- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
صبحي حديدي يكتب: فظائع «أبو غريب» برّية أمريكا العجفاء الخرساء
صبحي حديدي يكتب: فظائع «أبو غريب» برّية أمريكا العجفاء الخرساء
- 29 سبتمبر 2023, 12:15:12 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في الوسع المساجلة بأنه لولا صوت واحد صارخ في برّية الولايات المتحدة، تولّتْ عبء رفعه منظمة «هيومان رايتس ووتش» في واشنطن؛ لما اكترث أحد، في وزارات الدفاع والعدل والخارجية الأمريكية، بمرور 20 سنة على افتضاح فظائع سجن «أبو غريب» العراقي. المنظمة شددت، في بيان رسمي، على أنّ العراقيين الذين تعرضوا للتعذيب بأيدي عناصر حكومية أمريكية لا يزالون «بدون سبيل واضح لرفع دعوى أو الحصول على أي نوع من الإنصاف أو الاعتراف من الحكومة الأمريكية» لأنّ المسؤولين الأمريكيين «يفضّلون وضع التعذيب خلفهم» رغم أنّ «الآثار طويلة الأمد للتعذيب ما تزال واقعا يوميا للعديد من العراقيين وعائلاتهم» كما قال البيان.
معروف أنه خلال الاحتلال الأمريكي للعراق، سنوات 2003 وحتى 2011، احتجزت السلطات آلاف الرجال، والنساء، والأطفال في ذلك السجن، ومنذ مطلع العام 2004 تجاهل الجيش الأمريكي مذكرة وجهتها «اللجنة الدولية للصليب الأحمر» تفيد بحصول المنظمة الدولية على معلومات موثقة تفيد بأنّ نحو 70 إلى 90٪ من المحتجزين لدى قوات التحالف في العراق في العام 2003، اعتُقلوا عن طريق الخطأ. وفي السنة ذاتها، بعد افتضاح فظائع التعذيب، بادر الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إلى الاعتذار عن «الإذلال الذي عاناه السجناء العراقيون» في «أبو غريب»؛ تبعه تعهد وزير الدفاع رونالد رامسفيلد في استجواب أمام «الكونغرس بإيجاد «طريقة قانونيّة لتعويض المعتقلين العراقيين» الذين عانوا «الانتهاكات والقسوة الأليمة والوحشية على أيدي عدد قليل من أفراد القوات المسلحة الأمريكية. هذا ما يجب فعله، وأنا عازم على أن أراه يتحقق».
وكان كتاب غاري وينكلر «معذَّبة: لندي إنغلاند، أبو غريب، والصور الفوتوغرافية التي هزّت العالم» قد صدر سنة 2009 ليروي سيرة المجنّدة الأمريكية بطلة الصورة الأشهر عن فظائع السجن، حيث تظهر وهي تجرّ سجيناً عراقياً عارياً، مقيّداً من عنقه بطوق جلدي. هي المعذَّبة، وليست المعذِّبة التي تعرّف العالم بأسره على سحنتها، وزملائها، حين افتُضحت جرائم الجيش الأمريكي في ذلك السجن، ربيع سنة 2004؛ ليس لأنها لم تمارس التعذيب في يقين وينكلر، بل لأنها كانت بمثابة كبش فداء لقاء تبرئة كبار مجرمي الحرب، في وزارة العدل والبنتاغون والبيت الأبيض ذاته.
وإذا صحّ أنها، وستة من زملائها فقط، دفعوا الثمن بالنيابة عن المذنبين الكبار، فإنّ هذه العاقبة لا تجعل منهم ضحايا تعذيب في كلّ حال، بل تبرهن على شيوع المهزلة في القضاء العسكري الأمريكي، بعد استفحال المأساة في التغطية الأخلاقية لأفعال الجيوش الأمريكية هنا وهناك في العالم. لقد حُكم على إنغلاند بثلاث سنوات سجن، قضت نصفها وأُعفيت من إكمال النصف الثاني؛ وتلك كانت حال شارلز غرينر (خمس سنوات) إيفان فردريك (أربع سنوات) جيريمي سيفيتس (سنة، مع الطرد من الجيش) سابرينا هارمان (صاحبة الصورة الشهيرة بدورها، حيث تقف ضاحكة خلف هرم من الموقوفين العراقيين العراة: ستة أشهر) جيفال دافيز (ستة أشهر) وميغان أمبول (الطرد من الجيش).
