.. فمشيت وراءها كالمنوم.. وفي الطابق الثاني من السفارة.. استقبلتنا فتاة بوجه بشوش أزالت ابتسامتها بعض الرعب الذي جثم على صدري، وقادتنا إلى غرفة تقع في نهاية ممر طويل.
كانت غرفة مكتب لا يوجد أحد بها، وعلى الجدار كانت هناك صورة لسيدة عجوز وأخرى لرجل لم يعجبني منظره، لقد كانت العجوز تبتسم في خبث بينما هو يزم شفتيه في تحد وشماتة.
خرجت الفتاة ووضعت سيلفيا ساقاً فوق ساق وقالت بعدما أشعلت سيجارتها: فؤاد.. الأمر ليس سيئاً إلى هذا الحد.. تبدو كأنك تغرق.
أنا؟.. نطقتها وكنت في الحقيقة أرتجف بشدة وتصطك أسناني في اضطراب.. ويبدو أن سيلفيا أرادت تهدئتي فقالت بصوت محبب مريح:
- بإمكانك أن تنصرف الآن.. لن يمنعك أحد.
- تفضل.. مستر فؤاد.
هكذا نطقت باسمي الفتاة التي استقبلتنا وقد دخلت وبين يديها صينية تحمل أطباق الحلوى وأكواب الشاي.. وفي إثرها دخل رجل أسمر شرقي الملامح وبعربية فصيحة صاح كأنه يعرفني منذ أمد: أهلاً أهلاً يا فؤاد.. كيف حالك؟.
صافحني بحرارة وهو يقول: أنا مصري مثلك، إسكندراني، واسمي إبراهيم يعقوب، أرجو أن تعتبر نفسك في بيتك هنا.
تمتمت ببضع كلمات غير مفهومة فابتسم ورمق سيلفيا بنظرة سريعة فقامت على الفور وقالت لي: سأعود حالاً.
وبينما كان يعد ويرتب بعض أوراقه كنت أطرقع أصابعي وبدأ التوتر جلياً على وجهي، ولم يتركني إبراهيم كثيراً إذ التفت إلى كلية وقال: حدثني عنك هاوزن كثيراً.. أما سيلفيا فقالت عنك قصائد.
ثم أضاف: ماذا كنت تعمل في كولون؟
- في مصنع راينهارد للبويات.
- كم كان راتبك تقريباً؟
- كنت أوفر ألف مارك من بقية راتبي.
- أتريد أن نلف وندور أم نتحدث صراحة حتى نختصر المسافة والوقت؟
- أنا لا أفهم شيئاً.
فؤاد.. أنت شاب ذكي وتعرف كيف تستغل المواقف لصالحك، وأنا أعرف أنك تمر بظروف سيئة في مصر وهنا أيضاً، هاوزن قال لي صراحة أنك مغامر عنيد.. رفضت العمل معه في تهريب السلع إلى ألمانيا الشرقية لأنك أردت عملاً أهم وأكبر.. وبالتالي عائداً مادياً يتناسب وأحلامك وطموحاتك أليست هذه حقيقة؟.
- بلى.
- إذن.. عليك أن تعلم جيداً أنه برغم التوتر في الشرق الأوسط والصراع المرير ما بين إسرائيل والدول العربية، فليس معنى وجودك هنا أننا نريدك جاسوساً لا، نحن لا نريدك أن تخون بلدك.. فأنا شخصياً لا أريد أن أتعامل مع الخونة، ويبدو أن هاوزن كذب عليك كثيراً عندما أكد أنك قد تكسب نصف مليون مارك بتعاملك معنا، نعم، كذب هاوزن فهذا مبلغ تافه، ولأنك مغامر تبحث عن المال والمجد، فقد تكسب مليون مارك في لحظة خاطفة، إن النقود ليست بذات قيمة عندنا، نحن فقط نحب المجتهدين، ونعطي بسخاء وبدون حساب إذا ما تأكد لدينا أنك مخلص في تعاونك معنا.
شتات فكري
قلت له وأنا أتلعثم ولا أستطيع جمع شتات فكري: أنا مستعد للتعاون معكم على ألا أصاب بضرر أو..
- أجبا مسرعاً قبل أن أكمل حديثي لا.. لا.. لن يؤدي ذلك إلى إلحاق أي ضرر بك.. مطلقاً.. نحن نريدك صديقاً ونسعى وبشدة للمحافظة على أصدقائنا في أي موقع وفي أي مكان.
