عصمت سيف الدولة : الديمقراطية ودولة المؤسسات

profile
  • clock 3 مايو 2021, 3:29:19 م
  • eye 816
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

السبت، 2 يوليو 2016
الديمقراطية ودولة المؤسسات
كتب هذا المقال ردا على تهديدات حسنى مبارك عام 1986، بان مؤسسات الدولة ضاق صدرها بالمعارضة.
الديمقراطية ودولة المؤسسات


1ـ فى عام 1980 كان بعض المواطنين متهمون فى إحدى الجنايات " بإذاعة بيانات مغرضة " . وهى تهمة معاقب عليها طبقا للمادة 102 " مكررا " من قانون العقوبات حتى لو كانت البيانات صحيحة إذا كان من " شأنها الحاق الضرر بالمصلحة العامة " . أما ما هى هذه المصلحة العامة فلا يوجد فى أى قانون فى مصر تعريف محدد لها . وبهذا أصبحت تحت تصرف السلطة لتزج بمن تريد إلى أقفاص الإتهام ، بدون أن تسأل نفسها : كيف تكون إذاعة البيانات الصحيحة ضارة بالمصلحة العامة ، وما شأن البيانات الكاذبة إذن ؟.. ولكن القضاء يسأل . فسألت المحكمة شاهدا من كبار ضباط جهاز أمن الدولة :" أليس من المتصور لكل من يعمل بالسياسة فى بلد ديموقراطي أن يعمل على إيجاد قاعدة شعبية بمحاولة الدفاع عن بعض الهيئات ؟. أجاب ضابط أمن الدولة :" أتصور أن يقوم بذلك الأفراد أصحاب المصلحة من خلال المؤسسات الشرعية الموجودة فى الدولة ".
2ـ كان ذلك خلال الحقبة الساداتية التى رفعت غالبا شعار " دولة المؤسسات " عنوانا على " ديموقراطيتها " .

 انقضت تلك الحقبة وجاء حسنى مبارك فلفت الإنتباه بقوة إلى الوجه الآخر لدولة المؤسسات . قال فى حديثه المثير الذى نشر فى عدد مجلة المصور الصادر يوم 16 يناير 1986 محذرا المعارضة : " إن كنت قد تحملت الكثير فهناك غيرى لا يتحمل . إن الحكم ليس فقط شخص رئيس الجمهورية بل الحكم هو مؤسسات ودولة " .

 وأضاف الرئيس :" إننى أنبه إلى خطورة البديل عن الإختيار الديموقراطي ونحن لا نريد أن نعود إلى بدائل من هذا النوع .. إن البديل فى علم الغيب ولكنه مخيف وخطير ". وهكذا أشار رئيس الجمهورية إلى أنه مع الديموقراطية لا يريد بديلا عنها مع أنه يتحمل الكثير ، ولكنه شخصيا ليس وحده الحكم بل الحكم مؤسسات ودولة ، وأن غيره لا يتحمل وقد يستبدل بالديموقراطية ما هو مخيف وخطير، فأصبح واضحا أن " غير الرئيس " هو واحدة أو أكثر من مؤسسات الدولة . فما هى مؤسسات الدولة ؟ ..
3ـ مؤسسات الدولة هى التى تتلقى السلطات التى تتولاها من الدستور مباشرة وليس من قانون تصدره المؤسسة التشريعية ،

 وفى هذا تختلف عن الوزارات والإدارات . وقد جاءت على سبيل الحصر فى الدستور فهى (1) رئاسة الدولة (2) مجلس الشعب (3) الحكومة (4) القضاء (5) المحكمة الدستورية العليا (6) المدعى العام الاشتراكى (7) القوات المسلحة (8) الشرطة (9) مجلس الشورى . ولمن شاء أن يتأمل هذه المؤسسات " غير رئاسة الدولة " التى حذرته ليتعرف على مؤسسات الدولة التى " لا تحتمل " المعارضة فتهدد بما هو مخيف وخطير، أما نحن فنريد أن نتحدث عن العلاقة بين المؤسسات عامة وبين الديموقراطية حديثا قد يهدى من يريد أن يهتد إلى طريق النجاة من المأزق المحتمل .
4ـ إن المؤسسات أجزاء من تكوين الدولة وأدوات الحكم . ومجرد مؤسسات تعنى أن للحاكمين أساليب محكمة فى ممارسة السلطات وهذا هو ذاته الذى نشأت الديموقراطية وتطورت لحماية الشعب من مخاطر استبداده ، فمنذ أن نبه مونتسيكور فى كتابه " روح القوانين " الصادر فى عام 1748 إلى أنه :" إذا اجتمعت السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية فى مؤسسة واحدة فثمة خطر على الحرية إذ يخشى فى هذه الحالة أن الملك ذاته ، أو مجلس الشيوخ ذاته ، ألا يصدر قوانين إلا لكى ينفذها تنفيذا استبداديا ". استقر مبدأ ديموقراطي هو الفصل بين السلطات ،

