لماذا تصاعد التنافس الدولي حول تكنولوجيا الكم؟

profile
  • clock 27 أبريل 2023, 12:05:21 ص
  • eye 330
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تمكنت شركة “جوجل” الأمريكية، في أواخر فبراير 2023، من اجتياز معلم رئيسي في إطار سعيها لتطوير حوسبة كمومية فعالة قابلة للاستخدام؛ حيث تمكن مختبر (Google Quantum AI) من تقليل معدل الأخطاء الذي لطالما كان يعد عقبة كبرى أمام تكنولوجيا الكم (Quantum)، في تقدم ثوري جديد يسلط الضوء على جهود عملاق التكنولوجيا الأمريكي الذي يخوض منافسة تقنية محتدمة مع منافسيه، وفي مقدمتهم شركة (IBM)، بالتوازي مع منافسة دولية أخرى تنخرط فيها مختلف القوى الدولية؛ ففي ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة عالمياً، تلوح في الأفق ملامح ثورة تكنولوجية جديدة قائمة على الكم، وهي التكنولوجيا التي مكَّنت العلماء من دراسة الجزيئات الأساسية للمادة، مثل الذرات، والنيوترونات، والفوتونات، والكواركات وما شابهها، وقد تعددت تطبيقاتها في مختلف المجالات على الرغم من حداثتها النسبية، لتَعد بتحولات جذرية لأي صناعة تعتمد على السرعة وقوة المعالجة، بما في ذلك صناعة الطيران والسيارات والدواء وغير ذلك.

استخدامات متعددة

لعبت تكنولوجيا الكم، على اختلاف تطبيقاتها، دوراً في مجالات عدة، تشمل النماذج الرياضية المعقدة، والمحاكاة، والأجهزة الإلكترونية، وماسحات الأشعة المقطعية، وغير ذلك؛ إذ تمتلك تلك التكنولوجيا القدرة على إحداث ثورة في طريقة تواصل البشر ومعالجة المعلومات، وهو ما يغير بدوره من طرق إجراء البحث الطبي، وطبيعة التجارة العالمية، والمعاملات البنكية، والتعلم الآلي. وبوجه عام، يمكن الوقوف على أبرز مجالات استخدام تلك التكنولوجيا؛ وذلك على النحو التالي:

1– أهمية متزايدة في المجال العسكري: يمكن لأجهزة الكمبيوتر الكمومية إنشاء نماذج محاكاة جديدة لأغراض التدريب، كما يمكن لأجهزة الاستشعار الكمومية اكتشاف التغيرات الصغيرة للغاية في المعالم الفيزيائية (مثل:المجالات المغناطيسية، والمجالات الكهربائية)؛ ما يزيد فاعلية تطبيقات عسكرية عدة كتلك التي تتصل باكتشاف غواصات العدو، والألغام، وصواريخ الخصوم، وغير ذلك. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لأجهزة الاستشعار الكمومية إنشاء خرائط مفصلة لأراضي العدو، وقياس الإشارات الضعيفة جداً؛ ما يجعلها مفيدة لمهام مثل مراقبة الاتصالات اللاسلكية؛ ما يزيد أهميتها على صعيد العمليات العسكرية عالمياً، وينذر بتغير أسلوب الحرب ونتائج المعارك.

2– الاستخدام المتنوع في مجال الاتصالات: يمكن لأنظمة الاتصالات الكمومية القائمة على الليزر أن تتيح نقل البيانات بأسلوب أسرع وأكثر أماناً باستخدام الأقمار الصناعية، كما يمكن للاتصال الكمي أن يخلق قنوات آمنة لنقل معلومات مقاوِمة للتنصت؛ إذ يستخدم التشفير الكمي مبادئ ميكانيكا الكم لتشفير البيانات بطريقة يستحيل نسخها أو اعتراضها دون تغيير حالة النظام؛ ما يجعلها خياراً جذاباً للاتصالات الآمنة؛ لذا من المرجح أن تزداد أهمية هذه التكنولوجيا في المستقبل.