قلت وقد تجرأت لفتح مجالات حوار مختلفة: ماذا إذن تريدون مني؟
- نريد أن نتعرف عليك أكثر.
- ولعدة ساعات سألني إبراهيم عشرات الأسئلة عن أهلي وأقاربي وأصدقائي.. وعن الإسكندرية والحي الذي أسكن به، وسلمني ملفاً به عدة ورقات طلب مني أن أكتب سجل حياتي وأجيب عن الأسئلة المكتوبة باللغة العربية، وجاءني بخريطة كبيرة للإسكندرية علقها على الحائط وطلب مني أن أحدد موقع منزلي، ثم علق خريطة أخرى لميناء الإسكندرية وطلب مني أن أحدد له بعض المواقع ففعلت.
خرجت من السفارة الإسرائيلية منهك القوى وكأنني كنت أحارب في معركة شرسة، كنت أبحث عن سريري لأرتمي عليه، وتوقعت أن أجد سيلفيا تنتظرني بالحجرة لكنها لم تكن موجودة. فاستغرقت في نوم طويل وأفقت في الصباح أنتظر اتصالاً من سيلفيا أو إبراهيم فلم يحدث، حيث طلب مني إبراهيم أن أظل بالفندق ولا أغادر بون حتى يتصل بي.. ومرت علي خمسة أيام طويلة دون أن يتصل بي أحد، وكلما طلبت هاوزن في كولون لا أجده، وفجأة طرق الباب أحد موظفي الفندق وأخبرني أنه موظف بالحسابات.. وبدماثة خلق أخبرني أنني مدين للفندق بمبلغ 1600 مارك ويجب الإسراع في السداد.
ارتديت ملابسي وركبت سيارة إلى السفارة الإسرائيلية.. ولكن موظفة الاستعلامات أتت من الداخل وبيده المظروف بداخله مائتا مارك وقالت إن إبراهيم في مهمة وسيعود خلال أيام.
عدت إلى الفندق لأحصي المبلغ كله الذي أملكه فوجدته يقل عن الخمسمائة مارك.. وقلت في نفسي.. لابد أن أتصرف وأسدد الفندق وإلا فستقبض علي الشرطة. وتعجبت.. ذلك أن سيلفيا أكدت لي أنني لن أدفع حساب الفندق، فماذا حدث إذن؟ وأين سيلفيا هي الأخرى؟
استلقيت على سريري أفكر في هذا المأزق وفي آلاف الماركات والدولارات التي وعدت بها.. واضطربت لسوء موقفي بسبب قلة النقود معي.. لكني لازمت الفندق ولم أغادره انتظاراً لاتصال إبراهيم أو سيلفيا. وبعدما فقدت الأمل فيهما.. جاءتني مكالمة من السفارة الإسرائيلية تطلب مني أن أذهب إليها حالاً.
صناعة الجاسوس
وهناك تعرفت على أبو علمون الذي اعتذر لسفر إبراهيم المفاجئ.. واصطحبني إلى غرفة بها صفوف من المقاعد.. ولما أطفأ الأنوار وأدار آلة عرض شاهدت أنواعاً مختلفة من الدبابات والمدرعات والسيارات المجنزرة، وشرع أبو علمون في تلقيني كيفية التمييز بينها وعندما سألته لماذا؟ أجابني بأن هذا هو صميم عملي الذي سيكون في ميناء الإسكندرية وسألني بحزم: ألست مغامراً تبحث عن النقود ؟
أجبت في ذعر: بلى.. ولكن.
قاطعني بحسم: نحن نريد أن نمنع الحرب بين مصر وإسرائيل. والشرق الأوسط الآن منطقة ملغومة وسوف ندفع لك مليون مارك- فوراً- إذا عرفنا بواسطتك أن مصر ستحارب.