 أخذا باقتراح مونتسيكو نفسه :" حتى لا يستبد أحد بالسلطة لا بد من سلطة أخرى توقف السلطة الأولى عند حدودها ". وهكذا نرى أن أول مبدأ أساسى من مبادئ ممارسة الديموقراطية الليبرالية كان موجها ضد مؤسسات الدولة ومخاطر توحيدها فى مؤسسة واحدة على حرية الشعوب ، بفرض استقلالها بعضها عن بعض وإعطاء كل منها سلطة الحد من استبداد الأخرى . ليست العبرة إذن بالمؤسسات ولكن العبرة ، فى الديموقراطية ، بما إذا كانت تلك المؤسسات تمثل ضمانا ضد استبداد الحكام أم لا . 

ذلك لأنه منذ أن أصبحت مهمات الحكم أكثر اتساعا وأشد تعقيدا من أن يتولاها طاغية واحد بنفسه وبطانته ، اصطنع كل الطغاة مؤسسات أدوات ليكونوا قادرين من خلالها على فرض إرادتهم المستبدة . ولعل التاريخ لم يعرف قط دولة اتخمت بالمؤسسات حتى كاد كل فرد من الشعب فيها أن يكون عضوا فى مؤسسة أو لا يكون مواطنا أصلا ، كما عرف المانيا النازية وايطاليا الفاشية . ليس معنى هذا أن ليس للمؤسسات دور ديموقراطي ولكن معناه أن مجرد وجود المؤسسات ضرورة إدارية اقتضاها تقسيم العمل فى وظائف الحكم المتشعبة ، وأنها تكون ضرورة ديموقراطية حينما تكون حماية للحرية ضد استبداد الظالمين . أما القول بأن وجود المؤسسات إطلاقا هو عنوان الديموقراطية فهو خطأ جسيم ، ويتحول إلى خطر جسيم حينما تصبح تلك المؤسسات أدوات للمستبدين تحول أفكارهم الخاصة إلى قوانين وتردع باسم تلك القوانين كل من يجرؤ على ممارسة حقه الديموقراطي فى أن يسهم بالفكرة والرأي.
5ـ ولم يكن مبدأ الفصل بين السلطات هو المبدأ الديموقراطي الوحيد الموجود ضد مخاطر إستبداد المؤسسات فى الدولة بل أن كل المبادئ الديموقراطية هى ديموقراطية لأنها أسلوب شعبى لمواجهة إستبداد المؤسسات فمثلا يعتبر التمثيل النيابى أحد معالم النظام الديموقراطي . وفى التمثيل النيابى ، كما هو معروف ، لا يمارس الشعب سيادته بنفسه ،

 أى أن الحكم لا يكون بالشعب كما هو مفهوم الديموقراطية ، ولكن عن طريق إنتخاب أقلية الأقلية من الشعب توكل إليها مهمة التشريع . الأقلية هم جماعة الناخبين وأقلية الأقلية هم الأعضاء المنتخبون . ويقال عنهم فى المرسل من القول أنهم يمثلون إرادة الشعب . وهو قول غريب على الديموقراطية . فمنذ أن قال جان جاك روسو :" لايمكن أن يكون هناك تمثيل فى السيادة لنفس السبب الذى يجعلها غير قابلة للتنازل فهى تكون أساسا فى الإرادة العامة والإرادة العامة لا يمكن تمثيلها إطلاقا فهى أما تكون هى نفسها أو تكون سيئا آخر " ، استقر فى فقه القانون العام والخاص بمبدأ " أن الإرادة لا تنتقل " ، ولم يقل أحد ، أى أحد ، على مدى قرون من الممارسة العالمية للنظام النيابى ، أن النواب يمثلون إرادة الشعب . وإنا لنعرف أن فى تأصيل نظام التمثيل النيابى نظريات عدة ، منها نظرية النيابة التى يمثلها الفقيه بارتلمى والتى ينتمى إليها أغلب الشراح العرب فى مصر : وحيد رأفت ، ووايت إبراهيم ، وعبد الحميد متولى ، وعثمان خليل ، ومصطفى كامل .. إلى آخره .
ولكن أيا من تلك النظريات لم تتضمن كلمة واحدة يفهم منها مباشرة أو بطريق غير مباشر أن النواب المنتخبين للقيام بمهمة التشريع يمثلون إرادة الشعب ..
لماذا ؟.
لأن المجلس التشريعى المنتخب يتحول بمجرد انتخابه إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة وأداة من أدوات الحكم بمعناه الواسع . من هنا لا يعتبر مجرد وجود مجلس تشريعي منتخب ظاهرة ديموقراطية ولا دليلا على توفر الديموقراطية . وإلا لكانت كل الدولة التى نعرفها ، فيما عدا السعودية دولا ديموقراطية لأنها كلها تملك مصانع إنتاج القوانين التي يسمونها المجالس التشريعية المنتخبة . وإلا لصح زعم بعض المستشرقين أن الإسلام دين غير ديموقراطي لأنه أمر بالشورى ولكنه لم يأمر بأن ينتخب المسلمون من بينهم مجلسا يتولى وضع القوانين ، لا ، المجالس النيابية قد تكون ظاهرة ديموقراطية وقد لا تكون . يتوقف الأمر على ما إذا كانت أدوات حماية مصالح الشعب وحريته أم أدوات لتقنين إرادة السلطة التنفيذية واستبدادها . كل هذه بدهيات يعرفها كل من يعرف شيئا عن الديموقراطية ، وإن كان لا يدرك أهميتها إلا القليل ممن درسوا النظم السياسية . ولقد كانت تلك البدهيات وراء المناقشات والمناورات والصراعات التى دارت فى " لجنة المبادئ الأساسية لمشروع الدستور " . دستور 1971 .
فقد كانت تلك اللجنة المشكلة أساسا من أساتذة القانون العام قد ضمنت قائمة المبادئ مبدأ أساسيا تحت رقم 56 نصه :" على كل أعضاء مجلس الشعب والمجالس الشعبية المحلية أن يقدم حسابا للناخبين عن نشاطه ونشاط مجلسه وللناخبين حق سحب الثقة من العضو فى الأحوال وطبقا للشروط والإجراءات التى يحددها القانون ". فلما أن عرضت المبادئ على مجلس الشعب عدل النص ، فلم يوافق المجلس بالإجماع ، على ان يتضمن الدستور النص التالى :" للناخبين أن يطلبوا إلى المجلس إسقاط عضوية أحد الأعضاء وفق الشروط والأوضاع الخاصة بإسقاط العضوية الواردة فى الدستور ".
وبالرغم من الهزال الذ ى أصاب المبدأ الديموقراطي وحوله إلى رابطة رقابية واهية بين الشعب والعضو المنتخب فإن أيدى الاستبداد التى أخذت المبادئ التى تمت الموافقة عليها بالاجماع تصوغها دستورا يعرض على الإستفتاء الشعبى ، أعطت نفسها حرية حذف النص وعرض الدستور على الإستفتاء خاليا منه .
6ـ من أين إذن تستمد المؤسسة التشريعية ما تستحقه من نسبتها إلى الديموقراطية ؟.. لا من كونها مؤسسة ولا من كونها منتخبة ، ولكن من مدى ما يتمتع به الشعب من حريات تمكنه من إبقاء تلك المؤسسة فى خدمته أداة لتحقيق إرادته فى مواجهة المؤسسات الأخرى المسماة السلطة التنفيذية ، وليس تاريخ النظام النيابى إلا تاريخ كفاح الشعوب لفرض إرادتها على تلك المؤسسة التى انتخبوا أعضاءها .
فمن حق الاقتراع المقيد بالملكية إلى حق الاقتراع العام غير المقيد خطوة نحو الديموقراطية تمت خارج مؤسسات الدولة وفى مواجهتها . وهى خطوة سمحت للفقيه الإنجليزي بورجى بأن يقول أن الدستور الإنجليزى لم يوجد إلا منذ 1832 وهو تاريخ أول محاولة فيما يسمى بالإصلاح الديموقراطي فى انجلترا والذى تمل فى إتاحة الاقتراع لمزيد من المواطنين . والانتخاب الدورى خطوة ديمقراطية أخرى تتيح للشعب أن يعيد تشكيل المؤسسة التشريعية ويبقى النواب فى حاجة مستمرة لإرضائه . وحق التمثيل النسبى الذى يتيح للأقلية أن تختار أعضاء فى الهيئة التشريعية بقدر حجم الأصوات التى تنتمى إليها خطوة أخرى نحو الديموقراطية تتيح لكل الاتجاهات أن تسهم فى صنع التشريع والرقابة عليه .. كل هذه مظاهر للديموقراطية خارج مؤسسات الدولة .
7ـ ثم نأتى إلى المعارضة . إن كل أنصار النظام النيابى ، الذين يعتبرونه نظاما ديموقراطيا يؤكدون أنه لا ديموقراطية بدون معارضة منظمة داخل المجالس النيابية . والمعارضة داخل المجالس النيابية هى ذلك الفريق الذى لا يشارك فى الحكم . فمن أين يستمد الحكم استحقاقه لوصف الديموقراطية . ليس من الأغلبية التابعة للحاكمين. والتى يسخر بها المؤسسة التشريعية لتحويل ارادتهم إلى قوانين ، ولكن من المعارضة التى بها ، وليس بغيرها ، يمكن أن تنسب القوانين إلى الشعب وليس إلى فريق الحاكمين وحدهم . ومن هنا فإن المعارضة هى مصدر شرف إنتساب أى حكم إلى الديموقراطية ، ولا يستحق أى حكم هذا الشرف إلا بقدر حرية المعارضة واتساعها .
8ـ ولا يمل فقهاء القانون ورجال السياسة من التأكيد على أنه من المظاهر الأساسية للديموقراطية فى أى حكم ما يسمونه الرأى العام ، ويعنون به حرية التعبير وحرية الاجتماع وحرية الصحافة .. إلى آخره .. وكل هذا نشاط يدور خارج مؤسسات الدولة وفى مواجهتها . فحرية التعبير يقصد بها حرية التعبير خارج المجلس النيابى ومؤسسات الدولة .