العراقيون الذين تعرضوا للتعذيب بأيدي عناصر حكومية أمريكية لا يزالون «بدون سبيل واضح لرفع دعوى أو الحصول على أي نوع من الإنصاف أو الاعتراف من الحكومة الأمريكية»
وفي شهر أيار (مايو) سنة 2004، كانت مجلة «نيويوركر» الأمريكية قد نشرت، على موقعها الإلكتروني ثمّ في الطبعة الورقية لاحقاً، تحقيقاً مذهلاً للصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش برهن فيه أنّ انفضاح أخبار الهمجية الأمريكية في ذلك السجن (كما كانت قد ترددت قبل أيام، مدعمة ببعض الصور الأولى على قناة CBS) هي الفصل الأوّل من مجلّد خزي رهيب، أشدّ مقتاً وبشاعة وشناعة. وأمّا في ناظر العالم، المراقب لما فعلته وتفعله أمريكا في أفغانستان قبل العراق، فإنّ تلك الهمجية كانت تتجاوز السياسات الأمنية، لتضرب بجذورها عميقاً في باطن ثقافة العنف، وتحقير الآخر، وامتهان النفس الإنسانية، وشهوة الاستعباد…
تحقيق هيرش أثبت أنّ الإدارة كانت تعرف، في ضوء التقرير الذي أعدّه العميد أنتونيو م. تاغوبا، وسلّمه إلى البنتاغون أواخر شباط (فبراير) ذلك العام، وانطوى على 53 صفحة حافلة بوقائع رهيبة حول إدارة السجون العراقية في ظلّ الاحتلال الأمريكي. وقال تاغوبا إنه في الفترة بين تشرين الأول (أكتوبر) وكانون الأول (ديسمبر) سنة 2003، ارتكب الجيش الأمريكي أعمال تعذيب «إجرامية، سادية، صاخبة، بذيئة، متلذّذة» سرد التقرير بعضها، هكذا: صبّ السائل الفوسفوري أو الماء البارد على أجساد الموقوفين، الضرب باستخدام عصا المكنسة والكرسي، تهديد الموقوفين الذكور بالاغتصاب، السماح لأفراد الشرطة العسكرية أن يقطبوا جراح الموقوفين الذين يُصابون بجروح جرّاء التعذيب، اللواط بالموقوفين عن طريق استخدام المصابيح الكيماوية أو عصا المكنسة، واستخدام الكلاب العسكرية لإخافة الموقوفين وتهديدهم…
وأثناء صحوة ضمير، أو سعياً إلى تبييض الصفحة، كشف الرقيب فريدريك أنّ تقنيات التعذيب الأخرى كانت تتضمن إجبار الموقوفين الذكور على ارتداء ثياب داخلية نسائية. واللافت، هنا، أنّ الرجل حين استفسر عن هذه الممارسات، قيل له ببساطة: هكذا تريدنا المخابرات العسكرية أن نفعل! تفاصيل من هذا القبيل سردتها أيضاً العميد جانيس كاربينسكي، التي اقترن اسمها بهذه الممارسات لأنها كانت قائد فوج الشرطة العسكرية في العراق، والمسؤولة عن السجون الثلاثة. ففي مقابلة مع «نيويورك تايمز» قالت كاربينسكي إنّ عناصر المخابرات العسكرية وعناصر المخابرات المركزية هم الذين كانوا يتولون مسؤولية الخلية «1A» وهي الوحدة الأمنية عالية السرّية التي تشرف على التحقيقات في السجن، وأنّ هؤلاء تمنّوا عليها ألا تتدخّل، بل أن تمتنع حتى عن دخول أيّ من الزنزانات التي تجري فيها التحقيقات!
التطورات اللاحقة لم تدع أيّ ظلّ للشكّ في أنّ تقنيات التعذيب، سواء في سجن «أبو غريب» أو في «غوانتانامو» أو في «السجون الطائرة» كانت تٌستخدم بعلم كبار رجال الإدارة: نائب الرئيس ديك شيني، مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، وزير الدفاع دونالد رمسفيلد، مدير المخابرات المركزية جورج تنيت، وزير العدل بيل أشكروفت، والرئيس بوش الابن نفسه الذي كان على اطلاع تامّ بما يجري، وكان موافقاً عليه. وفي تقرير اللجنة العسكرية التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي، جاء أنّ رمسفيلد أجاز 15 «وسيلة تحقيق حادّة» وأنّ نسخة من الوثيقة تلك طُبّقت حرفياً في سجن أبو غريب. لاحقاً سوف يقول جاك غولدسميث، رئيس مكتب الإرشاد القانوني في وزارة العدل: «إذا عذّبتَ فإنّ لديك حجة قانونية للدفاع عن نفسك؛ وإذا تعذّرت تلك الحجة، فإنّ قانون التعذيب لا ينطبق عليك ما دمت تحت راية سلطة الرئيس»!
ولقد بات جلياً اليوم أنّ تراجع الرئيس الأسبق باراك أوباما عن وعود انتخابية بتأمين شفافية المعلومات حول سجن «أبو غريب» إنما تمّ بضغط مباشر من رهط الجنرالات المتشددين في البنتاغون، من جهة أولى؛ والحملة الشعواء المتواصلة التي يشنّها ديك شيني، واحتضنتها مختلف وسائل الإعلام الأمريكية بحماس بالغ، من جهة ثانية. ولا يصحّ، كذلك، تناسي حقيقة اصطفاف الحزب الديمقراطي خلف معظم سياسات بوش الابن، بصدد غزو أفغانستان والعراق وما سُمّي بـ «الحملة على الإرهاب»؛ بما في ذلك التواطؤ على استخدام تقنيات التعذيب، والإبقاء على معتقل غوانتانامو، و«السجون الطائرة» وسواها.
ولا عجب، استطراداً، أن تصمّ الإدارات المتعاقبة الآذان عن حقوق الضحايا في التعويض، وأن تُطمس الملفات تباعاً عن طريق وضعها على رفوف الإهمال والتجاهل؛ حتى إذا ارتفع صوت واحد صارخ، في برّية شاسعة واسعة وعجفاء خرساء.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس