- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
عبود مصطفى عبود يكتب : في شارع الحمرا (2-3)
عبود مصطفى عبود يكتب : في شارع الحمرا (2-3)
- 29 مارس 2021, 11:37:17 م
- 1362
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كانت الدكتورة بينيلا وهي متخصصة في مقارنة الآديان، قد أرسلت لي رسالة عبر الواتس آب تقول فيها أنها ستمر علي في الفندق في تمام السابعة ومعها زوجها الكابتن إسماعيل أحمد نجم منتخب كرة السلة اللبناني، ونجم مصر السابق، فهو لبناني من أصل مصري، وذلك لدعوتي على العشاء وعمل جولة في بيروت، وليل بيروت لا يضاهيه في الجمال إلا ليل القاهرة، رددت عليها بكلمة واحدة، تمام.. ثم بدأت في الاستعداد لهذه النزهة الليلية، أشعلت التلفاز على قناة لبنانية كانت تحتفل بحلول ذكرى حرب أكتوبر قبل موعدها بعدة أيام، أخذت حماما باردا، ثم جمعت صلاة الظهر والعصر، وقررت النزول إلى المقهى لتناول فنجان قهوة، والمشي قليلا، في البهو قابلتني فتاة الفندق حيتني بابتسامة رددت التحية بأحسن منها، فسألتني هل أنا ذاهب إلى المقهى، قلت نعم، قالت لماذا لا تصعد إلى الرووف منه ستشاهد بيروت كاملة وممكن تأخذ قهوتك على المسبح، شكرتها وقلت ربما مرة أخرى أما الآن فأنا أفضل الجلوس على الهورس شو، أهم مقاهي الحمرا لأستشعر روح نزار قباني ومحمد الماغوط ومحمود درويش وبلند الحيدري وكل رموز الزمن الفائت..قالت في دهشة الهورس شو!! سيدي بعد الحرب الأهلية تغيرت أشياء كثيرة منها الهورس شو، فقد أصبح كوستا كافيه.. ضحكت وقلت لها أعرف ذلك، لكني أحب أن أقول عنه الهورس شو باسمه القديم ، يشعرني ذلك بلذة فلم تحرمينني منها؟
ابتسمت في خجل قائلة أتمنى لك قضاء وقتا سعيدا.
شكرتها وخرجت في الطريق رأيت واجهة دار النهار للنشر، وفيها بعض عناوين الكتب القديمة، من مكانها هذا كانت تصدر صحيفة النهار وكان طاقم تحريرها يكتبون مانشيتات الصفحة الأولى وهم يرتشفون القهوة في الهورس شو ويتابعون بنظراتهم أجساد الفتيات الجميلات في شارع الحمرا.
جلست في كوستا مدة نصف ساعة أتأمل عوادي الزمان في المكان، بعدها خرجت للمشي قليلا في الحمرا.
عدت إلى الفندق فقد اقترب موعد وصول بينيلا وكابتن إسماعيل.
في موعدهما تماما كانا أمام الفندق، سلمت عليهما وتحركنا بالسيارة إلى الزيتونة ساحة اليخوت، في الطريق مررنا بساحة جمال عبد الناصر ، وصورته العملاقة، ثم مررنا من أمام فندق سان جورج فأشار الكابتن إسماعيل إلى مكان ما، وقال هنا قتل الرئيس رفيق الحريري رحمه الله.
وصلنا ساحة اليخوت، ولفت نظري الترحاب الشديد بكابتن إسماعيل، جلسنا في مكان بديع يطل على ساحة اليخوت، تناولنا العشاء اللبناني الجميل، استسغت الطعام كله إلا الكبدة النية، دخن الكابتن والدكتورة بينيلا النارجيلة وسألوني إن كنت أحب أن أدخت فاعتذرت وشكرتهما، تصاعدت من جانبنا روائح التفاح والفراولة والعنب مع سحابات من الدخان، كانت الفتيات المدخنات أكثر كثيرا من الشباب، فتيات جميلات في عمر الزهور يجلسن مع أسرهن أو أصدقائهن ويدخن النارجيلة بتلذذ والبسمات تملأ الوجوه.
قالت لي بينيلا، أنها عاشت في مصر لمدة عامين، وأنها حاصلة على الماجيستير في مقارنة الأديان، وتعد الآن أطروحة الدكتوراه عن ابن تيمية.
قلت لها أن الفيلسوف الدكتور مصطفى حلمي كانت رسالته في الدكتوراه عن ابن تيمية. تهلل وجهها عند سماع الاسم وقالت
أنها تعرف ذلك وأن الدكتور حلمي بشخصه ومؤلفاته أحد أهم مصادرها ومراجعها، وأنها قابلته أكثر من مرة.
قلت لها إنه أستاذي، تتلمذت على يديه في دار العلوم، طلبت أن أحدثها عنه أكثر، قلت لها سأروي لك طرفة حدثت معه..