وحرية الاجتماع يقصد بها حرية إجتماع المواطنين من غير أعضاء مجلس الوزراء أو اللجان الحكومية . 

وحرية الصحافة يقصد بها حرية نشر الإفكار والآراء غير الرسمية ، أى غير خطب وبيانات مؤسسات الدولة . والرأى العام الذى يعبر عن ذاته بهذه الأدوات وغيرها هو رأى الشعب وليس رأى شاغلى المناصب فى أية مؤسسة حكومية . ففى خارج هذه المؤسسات تقوم أو لا تقوم الديموقراطية . وعلى مدى إنتشار وتنوع وحرية التعبير عن الرأى العام يتوقف استحقاق أى حكم شرف الانتساب إلى الديموقراطية .
9ـ ثم نأتى إلى الأحزاب ، ينقل إلينا أساتذة القانون الدستورى قولا مترددا من انه لا قيام للديموقراطية بدون أحزاب سياسية .

 لماذا ؟ مع أن الأحزاب السياسية ليست مؤسسات حكومية بل هى تجمعات شعبية اعتباريه منظمة ، 

لأنها هى التى تجمع وتنظم وتجسد وتقود اتجاهات الرأي العام . وتمنحها بهذا التنظيم قوة جماعية تستطيع أن تنقد وتعارض وتردع وتسقط الحكام إذا ما حاول الحكام أن يسخروا مؤسسات الدولة لأغراضهم الخاصة . 

ومن هنا قيل أن نظام الحزب الواحد ليس نظاما ديموقراطيا ، لأن الحزب الذى يحكم يتحول إلى أداة فى يد رؤسائه الحاكمون أو على الأصح يتحول إلى حكومة .