وتُعَد شبكات الاتصال الفائقة الأمان هي الأساس لما سيُعرف مستقبلاً باسم “إنترنت الكم” (Quantum Internet)؛ فعلى عكس الإنترنت التقليدي الذي يعمل باستخدام الإشارات الثنائية في حزم البيانات، فإن إنترنت الكم يستخدم الإشارات الكمومية بدلاً من ذلك؛ ليستفيد التواصل الكمومي من قوانين فيزياء الكم لحماية البيانات. وقد استفادت بعض الشركات من هذه الخاصية لإنشاء شبكات لنقل بيانات فائقة الحساسية.

3– التقدم التقني في المجال الطبي: يمكن توظيف تكنولوجيا الكم لتطوير الأدوات الطبية والعلاجات الدقيقة، بجانب اكتشاف الأمراض في مراحلها المبكرة، وتسليط الضوء على مخاطرها قبل ظهورها، وتحسين كفاءة التصوير بالرنين المغناطيسي باستخدام جزيئات الذهب النانوية، والكشف عن المؤشرات الحيوية في الدم وتصويرها.

كما يمكن تطبيق بروتوكولات التصوير المحسَّنة لتحسين دقة أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي الموجودة، كما يمكن أيضاً تطوير جيل جديد من تطبيقات الاستشعار والتصوير الطبي باستخدام جسيمات الماس النانوية، وقياس درجة حرارة الجسيمات الكمومية بدقة شديدة، كما صمم العلماء خيوطاً نانوية بوليمرية صغيرة توصل الدواء عبر بصيلات الشعر؛ ما يمكن من إيصال أدوية السرطان دون الإضرار بالخلايا السليمة.

4– التوظيف الاقتصادي لتكنولوجيا الكم: تسمح الحوسبة الكمية بحل المعادلات الرياضية – التي هي أحد أسس الاقتصاد العالمي – بسرعة فائقة، كما يمكنها معالجة الأزمات والتحديات الاقتصادية بصورة سريعة؛ ذلك أن محاكاة جزيئات صغيرة عبر جهاز كمبيوتر عادي قد تستغرق ملايين السنين. أما عبر الحوسبة الكمية فلن يستغرق الأمر عدة أيام، وربما دقائق معدودة؛ ما يسمح بمجابهة بعض التحديات الصناعية الكبرى، لا سيما مشاكل سلاسل التوريد.

ولا شك أن تكنولوجيا الكم يمكنها تغيير خريطة الصناعات الوطنية، لا سيما صناعة الأجهزة الإلكترونية، في ظل إتاحة حاسبات كمومية خارقة للجمهور منذ سنوات عدة مضت، وهي الحاسبات التي يمكنها تخزين ومعالجة كميات هائلة من البيانات بكفاءة أكبر بكثير من أجهزة الكمبيوتر التقليدية، لتقدم بذلك أساساً جديداً للاقتصاديات الرقمية واقتصاديات المعرفة، وتنذر بخطوات ‏جديدة‏ ‏في‏ ‏سبيل‏ ‏إنتاج‏ ‏جيل‏ ‏جديد‏ ‏من‏ ‏الأجهزة‏ ‏القادرة‏ ‏على‏ إتمام‏ ‏العمليات‏ ‏والحسابات‏ ‏بسرعة‏ ‏فائقة‏.‏

أبعاد الصراع

تتجلى أبرز ملامح التنافس الدولي في مجال الكم عند النظر إلى حجم الاستثمارات المنفقة على البحث والتطوير في هذا المجال التي تُقدَّر بمليارات الدولارات، وبالنظر أيضاً إلى ريادة عدد من الدول والجامعات التي استحدثت عدداً كبيراً من البرامج العلمية المعنية به، بجانب تنامي الدور الذي تلعبه كبريات الشركات التكنولوجية فيه، وهو ما يمكن الوقوف على أبرز ملامحه من خلال النقاط التالية:

1– الريادة الأمريكية في تكنولوجيات الكم: تقود الشركات التكنولوجية الكبرى الجهود الأمريكية لتطوير الحوسبة الكمومية ليتصدر – في هذا الإطار – مختبر أبحاث “جوجل” في كاليفورنيا الذي يُعد أول من حقق “تفوقاً كمياً” في أكتوبر 2019، حين أجرى عملية حسابية يستحيل على أقوى أجهزة الكمبيوتر العملاقة الكلاسيكية إجراؤها عملياً؛ فقد أجرى معالج (Sycamore) – الذي تبلغ سعته 53 كيلوبت – عملية حسابية في 200 ثانية، وهي العملية التي كان من شأنها أن تستغرق 10 آلاف عام من أقوى كمبيوتر عملاق في العالم.

