خصوصية المفردة القرآنية (14): حليمة السعدية في السيرة النبوية.. حقيقة أم خرافة؟!

profile
د.رعد هادي جبارة الأمين العام للمجمع القرآني الدولي
  • clock 21 سبتمبر 2024, 11:04:20 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عندما استعرضنا خلال سلسلة البحوث الـ13 الماضية قضية المفردات القرآنية توصّلنا الى نتيجة مفادها أن هنالك خصوصية للمفردة القرآنية تُميّزها عن غيرها من المفردات والكلمات.
 
وفي هذا البحث؛ نسلّط الضوء على كلمة وردت في سورتين قرآنيتين من السور الطوال [البقرة والنساء] هي الرَّضاعة بفتح الراء وتشديدها.

الرَضاعة والرِضاعة

فالفعل الماضي من الجذر المفتوح الأول (ر ض ع) هو [رَضَعَ] بفتح الحروف الثلاثة كلها، مما يعني أن الاسم منه عادة هو [رِضاعة] بالراء المكسورة، وهذا ما نجده في أفعال أُخرى مفتوحة الحرف الأول (فاء الفعل) مثل:[ رَعى- رَمى- رَوى- هَدى- هَوى-سقى- جَعل- كَتب- وَلد- قَرأ-وَفدَ-سبح.....] وأمثالها، فيكون المفعول المطلق والاسم منها: [رِعاية/رِماية/ رِواية/ هِداية/ هِواية/سِقاية/ جِعالة/ كِتابة/ وِلادة/ قِراءة/و.....] وكلها تبدأ بحرف مكسور.

وعلى هذا الأساس أيضا، نجد الفعل (رَضَعَ) عندما يكون خارج النص القرآني يُلفَظ(رِضاعة) بكسر الراء. أما ضمن النص القرآني فقد وجدناه في الآية 233 من سورة البقرة هكذا:

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَة}.

هنا: راء كلمة "الرَّضاعة" مفتوحة مشددة لكون الراء من الحروف الشمسية طبعا.

وهكذا في الآية 23 من سورة النساء نقرأ:

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}

وهنا أيضاً [الرَّضَاعَةِ] بفتح الراء.
 
لكن لو راجعنا عشرات الروايات والنصوص الأخرى الواردة فيها كلمة (الرضاعة) نجدها كلها تقريبا مفتوحة الراء المشددة وهو الوضع المتعارف و الطبيعي.
 
ولهذه الكلمة اشتقاقات كثيرة في آيات عديدة في القرآن منها: [يرضعن/ الرضاعة/ تسترضع/ أرضعنكم/ مرضعة/ أرضعت/ أرضعيه/ المراضع/ أرضعنا/ وأخيراً: فسترضع] ولم نورد نصوص الآيات تحاشيا لطول المقال، وهي معروفة.

موسى (ع) ومُرضعته

ويغلب استخدام الكلمة (رضع) ومشتقاتها في القرآن لأحد الأنبياء في قصته، وهو موسى (ع)، حيث إن الله أمر أمّه بأن تلقيه في اليمّ ففعلت وذهبت أخته عند الساحل لترى إلى أين يؤول مصير أخيها؟ ومن يلتقطه؟ وإذا بها ترى فرعون وزوجته آسية بنت مزاحم يلتقطانه من النيل و يتخذانه ابناً لهما بالتبنّي.

لكن هذا الطفل الرضيع سرعان ما جاع واحتاج إلى الحليب وبدأ يبكي، فأقنعتهم أخته بأن يعطوه لامرأة تحنو عليه، وترضعه لهم، بعد أن حرّم الله عليه المراضع كلها. فوافق فرعون وزوجته على أن ترضعه هذه المرأة وهي أمّه في الحقيقة {فرددناه إليها كي تقر عينها ولا تحزن}.

حليمة السعدية

أما بالنسبة لنبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- فثمة رأيان في قضية رضاعته.

فهناك من قال إن جده عبد المطلب (رض) قرر أن يعطيه لحليمة السعدية وهي امرأة صالحة من بني سعد بن كعب كي ترضعه ويتربّى في كنفها ويغدو فصيح اللسان.