 فلو كان حزبا واحدا وحاكما ، فإن الشعب ، والرأى العام فيه ، يفتقدان المؤسسات الشعبية لمواجهة استبداد الحاكمين وحزبهم . ومن هنا نعرف أن مصدر الديموقراطية التى تنسب إلى تعدد الأحزاب ليس هو الحزب الحاكم . ولكن الأحزاب التى لا تشترك فى الحكم . ونحن نعنى بطبيعة الحال الأحزاب التى يشكلها أعضاؤها بدون إذن أو قيود ولا نعنى الجماعات المصطنعة أحزابا ليكسب بها الحزب الحاكم ـ بدون وجه حق ـ شرف الانتماء إلى الديموقراطية . 

كما فعل بعض الحكام الذين وصل بهم الاستبداد بالناس حد احتقار عقولهم وتضليلهم بأساليب ساذجة من الأشكال الحزبية كما فعل ليوبولد سنجور الحاكم السابق للسنجال ، وكمال أتاتورك ديكتاتور تركيا الأسبق .
فبعد عشر سنوات متصلة من حكم ليوبولد للسينجال حكما فرديا رأى أن يصطنع أحزابا متعددة .

وكان الأسبق إلى ابتكار الفكرة المغرورة التى تقول أنه مهما تعددت الاتجاهات السياسية فهى إما يمين أو وسط أويسار . وهكذا أصدر سيادته قانونا دستوريا بإقامة ثلاثة أحزاب . الحزب الحر اليمينى وكلف أحد أصدقائه بتشكيله ، 

ثم الحزب الماركسى اليسارى وترك للماركسيين أمر تشكيله ثم حزب الوسط الاشتراكى وشكله هو تحت رئاسته .
وقبل سنجور كان كمال أتاتورك فى عام 1923 رئيسا لجمهورية تركيا ورئيسا " لحزب الشعب الجمهورى " وكان ثمة حزب معارض هو " الحزب الجمهورى التقدمى " يقاوم السلطة الفردية فصفاه كمال أتاتورك 1925 . بعدها بنحو عشر سنوات ( لست أدرى لماذا لا يبدأ الطغاة فى التفكير إلا بعد عشر سنوات ) رأى أن يصطنع حزبا معارضا ليستر عورة استبداده فأعلن بنفسه عن تأسيس الحزب المعارض فى حفل أقيم فى مدينة بالوفا وأسند رئاسته إلى أحد أصدقائه وهو فتحى بك. وكان أنشأ الحزب المعارض كما قالت وثائقه :" لمباشرة وظيفة النقد فى الدولة".

فلما حاول الحزب المصطنع مباشرة وظيفته فى النقد لم يطق المستبد عليه صبرا وكان الأسبق إلى الفكرة الساذجة : تكوين فريق معارضة داخل حزبه هو .
وكان طبيعيا أن تفشل كل تلك المحاولات فى ستر الاستبداد . لأن الأحزاب المصطنعة ليست أحزابا أصلا ،

ومن هنا فنحن لا نعنيها عندما نتحدث عن أحزاب المعارضة كشرط للديموقراطية النيابية .
10ـ وأخيرا ذلك الشعار الذى لا يمل الكثيرون من ترديده : إن الديموقراطية لا تقوم إلا بالرأى والرأى الآخر .

 والرأى الآخر لا يكون رأيا آخر إلا إذا كان مخالفا للرأى الأول . أما إذا كان الرأى الآخر تفسيرا أو تبريرا أو تأييدا أو صدى للرأى الأول فليس ثمة فى الحقيقة إلا رأى واحد هو الرأى الأول . وينهار ركن أصيل من أركان الديموقراطية .

 ولا يختلف الأمر استبدادا إذا ما تولى الرأى الأول تحديد المجال المسموح به للرأى الآخر ،

 كأن يقال مثلا أن القضايا التى يعتبرها الرأى الأول قومية لا يجوز للرأى الآخر أن يختلف فيها .

 لا يخفى على أحد هنا أن الرأى الأول قد اعتبر نفسه صاحب القضايا القومية وحده دون الرأى الآخر ، مع أن المفترض أن الأحزاب مؤسسات شعبية الإنتماء قومية الغاية .

