- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: حوار مع دبلوماسية ألمانية… عن الوساطة الغائبة
عمرو حمزاوي يكتب: حوار مع دبلوماسية ألمانية… عن الوساطة الغائبة
- 13 يونيو 2023, 4:04:30 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قبل أيام قليلة، التقيت مع دبلوماسية ألمانية تشغل منصبا هاما في وزارة خارجية بلدها.
سألتها، أولا، عن أسباب غياب جهود الوساطة الأوروبية لإنهاء الحرب الروسية ـ الأوكرانية دون مزيد من الدمار والدماء. قالت إن برلين وباريس، وبعد أن قادتا مفاوضات اتفاقات مينسك في 2014 ونجحتا في استعادة الاستقرار بين روسيا وأوكرانيا، صدمتا في الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية لكونه جاء على النقيض من تعهدات الرئيس فلاديمير بوتين بالامتناع عن استخدام القوة العسكرية في جواره الأوروبي والالتزام بالحلول السلمية للقضايا العالقة مع أوكرانيا إن فيما خص وضعية المناطق ذات الأغلبيات العرقية الروسية أو في شأن التنازع حول شبه جزيرة القرم. قالت إن برلين وباريس سلمتا عملا بسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وقبلتا منح وضعيه شبه مستقلة لمنطقة دونباس في شرق أوكرانيا نظير عدم تجدد الصراع المسلح والعمليات العسكرية، وهي المساومة التي لم يلتزم بها الجانب الروسي الذي أخل بتعهداته مع الطرفين الألماني والفرنسي بعد خداع استراتيجي طويل المدى بين 2014 و2022.
وفقا للدبلوماسية ذات الأصول الأرستقراطية فإن الخداع الاستراتيجي الروسي والغزو العسكري لأوكرانيا أظهر برلين وباريس كعاصمتين عاجزتين عن حماية السلام والاستقرار في القارة الأوروبية بالتعويل الأحادي على أدوات الوساطة والتفاوض وعاجزتين أيضا عن احتواء العدوانية الروسية بتنازلات مؤثرة كالاعتراف العملي بالسيطرة على شبه جزيرة القرم، ومن ثم، لم يكن أمام الألمان والفرنسيين، خاصة مع إطلاق الولايات المتحدة وعديد دول أوروبا الشرقية والوسطى لاتهامات مهادنة روسيا وممالأة بوتين منذ 2014 في اتجاه برلين وباريس، سوى السير في الاتجاه المعاكس بالكامل في ربيع 2022 حين حدث الغزو أي الدفع نحو مواجهة عسكرية مفتوحة يدعم فيها الجيش الأوكراني بكل أنواع السلاح ويقدم فيها الدعم المالي والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والإنساني (استقبال اللاجئين) لحكومة كييف.
علقت بالقول إن ذلك كان رد فعل «اللحظة الأولى» وبه لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورا كبيرا في دفع حلف الناتو وعموم أوروبا نحو مواجهة مفتوحة مع روسيا بعد أن كانت واشنطن قد وظفت في أعقاب اتفاقيات مينسك حديث «الضم الممكن» لأوكرانيا للحلف بغية رفع مستويات الضغوط العسكرية والجيو ـ سياسية على موسكو، فإنني لا أفهم تواصل اندفاع الأوروبيين في مسارات المواجهة العسكرية مع روسيا بتسليح أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية والتجارية المفروضة على روسيا بعد مضي عام ونيف على الغزو واشتعال الحرب. ثم كان سؤالي عما إذا كان الأوروبيون يعتقدون أن أوكرانيا تستطيع إلحاق هزيمة عسكرية بروسيا تجبرها على الانسحاب أو على التفاوض المفضي إلى الانسحاب أم أنهم يصعدون ويصدرون السلاح ويفرضون العقوبات دون أفق نهائي؟
برلين وباريس، بعد أن قادتا مفاوضات اتفاقات مينسك ونجحتا في استعادة الاستقرار بين روسيا وأوكرانيا، صدمتا في الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية لكونه جاء على النقيض من تعهدات الرئيس فلاديمير بوتين بالامتناع عن استخدام القوة العسكرية
قالت الدبلوماسية رفيعة المستوى إن الأوروبيين اتخذوا قرارا استراتيجيا بعدم السماح لبوتين بالانتصار في المواجهة العسكرية الراهنة وعدم السماح له بالحصول على مكاسب جغرافية أو سياسية من الغزو والعدوان مهما كانت الكلفة التي سيتحملونها. قالت إن الأمر هنا يتعلق بضمانات السلام والأمن والاستقرار في أوروبا على المدى الطويل، وتلك تلزم بمعاقبة المعتدي عسكريا واقتصاديا وتجاريا من جهة لكي لا يكرر فعلته ومن جهة أخرى لكي لا يصير العدوان بمثابة الفعل المقبول في السياسات الأوروبية.