وبجانب هذا، قامت شركة IBM في عام 2017 ببناء واحد من أكبر أجهزة الكمبيوتر الكمومية، واستثمرت بكثافة في كيوبتات فائقة التوصيل، وكشفت النقاب عن شريحة كمية تسمى “كوندور” (وهي أول شريحة تخترق حاجز 1000 كيلوبت) لتسجل رقماً قياسياً في مجال أشباه الموصلات في عام 2021، كما تمكنت الشركة في عام 2023، بالتعاون مع كليفلاند كلينك من تطوير الحاسوب “كوانتم سيستم ون” (Quantum System One) الذي يُعد أول حاسوب كمي في العالم مخصص لأبحاث الرعاية الصحية والطب الحيوي باستخدام الحوسبة العالية الأداء والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية.

2– مساعي الصين نحو التفوق الكمومي: حققت جامعة العلوم والتكنولوجيا الصينية التفوق الكمي بعد أن نجحت في تطوير جهاز الكمبيوتر الكمي المعروف باسم (Jiuzhang) الذي تفوق سرعته الكمبيوترَ الذي طورته شركة “جوجل” – الفائق الكم – بعشرة مليارات مرة. وتقود الصين جهود تطوير الاتصالات الكمومية، وتتصدر العدد الإجمالي لبراءات الاختراع في مجال تكنولوجيا الكم.

وتعطي الوثائق الاستراتيجية الصينية تلك التكنولوجيا الأولوية بهدف تطوير الحوسبة الكمومية والاتصالات بحلول عام 2030. والجدير بالذكر أنه بين عامي 2019 و2021، استثمرت الصين ما يصل إلى 11 مليار دولار في هذا المجال، كما شغلت الصين العديد من الأقمار الصناعية التي تدعم الكم، واتخذت خطوات نحو إنشاء شبكات اتصالات كمومية آمنة من الأرض إلى الفضاء. ويُزعم أن الصين صممت راداراً كمومياً قادراً على اختراق التقنيات العسكرية الشبحية التي كانت سبباً في تفوق الجيش الأمريكي، والغواصات الأكثر تقدماً لعقود ممتدة.

كما حققت الصين مؤخراً عدة طفرات بارزة بعد أن أجرت عدداً من التحسينات الكمية المهمة في أغسطس 2022؛ حين كشفت شركة التكنولوجيا الصينية “بايدو” النقاب عن أول كمبيوتر كمي لها، الذي يستخدم بتات كمومية أو كيوبت لإجراء حسابات معقدة بسرعات غير مسبوقة؛ إذ يمكن لأجهزة الكمبيوتر الكمومية أن تسمح للصين بكسر بروتوكولات التشفير الحديثة، ودفع وتيرة أبحاث التعلم الآلي، وتحسين عمليات المحاكاة.

والجدير بالذكر في هذا الإطار أن “بايدو” تؤمن بأن الحوسبة الكمومية هي قلب الجيل القادم من تكنولوجيا الحوسبة؛ لذا تكثف أبحاثها لدمج تقنيات الكم ذات الصلة في الأعمال الأساسية، بجانب بناء القدرات التكنولوجية الكمية (بروتوكول الإنترنت، والمعايير، وبراءات الاختراع… إلخ)، وتطوير التطبيقات الرئيسية في الأعمال الأساسية بالتركيز على الذكاء الاصطناعي الكمي، وخوارزمية الكم، والهندسة الكمومية.

3– اهتمام الدول الأوروبية بتكنولوجيا الكم: تركز أوروبا على التقنيات الكمية “القريبة من السوق” ذات الفوائد التجارية، مثل شبكات الاتصالات، والكاميرات الفائقة الحساسية، وبرمجيات الأجهزة الكمية، كماأحدثت 20 جامعة تابعة لعشر دول أوروبية ثورة في التعليم والتدريب في مجال التقنيات الكمية من خلال 16 برنامجاً دراسياً جديداً.