- وكيف سأعرف؟
- من السهل جداً أن تعرف ذلك.. فإن تدفق الأسلحة من الاتحاد السوفييتي إلى مصر لدليل قوي على نية الحرب عند المصريين، كذلك حركة تنقلات وحدات الجيش المصري.. وما عليك إلا أن تكون عيناً لنا وأذناً، عيناً على ميناء الإسكندرية الذي يستقبل السفن المحملة بالأسلحة والمعدات.. وأذناً لنا نسمع بها ما يدور سراً في الجيش المصري.. كان جسدي يرتعش وحل اضطراب شديد بأعضائي.. الآن.. الآن فقط عرفت مهمتي بالضبط. استغرق أبو علمون في الحديث الذي كان يطعمه بالإغراءات المادية.. وبالخير الذي سينصب فوق رأسي بتعاوني معهم.. ويتعمد أن يذكرني كل لحظة بظروفي المعيشية الصعبة.. وبأنني لست في محطة باص ولكن في سفارة إسرائيل. كانت نبرة التهديد واضحة ومخيفة تحمل خلفها الموت والدمار، وتعقبها نبرة مغلفة بالوعود البراقة، فحوصرت، ورفعت الراية البيضاء في النهاية.. دون أن أحسب حساباً لمصير أسود ينتظرني،فقد ملئت ثقة بأنني في مأمن كامل معهم.
سهرة العمر
أعاد أبو علمون تشغيل آلة العرض الـ16 مليمتراً.. وأخذ يشرح لي الكثير عن الأسلحة المختلفة والمعدات العسكرية.. وبقيت طوال اليوم في السفارة الإسرائيلية أتدرب على تحديد أنواع المعدات وموديلاتها.
وعندما عدت إلى الفندق- قامت كاتيا التي رافقتني من السفارة، بدفع المتأخرات وصعدت معي إلى غرفتي وقالت لي أنها ستصاحبني إلى سهرة خاصة ستعجبني.
أبدلت ملابسي وخرجت معها تقود سيارتها وهي تغني أغنية لأم كلثوم فصرخت بها: أنت فلسطينية؟
نظرت إلى ثم استمرت تردد مقاطع الأغنية وتخترق شوارع بون.. حتى وصلنا إلى شارع تصطف على رصيفيه أشجار البونسيانا التي تغطيها الزهور الوردية البديعة وقالت كاتيا: أنا مغربية من كازا بلانكا.
وأضافت قبلما نغادر السيارة: ستقضي هنا سهرة العمر..دلفنا إلى فيلا من طابقين بلا حراسة، وعندما اجتزنا الحديقة سمعت ضحكات نسائية تدور وانفتح الباب عن رجال ونساء لا أعرفهم ولا يعرفونني، لكن بعضهم أومأ تحية لكاتيا، وبعد دقائق جاءتني زجاجات الخمور أنتقي منها ما أريد، ودارت عجلة المجون وصاح البعض في اندهاش وهم يرون فتاة صغيرة شقراء، لا تتعدى التاسعة عشرة، ترقص وتخلع ملابسها.. وجاء شاب فعل مثلها.. واستمر العرض الماجن حتى النهاية.
عدت إلى حجرتي لاستعد للقاء المرتقب مع إبراهيم فأخبرتني كاتيا أنني سأنتقل إلى إحدى الشقق لاستكمال الدورة المكثفة، وفي الشقة الجديدة على أطراف المدينة جاء إبراهيم.. وبدأ امتحانه لي بأن أطلعني على صور لبعض المعدات وطلب مني التمييز بينها، ودربني على ذلك كثيراً، ثم أفاض في شرح كيفية اصطياد المعلومات العسكرية.
معسكر مغلق
وفي شبه معسكر مغلق أقمت في الشقة مع كاتيا، معظم النهار في دورات تدريبية مكثفة، أما الليل فهو ملك كاتيا نمضيه معاً في شرب الخمر وتعاطي الجنس وننام آخر الليل سكارى.
وبعد أسبوعين تقريباً كنت قد تعلمت الكثير، ودربت على كيفية الحصول على ما أريد من معلومات من العسكريين وتعلمت الكتابة على الورق المشبع بالمواد الكيماوية وذلك بكتابة خطاب عادي،ثم استخدم الكربون المعد للكتابة السرية لأكتب الرسالة المطلوبة بين السطور، ثم أمرر الرسالة على بخار براد الشاي لثلاث دقائق، فتتلاشى آثار الضغط ويصبح شكلها كالرسالة العادية بعد وضعها بين صفحات كتاب كبيرة لعدة دقائق.
كانت هذه هي طريقة الكتابة السرية التي دربت عليها وأجدتها عدة مرات، وهكذا أصبحت جاسوساً لإسرائيل دون أن أقاوم، أو أسعى في محاولة لأن أقاوم، ولم أستطع أن أتراجع، فقد أغرقوني بالنقود والخمر والنساء الفاتنات، وأحاطوني بكل الإغراءات فسقطت ولم أفق.
