- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
سعيد الشهابي يكتب: الدولة الحديثة بين المبدئية والبراغماتية
سعيد الشهابي يكتب: الدولة الحديثة بين المبدئية والبراغماتية
- 21 أغسطس 2023, 4:39:03 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ثمة صراع متواصل في دهاليز صنّاع السياسة في الدول التي تمتلك مشاريع أيديولوجية أو سياسية عميقة. وهو صراع بين المبدأ والمصلحة، وبين ما يعتبره البعض «مثالية» او «ديماغوجية» والبراغماتية أو الواقعية.
وثمة مصاديق غير قليلة لهذا النقاش تتجسد في العلاقات بين الدول ذات التوجهات التوسعية، أي التي تحمل مشروعا فكريا أو سياسيا ترغب أن يتجاوز حدودها. فأغلب دول العالم محكوم بأنظمة تكنوقراطية تمارس الحكم في إطار ما يمكن تحقيقه لبلدانها من تطور بشري واستقرار سياسي ونمو اقتصادي، وليس لديها مشروع خارج حدودها الإقليمية. وهنا تتضافر جهود كافة مؤسسات الدولة لضمان تحقق ذلك. فأجهزة الدولة الدبلوماسية وكذلك الأمنية تتعاون في ما بينها لضمان تحقيق تلك التطلعات. أما في الدول ذات الطموح الأيديولوجي أو السياسي فكثيرا ما يحتدم الصراع، ولنقل المنافسة، بين الأجنحة الهادفة لضمان تحقق مهماتها. في هذه الدول لا تنحصر أدوار الأجهزة الأمنية بالقضايا المتصلة بأمن البلاد، بل كثيرا ما تكون هي التي تتبنى المشروع السياسي أو الأيديولوجي للنخبة الحاكمة التي تكون في العادة خليطا بين المبدئيين والتكنوقراط. أجهزة الأمن في الدول ذات المشاريع الأيديولوجية هي التي تحتضن مبادئ النظام وقيمه وتسعى لضمان انسجام السياسات الخارجية مع تلك القيم. أليس هذا ما تقوم به تلك الأجهزة في الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والصين وإيران. وتمثل الولايات المتحدة الأمريكية كبرى الدول التي تحتضن أيديولوجيا سياسية تسعى لفرضها على العالم بكافة الوسائل.
ثمة نقطة ذات صلة وهي أن تطوير التكنولوجيا في هذه البلدان يحدث تحت إشراف أجهزة الأمن والمخابرات. فمثلا طوّرت وكالة المخابرات الأمريكية (سي آي أيه) أجهزة الكومبيوتر الشخصية منذ الخمسينيات من القرن الماضي بينما لم تنزل إلى الأسواق إلا في الثمانينيات. فكل شيء لدى تلك الدول مسخّر لخدمة الأيديولوجيا، بما في ذلك السياسات الخارجية وأجهزة الأمن والبحوث العلمية الموجّهة.
في الأسبوع الماضي كانت هناك عناوين عديدة تستحق التوقف لاستيضاح المصاديق المذكورة. فقد تردّد في واشنطن عن احتمال التوصل لتوافق ثلاثي بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية و«إسرائيل». وخاض المحللون في تفصيلات كثيرة حول مدى إمكان تحقق ذلك وما يتوجب على كل من هذه الأطراف تقديمه من تنازلات لكي تتحقق المعادلة الثلاثية. هنا تتموضع الأطراف وفق مصالحها الوطنية وما يمكن أن تحققه من مكاسب تعمّق قوتها ونفوذها. وهذا ليس أمرا جديدا، بل هو مسار تاريخي طويل منذ عهد الأغريق حتى الوقت الحاضر الذي نظّر له سياسيون كبار مثل مارتن لوثر وهنري كيسنجر في حكومة نيكسون وفوكوياما وسواهم. وهنا تظهر الأطروحات التي توصف بأنها «مبدئية» من قبل أصحابها أو «ديماغوجية» من قبل البعض الآخر. فترتفع الأصوات من بعض الزوايا. فيعلو صوت هوغو غروتيوس، المفكر الهولندي ذي النزعة الإنسانية في القرن السابع عشر الذي وضع أسس القانون الدولي، والرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذي كان المنظّر لما سمي وقتها «عصبة الأمم» ومن ورثها من الليبراليين. وتجدر الإشارة إلى أن حقبة الحرب الباردة كانت الأيديولوجيا تحظى خلالها بأولوية في سياسات الدول المعنية بالصراع بين الشرق والغرب آنذاك. وعندما حدثت الثورة الإسلامية في إيران كان واضحا أن الأيديولوجيا لعبت دورا في صناعة الثورة أولا وفي صياغة سياستها الخارجية على أساس «مبادئ الثورة» ثانيا، واتهمت آنذاك بما سمي «تصدير الثورة» ثالثا. فهل ما تزال الأيديولوجيا تحظى بذلك الموقع في إيران؟
في الدول ذات الطموح الأيديولوجي أو السياسي يحتدم الصراع، بين الأجنحة الهادفة لضمان تحقق مهماتها. في هذه الدول لا تنحصر أدوار الأجهزة الأمنية بالقضايا المتصلة بأمن البلاد، بل كثيرا ما تكون هي التي تتبنى المشروع السياسي أو الأيديولوجي للنخبة الحاكمة التي تكون في العادة خليطا بين المبدئيين والتكنوقراط
هذا سؤال يحتاج لنقاش منفصل بلحاظ السياسات الجديدة التي تمخضت منذ صعود الرئيس الحالي للحكم قبل عامين، وما عانته الجمهورية الإسلامية من ضغوط سياسية واقتصادية ربما أدّت لتغييرات في سياساتها ومواقفها.
