- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
لطفي العبيدي يكتب: التغيير في العالم العربي يأتي من داخله وليس من الخارج
لطفي العبيدي يكتب: التغيير في العالم العربي يأتي من داخله وليس من الخارج
- 12 مايو 2023, 3:35:13 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ما يحصل في السودان ربما مثال آخر ينضاف إلى الفوضى الخلاقة، ومشاريع التقسيم وإثارة الفوضى التي تتواصل إلى الآن، والتي عملت عليها مراكز فكر غربية، وجاهرت بها شخصيات معروفة من منظري تفتيت الدول وتقسيمها، وبعض الجهات الرسمية أيضا، التي بدأت تدعو منذ بداية الحراك الجماهيري في الدول العربية في 2011 وما تلاها، إلى إعادة فرز القوى السياسية وفق معادلة تفتيتية تقوم على المحاصصة داخل إطار الدولة، والتشجيع على دعم المجموعات الإثنية والأقليات، خاصة الميليشيات المسلحة التي أصبحت بفعل هذا الدعم الخارجي غير البريء والتشجيع المشبوه، تطالب بحصة، وبدور أكبر ضمن الكيان السياسي للدولة الواحدة الممزقة في ليبيا والسودان وسوريا وغيرها. هي أمور خطيرة ما زالت تداعياتها قائمة، وتنذر بتدمير الدولة الوطنية، ونسف أطرها الجامعة وهياكلها النظامية المفترض أن تكون موحدة ومنسجمة في إطار القانون.
الخيارات الجوهـريـة تحتاج إلى كيان جماعي متسق الوجهة، وليس كيانات متفرقة متنازعة الاتجاهات والنُظم. والدعوة أصبحت ملحة للعودة إلى الذات الحضارية والهوية القومية الجامعة، فما يسميها جابر الأنصاري «التسوية» التاريخية التي أسهم الغرب في فرضها على الشرق العربي، نرى بوضوح إلى أين أوصلت المنطقة. الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر، ولا بد أن يكون هناك تغيير ما، فالغرب منذ الفترة الاستعمارية وما بعدها، حال دون نشوء كيان جماعي بديل، وما زالوا يحاربون المحاولات الاتحادية، ويكفي امتعاضهم من التقارب العربي الأخير، ورغبة العرب في استعادة سوريا إلى حضن الأمة. وكذلك سياسة التقارب السعودي الإيراني. صحيح أنّ حركة القوى الإقليمية تنبع من تقييد حركة أمريكا بسبب نهاية عهد القطبية الأحادية على يد روسيا والصين تحديدا. ولكن من حق دول المنطقة أن تراجع سياساتها الإقليمية والدولية، مع مثل هذه المتغيرات الحاصلة في العالم، وأن تستفيد من التناقضات وصراع القوى، فهي ليست كيانات جامدة بلا فكر أو عقل استراتيجي لكي تبقى تتلقى الأوامر من واشنطن، أو تتلقفها وتساندها في لحظات تراجعها وتقلص نفوذها لمصلحة القوى الصاعدة. ويكفي حجم الدمار الذي لحق بالمنطقة منذ التدخل الأمريكي البريطاني في العراق، ومسارات الفوضى والتخريب التي تلتها.
لقد كان الأيديولوجيون على حق حين دعموا سياسة واشنطن تجاه العراق، باعتبار ذلك إيذانا بنظام عالمي جديد. ولعل الدرس الأول الذي تقدمه هذه السياسة يتمثل في أن الولايات المتحدة، لا تزال دولة خارجة على القانون بتوصيف تشومسكي، يشهد عليها في ذلك حلفاؤها وزبائنها الذين يفهمون حقا أن القانون الدولي حيلة وقناع يضعه الأقوياء على وجوههم حين الحاجة، ويحددون درجة الشفافية الملائمة لكل حالة. أما الدرس الثاني، فيكمن في أن ذلك السلوك له من الحصانة ما يحميه لدى المجتمع الثقافي، الذي له من الحدود القليلة التي يمكنه أن يخدم بها السلطة. وعندما نلتفت إلى العالم الثالث كما يسمونه، نستمع إلى الحقيقة البديهية التي يتجاهلونها في المجتمعات التي تعتبر نفسها ديمقراطية، حرة ومتحضرة، ومفادها، أن النظام العالمي الجديد، جديد فقط في تبنيه سياسات قديمة من الهيمنة والاستغلال، مع اختلافات شكلية عارضة، بهدف الإبقاء على دول وشعوب العالم في أماكنها الصحيحة، التي تخدم مصالح الغرب الصناعي ورأسماليته المتوحشة. يصرون حدّ اللحظة، على إبقاء النظام العالمي قائما على قواعد من وضعوها لترسيخ الهيمنة والسيطرة على العالم. وحتى مواثيق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية بقيت مجرد نصوص لم تطبق في عالم الاستقطاب وقاطرة الديمقراطية الليبرالية ومسارات العولمة، التي لم تتمكّن من القضاء على سياسات توازن القوى والسياسة الواقعية التقليدية، بقدر ما أدّت إلى تعزيزها أكثر. في نوع من الصراع الطبقي على نطاق عالمي، مع العديد من الجوانب المعقدة والتفاعلات.