ومنَ الثّابتِ تاريخيّاً أنَّ حليمةَ السّعديّةَ أرضعَت الرّسولَ الأكرمَ (ص) والرّواياتُ في هذا الشّأنِ كثيرةٌ ومُتضافرةٌ، وقد تكونُ هناكَ اختلافاتٌ بينَ الرّواياتِ في بعضِ تفاصيلِها، إلّا أنّها مُتّفقةٌ جميعُها على أصلِ وقوعِ الرّضاع، ومَن شكّكَ في هذا الأمرِ لم يرتكِز في تشكيكِه على رواياتٍ تاريخيّةٍ نافيةٍ لهذا الحدثِ، وإنّما ينفيه اعتماداً على كونِ النّبيّ لا يمكنُ أن ترضعه كافرة!!!

ولابد من التساؤل: مَن قال إنَّ حليمةَ كانَت كافرةً؟ والافتراضُ أنَّ كلَّ أهلِ الجاهليّةِ كانوا مُنكرينَ للهِ تعالى غيرُ صحيحٍ لوجودِ مَن كانَ منهم على الحنفيّةِ ودينِ إبراهيمَ عليه السّلام، فما المانعُ أن تكونَ حليمةُ مِن بينِهم؟ وبخاصّةٍ لم يذكُر لنا التّاريخُ أنّها كانَت عابدةً للأصنام.

فقَد نقلَ ابنُ شهرِآشوبَ في مناقبِه أنَّ عبدَ المُطّلبِ (رض) هوَ الذي أرسلَ خلفَ حليمةَ السّعديّةِ فجاءَت إلى مكّةَ مِن أجلِ إرضاعِ النّبيّ (ص)، فلا يُعقلُ أن يُكلّفَها بذلكَ وهوَ يعلمُ موقعَ حفيدِه وما سيكونُ عليهِ أمرُه وشأنُه، وعبدُ المُطّلبِ (رض) نفسُه لم يعبُد صنماً ولم يُشرِك باللهِ فمنَ الطّبيعيّ أن يبحثَ عَن مُرضعةٍ خاصّةٍ ليسَت كبقيّةِ النّساء.
 
والأمر الآخرُ هوَ أنه حتّى لو تنزّلنا وسلّمنا بكونِها لم تكن مؤمنة آنذاك فلا يمكنُ أن نُسلّمَ بتأثيرِها على النّبيّ (ص) وذلكَ لكونِ التّأثيرِ لا يتحقّقُ إلّا بقوّةِ المُؤثّرِ وضعفِ المُتأثّرِ، وفي حالةِ العلاقةِ بينَ حليمة والنّبي (ص) فإنَّ تأثيرَ النّبيّ (ص) هوَ الأقوى وليسَ العكسُ، وقَد ثبتَ ذلكَ فعلاً.

ففي اللّحظةِ التي أخذَت فيها حليمةُ النّبيَّ (ص) بيدِها أثّرَ ذلكَ في بدنِها بالكامل، فوجدت أنه قد تحسّنَت صحّتُها وقويَ بدنُها وكثُرَ لبنُها؛ فالثّديُ الذي كانَ لا يكاد يُغذّي طفلاً واحداً أصبحَ يُشبعُ طفلين، ولم يتوقَّف التّأثيرُ عليها وحدَها وإنّما شملَ كلّ ما هوَ مرتبطٌ بها فكثُرَ عندَها الخيرُ ببركةِ النّبيّ الأكرمِ (ص)، وقد التفتَت هيَ بنفسِها إلى أنّهُ لم يكُن طفلاً عاديّاً مثلَ بقيّةِ الأطفالِ (موقع العتبة الحسينية).

وينقل ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) عن حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية: "فجئت به رحلي فأقبل علي ثدياي بما شاءا من لبن، فشرب محمد حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب وشربتُ حتى روينا، فبتنا بخير ....فقال صاحبى حين أصبحنا: يا حليمة والله إنى لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه؟ ...فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين".