أكدت أيضا على أن الحكومات الأوروبية مرهقة بفعل تكلفة دعمها العسكري الواسع لأوكرانيا، وتكلفة رفعها هي لمعدلات إنفاقها العسكري (المليارات التي أضافتها برلين لموازنتها الجيش) والثمن الاقتصادي الفادح للحرب فيما خص ارتفاعات أسعار الطاقة وارتفاعات أسعار الغذاء وكذلك الخسائر المرتبطة بالعقوبات الاقتصادية والتجارية المفروضة على روسيا وعلى رؤوس الأموال الروسية. غير أن كل هذا الإرهاق لم ولن يمنع الأوروبيين من مواصلة دعم أوكرانيا إلى أن ترضخ الحكومة الروسية إلى المطلب العادل الوحيد ألا وهو الانسحاب إلى خطوط ما قبل الغزو في ربيع 2022.
عقبت بالقول إن المعنى الاستراتيجي الوحيد لما تقول هو أن الأوروبيين يعتقدون أن الجيش الأوكراني بعد أن حصل على السلاح الغربي المتطور لديه القدرة على هزيمة الجيش الروسي، وأن ذلك هو سبب المبالغات السياسية والإعلامية الغربية، أوروبية وأمريكية، فيما خص الهجوم الأوكراني المضاد الدائر اليوم، وهو أيضا سبب الصمت الغربي على تورط المخابرات الأوكرانية في تخريب خط أنابيب نورد ستريم 2 وفي أعمال عدائية في الداخل الروسي لكي تحتفظ كييف بمظهر الضحية التي يتعين دعمها وتتواصل شيطنة موسكو على كافة الأصعدة. فقالت منفعلة إن هدف إمدادات السلاح الغربي ليس هزيمة روسيا بل إجبارها على الانسحاب وأن أوكرانيا هي بالفعل ضحية العدوانية الروسية مثلما يمكن اعتبار ألمانيا وفرنسا وخلفهما بقية أوروبا ضحايا للخداع الروسي طويل المدى. رددت أن روسيا لن تفسر انسحاب جيشها، إن حدث، إلا كهزيمة وأن صورة أوكرانيا الضحية لا تتماشى مع تورطها في أعمال عدائية بعيدا عن أراضيها وعلى نحو يضر بالمصالح الاقتصادية لحلفاء لها (كان نورد ستريم 2 يورد الغاز الروسي للعدد الأكبر من دول القارة الأوروبية في وسطها وغربها).
ثم دفعت بتعجبي من أن يكون حديثي معها وهي دبلوماسية في وزارة خارجية بلدها منبت الصلة بالتنويه إلى أو مناقشة جهود دبلوماسية للبحث عن حل سلمي للحرب الروسية ـ الأوكرانية، وأن في تركيزها على الأبعاد العسكرية الدليل الأوضح على تماهي مواقف الأوروبيين مع الموقف الأمريكي الذي أراد منذ اللحظة الأولى المواجهة المفتوحة مع روسيا عبر تسليح أوكرانيا وفرض عقوبات اقتصادية وتجارية ولم يرد أبدا الاستثمار في الحلول السلمية. هنا قالت الدبلوماسية التي انتمت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين إلى حركة السلام الألمانية إن الحلول السلمية ليست أمرا محتملا في اللحظة الراهنة وأن مساعي الوساطة الصينية والتركية على سبيل المثال ليس لها سوى أن تعيد إنتاج اتفاقات مينسك 2014 وتلك أخفقت في ضمان سلام وأمن واستقرار أوروبا لفترة زمنية طويلة.
صمت احتراما للدبلوماسية رفيعة المستوى وللمكان الذي استضافتني به، وكان على طرف لساني تعقيبات بشأن الوساطة الصينية التي تتسم مساعيها بالجدية، ومطالب البحث عن حلول تفاوضية وسلمية التي صارت تخرج من داخل المجتمعات الأوروبية بعد أن أرهقتها تداعيات الحرب، ومعارضة الأحزاب الكبيرة داخل ألمانيا وفرنسا لمواصلة تصدير السلاح إلى أوكرانيا دون أفق لحل سياسي نهائي.
صمت، واستأذنت في الانصراف.