الغرب منذ الفترة الاستعمارية، ما زالوا يحاربون المحاولات الاتحادية، ويكفي امتعاضهم من التقارب العربي الأخير، ورغبة العرب في استعادة سوريا إلى حضن الأمة
«عندما يدور الحديث عن الشرق الأوسط، فإن الهدف الأساسي للرئيس الأمريكي جو بايدن واضح، وهو يتمثل في أن تكون المنطقة ذات مستوى أعلى من الاستقرار وعدد أقل من الحروب، التي قد تنجر إليها الولايات المتحدة، وأن تكون المنطقة منفتحة أقل على الإرهاب الذي يهدد الأمريكيين، ومنطقة تساعد في ضمان أمن الطاقة في العالم»، حسبما جاء على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك ساليفان من أن الإدارة الأمريكية تسعى لتكون منطقة الشرق الأوسط «أكثر سلاما واستقرارا» يصعب تصديقه، فقط المصالح والرغبة في تواصل النفوذ هو ما ينطبق على استراتيجية واشنطن في المنطقة، وفعلا الإدارة الأمريكية تسعى لتكون منطقة الشرق الأوسط، منطقة لا يمكن لدولة أجنبية أن تهيمن فيها أو تحظى بتفوق استراتيجي على الولايات المتحدة. والإشارة المعهودة المرتبطة بضرورة إحراز تقدم في مجال حقوق الإنسان داخل الدول العربية هي، لازمة أصبحت فجّة ومحل تسويق، للتغطية على ديمقراطية ليبرالية جشعة، لا يهمّها سوى الهيمنة والطاعة، هي بالمحصلة ديمقراطية بترولية مرجعيتها الدولار والسوق والهيمنة لا غير، لا يمكن أن نُصدّق أنّ أصحاب المصالح ودعاة الهيمنة والتنافس على النفوذ، يعنيهم تغيّر المشهد السياسي أو الاقتصادي في المنطقة، على نحو ترسيخ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بديلا للطغيان السياسي. وما حدث في أفغانستان والعراق في الفترة التي تلت تدخّل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة هناك، تمّ تكراره في سوريا وليبيا. ومحاولة تغيير النظام بالقوة أدّى من جديد إلى العنف والفوضى المنتشرة إلى الآن. والمشهد يتكرر في السودان، وكأنّهم يرغبون في تدهور الأوضاع، والمضي إلى حرب أهلية، مع أن باستطاعتهم إيقاف نزيف الفوضى والاقتتال لو أرادوا ذلك. فوسائل الضغط موجودة، ولكن المصالح والأجندات تجعلهم يغلّبون الفوضى على الاستقرار السياسي والاجتماعي في دول المنطقة. وما حدث منذ ما يزيد عن عقد في معظم الدول العربية يعكس هذه الحقيقة، ويكشف بما لا يدع مجالا للشك مشروع «الفوضى الخلاّقة» ضمن لعبة الإدارة بالأزمات التي اعتُمدت كمنهج جيوستراتيجي، وهي سياسة واضحة الملامح تعيش في سياقها إسرائيل على تناقضات العرب وانقسامهم، وتشرذمهم الأيديولوجي والطائفي والمذهبي، واصطفافاتهم الضدية الخاطئة ضمن سياسة المحاور.
المنطقة العربية غنية بالموارد التي لا تقف عند حدود البترول، ومن غير المعقول مستقبلا أن تقوم الحكومات بإهدار هذه الموارد القابلة للنضوب، التي تشكل لها نافذة للتطور وفرصة لتغيير شكل المنطقة، لو تقوم باستغلالها بالشكل الأمثل، من أجل إحداث التنمية على مختلف الأصعدة، بمعنى أدق، من الضروري أن يتصالح الواقع العربي مع مسارات التنمية من أجل تجنب الوصول إلى مستقبل قاتم، خاصة في ظل عالم متغير، مليء بالأحداث، وعقاربه غير قابلة للضبط.