في سبعينييات القرن الماضي، لم تكن الكتب بهذا الإنتشار الواسع، وكانت مجلدات فتاوى ابن تيمية نادرة جدا، لكن كان هناك رجلا عظيما يعيش في الإسكندرية يمتلك صالونا للحلاقة، ويمتلك عقلا نيرا محبا للعلم كان الرجل يدعى الحاج محمد رشاد غانم، وكان يشتري النفيس من الكتب ويفتح مكتبته العامرة للباحثين وكان منهم الدكتور مصطفى حلمي، وأثناء مناقشة الرسالة، قال المناقش وكان يحمل الاسم نفسه محمد رشاد سالم، قال سائلا: ازاي يا ابني عملت كل الهوامش دي على مجلدات الفتاوى، ومفيش في مصر كلها غير نسختين، واحدة عندي والأخرى عند شيخ الأزهر.
فقال الباحث آنذاك مصطفى حلمي، في نسخة تالتة في مكتبة الحاج محمد رشاد وأشار إليه لأنه كان ضمن الحضور، فابتسم الرجل في خجل..
طالت الجلسة إلا بعد منتصف الليل، كانت بينيلا متحدثة لبقة، تمتلك ثقافة واسعة، وكان الكابتن إسماعيل إنسانا كريما ودودا، اتفقنا على مواعيد الغد، ومنها زيارة للجامعة والمتحف الوطني.
في اليوم التالي وفي الموعد المحدد بالضبط ذهبت إلى المكتبة الوطنية، استقبلني المدير في حديقة المكتبة بترحاب شديد، كان يحدثني وعيني تمسح الجهة الأخرى حيث حديقة الصنائع بحثا عنها، لاحظ الرجل ذلك فسألني، وأجبته أبحث عنها فقال مبتسما من هي؟
قلت في جدية مصطنعة: سامية محمود.
ضحك قائلا: ومن تكون سامية محمود؟
أجبته في جدية فتاة مصرية تعيش وحيدة في بيروت وتعمل في مكتبة أنطوان، وتأتي كل يوم في وقت الراحة من العمل إلى الحديقة.
قال في تلقائية إذن هي لم تأتي بعد، فوقت الراحة ما زال بعيدا، نظرت في دهشة مصطنعة قائلا: آه نعم لم أنتبه لذلك أشكرك، بعد قليل حضرت السيارة وأخذتنا إلى مركز دراسات الوحدة العربية، في بناية بيت النهضة بشارع البصرة في الحمرا، قابلتنا مديرته، رحبت بنا بشدة، تناولنا القهوة وتحدثنا في الشأن العام، كلمتنا عن تاريخ مركز دراسات الوحدة والتحديات التي يواجها، أسهبت في الحكي عن الباحثين المصريين الذين شاركوا بجهد كبير في المركز، وذكرت بعض الأسماء، منهم الدكتور علي الدين هلال، والأستاذ جميل مطر، والدكتور سعد الدين إبراهيم وآخرين.
كان اللقاء ممتعا ومشبعا بمشاعر من المودة، قررنا الإنصراف، وأبديت رغبتي في الرحيل منفردا، كنت أرغب في المرور على الصنائع لعلي أجدها، همس في أذني مدير المكتبة الوطنية مازحا، هل ستذهب للبحث عن سامية؟
ضحكت وملت عليه قائلا: سامية ماتت، سامية كانت الشخصية التي لعبتها فاتن حمامة في فيلم حبيبتي، والمأخوذ من قصة بورفا لازري للكاتب جابور فلازي، وسيناريو وحوار عبد الحي أديب.
أنصحك يا صديقي بمشاهدته فهو فيلم رائع جدا.
دخلت الحديقة من الباب الخلفي، ذهبت فورا إلى منتصف الحديقة حيث النافورة، جلست على الدكة الخشبية، أبحث بعيني وفجأة وكأن مشهد انتظار محمود يس يتكرر وجدتها تدخل إلى الحديقة وتسير كما كانت فاتن.. أقصد سامية محمود تسير، كانت ترتدي فستانا بسيطا لونه أبيض وتضع حزاما رقيقا على وسطها لونه أحمر، كانت فاتنة بحق، شعرت بسعادة حقيقية عندما رأيتها، ولم أحتاج إلى تطفل وحيل محمود يس في الفيلم للحديث معها، فقد رأتني وتوجهت نحوي قائلة: ها نحن نلتقي مرة أخرى.
ابتسمت وقلت لها لكنك لن تقرأي لي الكف هذه المرة، وإنما ستخبريني بحكايتك.
إذا كان هذا لا يضايقك، جلست وقالت في هدوء ولم تهتم بحكايتي.
أجبت اعتبريه نوعا من الفضول، أو ربما أرغب في معرفتك أكثر، ابتسمت وبدأت تحكي.