وأهم هذه البرامج DigiQ (ماجستير تكنولوجيا الكم المعزز رقمياً)، وهو مشروع تابع لشركة (Quantum Flagship) يُموَّل بمنحة قدرها 17.6 مليون يورو على مدى أربع سنوات من خلال برنامج أوروبا الرقمية التابع للمفوضية الأوروبية، وهو ما يخلق قوة عاملة جاهزة للكم، ويطور سبلاً لتوفير المعلومات للتحولات القادمة في المجالات الرقمية المتقدمة الأخرى، مثل الذكاء الاصطناعي، وعلوم البيانات والروبوتات، مع تكثيف التدريب على البحث والصناعة في أكثر من 100 شركة ومختبر أوروبي؛ ما يسرع تطوير البرامج الجديدة على مدى السنوات الأربع القادمة، بالتشبيك مع شبكات دولية متخصصة تتكون من كبار الباحثين وشركاء الصناعة.

وخلال الفترة من 2021 إلى 2027، سيعزز برنامج أوروبا الرقمية الشركات والمواطنين والخدمات العامة بتقنيات رقمية جديدة وناشئة في مجالات الحوسبة العالية الأداء والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني والروبوتات وتقنيات الكم.

4– محاولات روسية لمنافسة الدول الأخرى: تسعى موسكو جاهدة للحاق بركاب الدول الأخرى في سباقها لتطوير تقنيات كمومية عملية؛ ولذا خصصت في عام 2020 نحو 50 مليار روبل (790 مليون دولار أمريكي) حتى عام 2025 لإجراء أبحاث كمومية أساسية وتطبيقية في مختبرات روسية رائدة، تأتي الجامعة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا في موسكو ومركز الكم الروسي (RQC) – وهو منشأة أبحاث خاصة في سكولكوفو بالقرب من موسكو – في مقدمتها.

كما وجهت روسيا بضرورة استقطاب علماء الفيزياء الكمومية – من خلال المنح البحثية – للتغلب على هجرة العقول البشرية المتخصصة في هذا المجال منذ عقد التسعينيات، كما أطلقت روسيا – بدعم حكومي جاد – مبادرة وطنية لإنتاج كيوبتات محلية الصنع. وقد تمكنت روسيا من تطوير نموذج أولي للكمبيوتر الكمومي “4 كيوبت أيون” بالتعاون مع مركز الكم الروسي ومعهد ليبيديف للفيزياء التابع للأكاديمية الروسية للعلوم وشركة “روساتوم الروسية الحكومية للطاقة الذرية” التي كانت تنسق جهداً بين الباحثين بدأ في عام 2019 بهدف تطوير كمبيوتر كمي بحلول عام 2024.

5– تحركات كندية متسارعة في تكنولوجيا الكم: تلعب الجامعات الكندية، لا سيما جامعة واترلو، والشركات الناشئة الكمومية حولها، دوراً بارزاً في ريادة كندا عالمياً في مجال تكنولوجيا الكم، حتى أطلق على المنطقة المحيطة بها اسم (Quantum Valley)، وهي المنطقة التي ترتبط بصندوق رأس المال الاستثماري المعروف باسم (Quantum Valley Investments) المخصص لتكنولوجيا الكم فحسب.

وبالتوازي مع ذلك، أطلقت الحكومة الكندية في 13 يناير 2023 “استراتيجية الكم الوطنية” لخلق فرص عمل وتطوير تقنيات الكم التي تدعم بدورها الاقتصاد الكندي. وقد نهضت تلك الاستراتيجية على 3 ركائز؛ هي: البحث من خلال تخصيص 141 مليون دولار لدعم البحوث الأساسية والتطبيقية لإيجاد حلول وابتكارات جديدة، وتنمية المواهب من خلال تخصيص 45 مليون دولار لتطوير الخبرات والمواهب الكمية، والتسويق من خلال تخصيص 169 مليون دولار لترجمة الأبحاث إلى منتجات وخدمات تجارية قابلة للتطوير. ويتمثل الهدف الرئيسي لها في تزويد كندا بشبكة اتصالات كمومية آمنة وطنية، وقدرات تشفير ما بعد الكم، ودعم المطورين الكنديين في مجال تقنيات الاستشعار الكمي الجديدة بدعم من مجلس أبحاث العلوم الطبيعية والهندسة في كندا(NSERC) .