لكن هناك من ينفي إرسال النبي (ص) إلى حليمة السعدية وإرضاعها له لأنها لم تكن مسلمة بعدُ ولا يجوز أن ترضع طفلاً سيكون خاتم الأنبياء.

وهؤلاء المعترضون يقولون:

١- هل حقاً كانت قريش ترسل أبنائها للقبائل المحيطة بمكة لصفاء اللسان أو لأي سبب آخر؟

٢- هل رسول الله وخير من نطق بالضاد بحاجة لمن يقوّم لسانه؟ أم أن جدّه سيد مكة وزعيمها عبد المطلب يجهل من هو هذا المولود ليتركه هكذا؟

٣- مَن مِن رجالات قريش وقادتها كانوا يرسلون أولادهم ليتربوا ويرضعوا من خارج قريش؟

ويضيف منكروا حليمة: "فالتاريخ لم يرو اسم شخص آخر إلا اسم النبي محمد (ص) كراضع بهذا الشكل.ولا نعرف مَن هم إخوته من الرضاعة. ولا يوجد من مرضعة للنبي (ص) إلا أمه، ولا أحد ينور أفكارنا في هذه القضية إلا القرآن، قال الله تعالى:

(وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ).

فهذه الآية وإن كانت في موسى (ع) لكن من خلال سياقها يمكننا أن نستدل منها على بقية الأنبياء فلا يكفل النبي في الرضاعة إلا أهل بيته فهم له ناصحون. فقضية إرضاع حليمة للنبي (ص) خرافة شأنها شأن أكذوبة ورقة بن نوفل الكاهن.

وردّاً على هذا نقول:

1- لا توجد رواية تدل على عدم إرضاع حليمة للنبي (ص) وأن أمه آمنة هي التي أرضعته فقط.

2- إن الله أمر بوضع موسی (ع) فی الیم لينجو من القتل فالله تکفّل بحمایته، وحرّم على موسى المراضع لیرجعه لأمه.

3- لا يصح الجزم بعدم إرضاع حليمة للنبي (ص) و تعميم حالة موسى على الرسول (ص). فلكل نبي وضعه:

  • نبينا محمد (ص) كان له معجزة الإسراء والمعراج ولم تكن لغيره.
  • ونبينا محمد انشق له القمر ولم ينشق لغيره.
  • ونبينا محمد توفي أبوه وهو في بطن أمه ولم يكن هكذا غيره.
  • ونبينا محمد تزوج 9 زوجات أو أكثر ولم يكن ذلك لغيره.
  • وعيسى (ع) يختلف عن بقية الأنبياء في أموره ومعاجزه ونجاته من القتل والصلب.
  • ونوح (ع) يختلف في طول عمره وشؤونه الأخرى عن غيره.
  • وإبراهيم (ع) كذلك له خصائصه وكونه خليل الله وفي نجاته من النار الكبرى.
  • والنبي يوسف (ع) ماتت أمه في النفاس ولم ترضعه، وربته خالته، وسجن ثم صار وزيرا للملك في حينه.

4- إن إخوة النبي (ص) - يعنى من الرضاعة -هم عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة بنت الحارث وهي الشيماء، وذكروا أنها كانت تحضن رسول الله ﷺ وآله.

إذن لا يمكن تعميم حالة موسى (ع) على كل الأنبياء -عليهم السلام- لا في الرضاعة ولا في بقية الأمور.

کذلک هناك أحداث وقعت بعد أن نال نبينا النبوة والرسالة حيث کانت له لقاءات مع حلیمة رواها الصحابة والمورخون وأصحاب الصحاح.

وللتوسع أكثر في هذا الموضوع انظر ماكتبه:

  • ابن كثير في "البداية والنهاية" 
    والسيد عبد الرزاق المقرم في "حياة الإمام الحسن ع" 
    والسيد جعفر مرتضى العاملي في "الصحيح من سيرة النبي محمد ص "
    وما كتبه "مركز الأبحاث العقائدية" وهو تحت رعاية مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني:  https://aqaed.net/faq/8426/

وختاما نقول كما قال عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء 85).

التعليقات (0)