في الحقبة الحالية ترتفع أصوات «البراغماتيين» في أغلب البلدان، بمعنى أن الحقبة الحالية استقرت الأوضاع فيها نسبيا لصالح القوى التقليدية التي تسعى للاحتفاظ بنفوذها على الساحة الدولية والتصدي لمحاولات التغيير أيا كان شكلها أو اتجاهها. ومن مصاديق ذلك أن الرئيس جو بايدن الذي خاض معركته الانتخابية بوعود تتضمن مواقف «مبدئية» من بينها الضغط على «إسرائيل» للتوقف عن بناء المستوطنات، والقبول بما يسمى حل الدولتين، وقد تراجع عن مواقفه كثيرا. كان يخطط لأن يتحول الصراع التقليدي على النفوذ إلى صراع بين ما يسميه الديمقراطية والاستبداد، أي أن أمريكا وحلفاءها «الديمقراطيين» سوف يتصدون للاستبداد الذي تمثله، في نظرهم، روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران. وعندما اجتاحت القوات الروسية أوكرانيا سعى لتعبئة «القوى الديمقراطية» ضد روسيا وسعى لترويج صورة فلاديمير بوتين بأنه الشيطان الذي يجب أن يتحد العالم لمواجهته، وسعى لتعبئة العالم ضده، من الدول الغربية إلى دول العالم الجنوبي: آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. ولكن هذه الدول لم تستجب لبايدن ففشل في تشكيل تحالف دولي حقيقي. ومع اعتقاد الكثير من هذه الدول بخطأ بوتين في اجتياح اوكرانيا إلا أنها فضّلت عدم الدخول في صراع طويل الأمد يعيد أجواء الحرب الباردة. كما لم ينجح الرئيس الأمريكي في محاولاته تشكيل جبهة صراع بين الديمقراطيات والأنظمة الشمولية. وحتى «إسرائيل» أصبحت تتراجع تدريجيا في الممارسة الديمقراطية خصوصا بعد أن دخل نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف في صراع مع القضاء. كما أن الهند لم تعد تعتبر كبرى الديمقراطيات في العالم بعد أن دخل رئيس وزرائها نياندرا مودي وحزبه المتطرف في صراع مع الآخرين خصوصا المسلمين، بدلا من تطوير المؤسسات الديمقراطية المؤسسة على المواطنة المتساوية وإقامة حكم القانون.
ونظرا لتراجع خيار الأيديولوجيا في المشروع السياسي للرئيس الامريكي فقد بدأ النجم الأمريكي في الأفول. ومنذ بداية العام أصبحت منطقة الشرق الأوسط مفتوحة لتمدد النفوذ الصيني، خصوصا بعد أن استطاعت الصين التوسط بين إيران والسعودية. وكانت هناك محاولة من ولي العهد السعودي للتعامل مع الصين بعملتها لشراء النفط، الأمر الذي يؤسس لتجاوز الدولار في المعاملات الدولية. ولمواجهة هذه التطورات سعى بايدن لطرح مبادرة تحفظ النفوذ الامريكي، فأرسل مبعوثيه في مهمة صعبة، لإقناع السعودية بالتطبيع مع «إسرائيل» على غرار الإمارات والبحرين والمغرب والسودان والأردن ومصر، ووقف التعاون السياسي الوثيق مع الصين. وفي مقابل ذلك ستحصل السعودية على المزيد من الأسلحة الأمريكية وتسهيل تحولها إلى دولة نووية، الأمر الذي كان متلكئا من قبل. وفي المقابل ستحصل السعودية على ضمانات من «إسرائيل» بوقف بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية ودعم مشروع الدولتين. أما «إسرائيل» فسوف تكون العلاقات مع السعودية نقطة قوة جوهرية في علاقاتها مع العالمين العربي والإسلامي، كما ستحصل على ضمانات أمنية إضافية من الولايات المتحدة. فإذا حدث ذلك، في نظر بايدن، فإنه سيضعف موقف إيران، وقد يدفعها لإعادة النظر في سياساتها تجاه أمريكا. إنها خطط يمارسها الرئيس الأمريكي حتى ليبدو وكأنه بدأ يمارس لعبة الشطرنج التي تسمح له بتدوير القطع وفق خطته. وفات بايدن أن هناك قوى إقليمية عديدة لديها «مبادئ وقيم» وأن بعضها يعتقد أن التشبث بتلك المبادئ والقيم يمثل عين «البراغماتية».
ليس مستبعدا في خضم هذه الفسيفساء السياسية، الإقليمية والدولية، حدوث ما ليس في الحسبان، خصوصا مع وجود حالة من التوتر الشديد على الحدود بين لبنان وفلسطين، من شأنها أن تؤدي الى انفجار الوضع وربما حدوث حرب إقليمية محدودة. الواضح أن أغلب الفرقاء مستعد للتخلي عن قدر من المبدئية في مقابل تحقيق ما يعتبره «مصلحة» له. أما المبدئيون الأصليون فهم الذين يستندون إلى ثوابت إلهية تغنيهم عن الحاجة للمساومة على تلك المبادئ والقيم وتدفعهم للثبات والصمود بوجه تصاعد العدوان من أعداء الأمة. الأمر المقلق بروز ظاهرة تراجع البعض عن مواقفه المبدئية، وتصاعد مقولات «البراغماتية» و«الواقعية» و «العقلانية».