6– استخدام تكنولوجيا الكم في دعم الصناعة الأسترالية: تهدف أستراليا إلى توظيف تقنيات الكم لدعم الصناعة الأسترالية بقيمة 2.2 مليار دولار وتوفير 8700 وظيفة بحلول عام 2030، وقد يصل هذا إلى 6 مليارات دولار و19400 وظيفة بحلول عام 2045؛ إذ تمتلك أستراليا قدرات بحثية عالمية المستوى، وصناعة كمومية تتوقع على إثرها هيئة البحوث الأسترالية (CSIRO) أن تحافظ أستراليا على نقاط قوتها التنافسية عالمياً في مجال البحث والتطوير في مجال تكنولوجيا الكم، وتطوير صناعة تقنية كم مزدهرة بحلول عام 2040.

وتتمثل أهم أهداف الحكومة الأسترالية في تنمية صناعة تكنولوجيا الكم من خلال تركيز وتنسيق جهود تطوير صناعتها الوطنية، وبناء قوتها العاملة الكمية وقدرات البنية التحتية، ودعم التعاون المثمر مع الشركاء المحليين والدوليين. وتجد تلك الأهداف جذورها في خارطة طريق لعام 2020، وهي خارطة الطريق التي هدفت إلى بدء محادثة بين الحكومة والباحثين والصناعة حول فوائد تكنولوجيا الكم للصناعة الأسترالية، والقيمة الاقتصادية الطويلة الأجل التي يمكن إنشاؤها من خلال تنمية صناعة الكم المحلية المزدهرة.

عوامل مؤثرة

تتعدد العوامل المؤثرة في السباق التكنولوجي المحتدم بين الدول الكبرى في مجال تكنولوجيا الكم، وهي العوامل التي يمكن الوقوف على أبرزها من خلال النقاط التالية:

1– الاستفادة من المميزات التنافسية لتكنولوجيا الكم: ستمتلك الدول الرائدة في مجال تقنيات الكم مجموعة من القدرات الحاسمة في مواجهة منافسيها الاستراتيجيين؛ إذ تتضمن تلك القدرات كسر طرق التشفير الحالية، وبناء شبكات اتصالات مشفرة غير قابلة للكسر، وتطوير أجهزة الاستشعار الأكثر دقةً في العالم، وغير ذلك.

إذ تتم حماية معظم الاتصالات عبر الإنترنت – بما في ذلك المعاملات المالية ومنصات الرسائل النصية الشائعة – بواسطة مفاتيح تشفير قد يستغرق الكمبيوتر التقليدي ملايين السنين لفك تشفيرها، وإن تمكن الكمبيوتر الكمي من كسرها في أقل من يوم واحد، كما ستكون الدولة الرائدة في مجال الكم قادرة على تهديد البنية التحتية للمعلومات التابعة للجيش والحكومة والقطاع الخاص بشكل أسرع من قدرة الخصم على تفعيل دفاعات فعالة، كما تتمتع تقنيات الكم أيضاً بقيمة سوقية هائلة؛ حيث من المتوقع أن تصل الحوسبة الكمية وحدها إلى قيمة سوقية عالمية تبلغ تريليون دولار بحلول عام 2035.

2– حدود التعاون الأورو–أطلسي: من المرجح أن تتعاون إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” مع الحلفاء الأوروبيين لتطوير أبحاث “الكم”. ومن ثم تصبح الاتفاقيات الثنائية بين الولايات المتحدة وفرنسا، وبينها وبين سويسرا، وبينها وبين الدنمارك خطوة أولى لتحفيز الابتكار، وتعزيز نماذج الحوكمة التكنولوجية، وضمان قابلية التشغيل البيني للأنظمة التقنية الأمريكية والحليفة، وتسليط الضوء على نقاط الضعف المحتملة.

وعلاوةً على ذلك، قد تكون القيود التجارية المتعلقة بالكم ضرورية لمواجهة التهديد الصيني في المستقبل، قياساً على جهود إدارة “بايدن” للحد من صادرات أشباه الموصلات إلى الصين. ولا شك أن التعاون الأورو–أطلسي سيسهل تنفيذ قيود تجارية فعالة ومتعددة الأطراف في المستقبل القريب، كما قد تتجه إدارة “بايدن” للبناء على مبادرات أمن الأبحاث العلمية والتكنولوجية الحديثة من خلال مشاركة معلومات التهديد الأجنبي مع شركاء الصناعة، لا سيما أن شركات القطاع الخاص تقود حالياً تطوير الكم وتحديد التطبيقات الكمومية الجديدة.