 إنه مفترض فى كل الدول الديموقراطية ولكنه فى مصر بالذات مفروض بحكم القانون ، 

فعندما نقرأ فى القانون رقم 40 لسنة 1977 الخاص بنظام الأحزاب أنه لا يجوز قيام الحزب فى مبادئه أو برامجه أو فى نشاطه أو فى إختيار قياداته أو أعضائه على أساس طبقى أو طائفى أو فئوى أو جغرافى ( المادة 3 فقرة 3 ) نعرف أنه قد فرض على الأحزاب أن تقوم فى مبادئها وبرامجها ونشاطها على أساس قومى أى أن تكون مشغولة أساسا بالقضايا القومية .

 فإذا قيل بعد ذلك أن على الأحزاب أن تتجنب مخالفة الرأى الأول فى المسائل القومية فإنه يعنى أن على الأحزاب أن تخرس .

 وعندما تخرس الأحزاب يفقد الرأى الأول أية فرصة لإدعاء الديموقراطية لأنه يفقد مصدر هذا الإدعاء . 

ويصبح الأمر أسوأ من هذا حين يرى أن على الرأى الآخر أن يكون موظفا لديه يقدم له الأفكار التى لا يعرفها والدراسات التى لا يستطيع القيام بها ،

 وحلول المشاكل التى لا تخطر على باله ، فإن أبى أو عجز نهره كما ينهر الرؤساء موظفيهم . وأمره بأن يخرس لأن النقد يكون للبناء لا للهدم . مع أن البناء المستقيم على أسس مائلة سينهدم حتى من تلقاء ذاته .
11ـ الخلاصة ، أن مؤسسات الدولة ، أو دولة المؤسسات هى بحكم طبيعتها ووظيفتها وبما تملكه من قوانين ومحاكم وسجون وشرطة وقوى مسلحة جهاز قهر لا تنسب إليه الديموقراطية ، وفى مواجهتها وخارج مؤسساتها تنسب الديموقراطية إلى الشعب بالقدر الذى تتاح له ممارسة سيادته " غير المنكورة " على الدولة ومؤسساتها ،

 بأدوات وأساليب ومنظمات " شعبية " غير تابعة ولا خاضعة لمؤسسات الدولة . حينئذ يتوقف مصير الديموقراطية وجودا وعدما ،

 تقدما أو تراجعا ، على ميزان القوة النسبى ما بين مؤسسات الدولة من ناحية وبين مؤسسات الشعب من ناحية أخرى .

 حينما يختل هذا الميزان لصالح الدولة ومؤسساتها تنمو أنياب ومخالب وأشواك الاستبداد " تلقائيا " وإذا تساوت الكفتان ، أصبح لدى الشعب " هامش " ديموقراطى يغذى أمله فى المزيد من الديموقراطية من ناحية ويغرى الاستبداد بإلغائه من ناحية أخرى . وأصبح لدى دولة المؤسسات إمكانيات استبدادية تعمل على تقويتها من ناحية وتنزع إلى استعمالها من ناحية أخرى ، وهو توازن لا يمكن أن يدوم . لابد ، عاجلا أو آجلا ، أن يحسم الأمر لصالح الديموقراطية أو لصالح الديكتاتورية .
12ـ نعتقد أن مصر تمر الآن بمرحلة التوازن هذه . نستطيع أن نقدم عليها عشرات الأدلة التشريعية والتطبيقية ولكن يكفينا صدق التحذير الذى أطلقه رئيس الدولة ودلالته التى أوضحناها من قبل .
السؤال الآن هو : كيف يمكن أن نحول دون أن يختل ميزان القوة بين الدول ومؤسساتها وبين الشعب ومؤسساته ؟..

 ليس هناك إلا حل واحد تمليه حقائق الموقف غير القابل للاستمرار بطبيعته . هذا الحل هو المبادرة بجسارة إلى حسم الموقف لصالح الشعب برفع كل القيود المفروضة على ممارسته الديموقراطية وإنشاء مؤسساته الكفيلة بردع أية أفكار مغامرة تدور فى أذهان أية مؤسسة من مؤسسات الدولة .
13 ـ من المسئول تاريخيا عن القيام بهذه المبادرة ؟..
المسئول ، فى هذه المرحلة ، هى مؤسسة الدولة التى أدركت الخطأ ونبهت إليه وحذرت منه : رئاسة الجمهورية .