وفاة ناصر
لكن بعد عدة أيام،وفي أواخر سبتمبر1970حدثت كارثة زلزلتني إذ شاهدت في التلفزيون مشاهد عن مصر، وعندما دققت كثيراً- عرفت أن جمال عبدالناصر قد مات..ساعتها صرخت دون وعي.. وجاءت كاتيا مسرعة من الحمام وأغلقت التلفزيون وعندما قفزتُ لأفتحه وأنا ألعنها حاولت منعي، فلم أشعر إلا ويدي تنهال ضرباً على وجهها.. وظللت أضربها وهي تصرخ، ولما اشتد ضربي لها فتحت باب الشقة وخرجت هاربة من جنوني، وبعد نصف الساعة فوجئت بإبراهيم أمامي، يصوب مسدسه نحوي ومن خلفه كان هناك اثنان لا أعرفهما، يحملان رشاشات عوزي الأوتوماتيكية، وكان الغضب يطفح على وجههم جميعاً، وأدركت أنها لحظة النهاية !.
حصــار
كنت منكفئاً على وجهي أبكي بصوت مرتفع.. تحاصرني انفعالات شتى وأنا أتخيل مدى حقارتي ووضاعتي.. وامتدت نحوي يد إبراهيم- ضابط المخابرات الإسرائيلي- في محاولة لتهدئتي.. فصرخت في وجهه أن يدعني وشأني، وانفجرت باكياً كأنما أبكي أبي، وملأني شعور غريب، شعور بالضعف والانكسار والوحدة، واجتاحني إحساس بالضياع. وقال إبراهيم: نحن نقدر أحزانك.. لقد كان ناصر عظيماً.
وأردف بفخر: هناك اتصالات دولية لإرسال وفد إسرائيلي للتعزية.. إنه زعيم عربي لن تنجب مصر مثله، لقد استشهد وهو يكافح لاحتواء أزمة الفلسطينيين في الأردن. علا بكائي ولم أستطع كتمان موجات الشجن وسمعت إبراهيم يقول في التلفون:أرسلوا هيمبل حالاً ومعه أدواته.. يفضل ذلك وعلى وجه السرعة، إنها ستساعدنا كثيراً. دقائق وجاء الدكتور هيمبل.. نظر في وجهي سريعاً وهو يضع حقيبته على السرير، وفتحها باهتمام وأخرج سماعته الطبية،ولما اقترب مني دفعته بقوة فسقط على الأرض وحاولت الهرب من الحجرة، لكن إبراهيم وحارسيه كانوا قد تمكنوا مني، وأسرع هيمبل وملأ السرنجة بسائل أصفر، وبينما كنت أصرخ وأحاول الإفلات كانوا يشلون حركتي.. وحقنني هيمبل في الوريد ورأيت بعدها خيالات أشباح تلف حولي، وعندما أفقت لمحت وجهها الجميل يبتسم، ويدها الرقيقة تداعب شعيرات صدري فلم أكن أتصور أنها هي بلحمها وشحمها وعندما نطقت باسمها صاحت وهي تحتضنني:حبيبي.. حبيبي.. !.
نظرت حولي فلم أجد سواها.. ورمقتها بنظرة عتاب فقبلتني قبلة سريعة ملأى بالحنان وقالت:جئت لأجلك حالاً من إسرائيل.. ولن أتركك وحدك أبداً.. احتوتني سيلفيا بحنانها، ومهدت الطريق لأبو علمون الذي جاءني منتفخ الأوداج يبدو كديك شركسي، وبعد أن جلس قليلاً ربت على كتفي وقال: فؤاد، بوفاة ناصر سنكون أكثر احتياجاً إليك، فالأمور في مصر غير واضحة الآن، لقد كنا نعرف قدرات ناصر جيداً ولكن بمجيء آخر ستكون هناك شكوك في نياته، وعلى ذلك فاحتمالات الحرب مع مصر قائمة، وعلينا أن نتعاون معاً لنحبط الصدام المسلح ونعمل على إفشاله.
وبعد انصراف أبو علمون جاء إبراهيم بخطوة الواثق وقال لي: إنها فرصة العمر بالنسبة إليك.. ويجب أن تنتهزها وإلا ضاعت منك إلى الأبد، إنها لحظة رائعة يا فؤاد عندما نخبرك أنك حصلت على مليون مارك ألماني، لا بد أن تتحرك فهناك من ينتظر هذه الفرصة التي منحناها لك.. وقبل أن ينصرف ناولني مظروفاً بداخله ألفا مارك.