3– عظم حجم الاستثمارات: من المرجح أن يزيد المستثمرون من القطاع الخاص في الولايات المتحدة من تمويل أبحاث تكنولوجيا الكم في السنوات القادمة. وقد خصص قانون مبادرة الكم الوطنية الذي تم توقيعه في عام 2018 مبلغ 1.2 مليار دولار لاستثمارها في علم المعلومات الكمومية على مدى السنوات الخمس المقبلة. ومع ازدهار المزيد من الشركات العاملة في هذا المجال، من المتوقع تخصيص مزيد من الموارد المالية، واحتدام المنافسة الدولية أيضاً، لا سيما أن المفوضية الأوروبية خصصت مليار يورو (1.20 مليار دولار) للأبحاث الرائدة في هذا المجال.

4– تصاعد حدة السباق النوعي: لا شك في صدارة الولايات المتحدة الراهنة لتكنولوجيا الكم على اختلاف تطبيقاتها، بيد أن بعض التحليلات دفعت بأن تلك الصدارة آخذة في التراجع بالنظر إلى كثافة الجهود الصينية والأوروبية في هذا المجال من ناحية، ولاحتدام المنافسة الدولية في المجال نفسه من ناحية ثانية؛ فبعد عرض الصين القمر الصناعي Micius في عام 2017، خصصت الولايات المتحدة مئات الملايين من الدولارات للاستثمار في علم المعلومات الكمومية عبر مبادرة الكم الوطنية.

وفي وقت سابق، أطلقت أوروبا مشروع أبحاث الحوسبة الكمومية بقيمة مليار دولار أمريكي تحت اسم Quantum Flagship، وقد بدأت مختلف الدول الأوروبية تبني بنية تحتية للاتصالات الكمية كي يتم تشغيلها بحلول عام 2027. وعلى المنوال نفسه، تعطي خطة الصين الخمسية الرابعة عشرة (2021–2025) الأولوية لتطوير الحوسبة الكمومية والاتصالات بحلول عام 2030.

5– تعدُّد المخاطر الجيوسياسية المحتملة: مع التطور العلمي المُطَّرد، قد يصبح إنشاء أجهزة الكمبيوتر الكمومية أولوية للدول التي ترغب في اكتساب الميزة التنافسية التالية في العصر الرقمي؛ فمن المرجح أن تُحوِّل التقنيات الكمومية كل صناعة تقريباً، من السيارات والفضاء إلى التمويل والمستحضرات الصيدلانية، بما يخلق قيمة جديدة تتراوح بين 450 مليار دولار و850 مليار دولار على مدى 15 إلى 30 سنة القادمة.

كما ستشكل أنظمة الحوسبة الكمومية تهديداً كبيراً للأمن السيبراني في جميع أنحاء العالم؛ فقد يتمكن المتسللون من استخدامها لفك تشفير المفاتيح العامة، ولاختراق أمان أي جهاز أو نظام أو شبكة مشفرة تقليدياً؛ ما يتطلب تطوير إجراءات مضادة، مثل التشفير اللاحق الكمي، الذي سيتطلب في حد ذاته استخدام الأنظمة الكمومية.

ختاماً، يمكن القول إن السباق المحتدم على تكنولوجيا الكم لا يعدو كونه “سباق ماراثون دون مسار أو بداية أو نهاية واضحة”؛ فمشهد الابتكار في هذا المجال مليء بالفروق الدولية، ويعج بالمؤسسات والشركات العالمية المتخصصة التي تكثف جهودها لتحقيق السبق والريادة، ولا يخلو من برامج وطنية واستراتيجيات كمومية تمتد لعقد من الزمن على الأقل. وبينما تخصص الدول الكبرى ميزانيات تقدر بمليارات الدولارات، أصبح من الواضح أن المنافسة الشرسة قد احتدمت بالفعل؛ وهو ما قد يعود على البشرية جمعاء بالنفع، وإن كرس احتكارات وتفاوتات علمية فجَّة.

التعليقات (0)