 إنها لا تملك شرعية هذه المبادرة فقط ، بل أن حسم الموقف لصالح الشعب لن يتم سلميا إلا عن طريقها . ما الذى يمكن أن تفعله على وجه التحديد ؟ إن الإجابة الجادة على هذا السؤال تتطلب المعرفة الكاملة والدقيقة لما يدور داخل مؤسسات الدولة ،

 وهو غير متوفر لنا والجواب بدون علم كاف ودقيق رعونة أو إدعاء أو حذلقة لا نريد أن ننزلق إليها خاصة ونحن نتحدث عن موضوع على أكبر قدر من الجدية والخطر والخطورة . ..
وإنما نسمح لأنفسنا بضرب مثل مما نعلمه علم اليقين :
أولا : فى 10 فبراير 1977 استفتى الشعب فى شأن الأحزاب فوافق على أن: " حرية تكوين الأحزاب مكفولة طبقا لما ينص عليه القانون الخاص بإنشاء الأحزاب حال صدوره من السلطة التشريعية ".
ثانيا : فى 21 مايو 1978 استفتى الشعب فى شأن الأحزاب مرة اخرى فوافق على أنه :" لا يجوز الانتماء إلى الأحزاب السياسية أو ممارسة أى نشاط سياسى (1) لكل من تسبب فى إفساد الحياة السياسية قبل ثورة 23 يوليو 1952 سواء كان ذلك بالاشتراك فى تقلد المناصب الوزارية منتميا إلى الأحزاب السياسية التى تولت الحكم حتى 23 يوليو 1952 أو بالاشتراك فى قيادة الأحزاب وإدارتها ذلك كله فيما عدا الحزب الوطنى والحزب الاشتراكى ( مصر الفتاة ) . (2) لكل من حكم بإدانته من محكمة الثورة ممن شكلوا مراكز قوى بعد ثورة 23 يوليو 1952 وأحيلوا إلى محكمة الثورة فى الجناية رقم 1 لسنة 1971 مكتب المدعى العام . وكذلك من حكم بإدانته فى إحدى الجرائم الخاصة بالمساس بطريقة غير مشروعة بالحريات الشخصية للمواطنين أو إيذائهم بدنيا أو معنويا .

 (3) كل من يثبت ضده أنه أتى أفعالا من شأنها إفساد الحياة السياسية فى البلاد أو تعريض الوحدة الوطنية أو السلام الإجتماعى سواء كان ذلك بالذات أو بالواسطة وسواء كان ذلك بصورة فردية أو من خلال تنظيم حزبى أو تنظيم معاد لنظام المجتمع ….الخ ".
ثالثا : استفتى الشعب أخيرا يوم 20 أبريل 1979 فى شأن الأحزاب .. فوافق على صيغة قطعية الدلالة تقول :" إطلاق حرية تكوين الأحزاب "..
فهل يحتاج الأمر إلى أكثر من " حسن النية " ليعرف من يريد الاستدلال بالهامش الديموقراطي ما هو مخيف وخطير ،

 إن موافقة الشعب على " إطلاق حرية تكوين الأحزاب " تعنى إلغاء القيود التى رأى فرضها فى الاستفتاء السابق ،

 وتحريم فرض أية قيود بعد ذلك . هل يحتاج الأمر إلى عباقرة فى القانون ليعرف أن القيود التى فرضها قانون الأحزاب رقم 40 لسنة 1977 يوم 7/7/1977 تنفيذا للاستفتاء الأول قد أصبحت باطلة بمقتضى الاستفتاء الأخير .
فلماذا الإبقاء على هذه القيود ؟ لماذا لا تلغى ؟..
قد يقال وما شأن رئيس الجمهورية بإبقاء أو إلغاء قانون صادر من مجلس الشعب ،

يا سلام …. لقد ألغى رئيس الجمهورية فى حدود سلطته الدستورية القانون رقم 2 لسنة 1977 والقانون رقم 34 لسنة 1972 وبعض مواد القانون 95 لسنة 1980 بقرار واحد منه هو القرار رقم 194 لسنة 1983 . ثم إن لرئيس الجمهورية اقتراح القوانين . 

ثم إن رئيس الجمهورية قد إرتضى أن يكون رئيسا للحزب الحاكم صاحب الأغلبية فى مجلس الشعب … تدعيم المؤسسات الشعبية فى مواجهة مؤسسات الدولة لا يفتقد الوسيلة بل يفتقد الإرادة .
ولله الأمر من قبل ومن بعد

التعليقات (0)