محمد قدري حلاوة يكتب : وجوه

profile
محمد قدري حلاوة قاص واديب مصري
  • clock 6 يونيو 2021, 1:07:12 ص
  • eye 695
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

 البدايات التي لا تهم أحد)

(١)

كان يتقافز في الطريق يمضي بخطوات متسارعة.. يد مضمومة أصابعها في فمه تطلق " صفيرا" شجيا .. كأنه نايا حزينا يزفر نغمات الأسى من بين ثقوبه..يده الأخرى معلقة خلف كاهله تحمل " شماعات" الملابس " المكوية" حينا وكومة الملابس " المغسولة" " المربوطة" داخل ملآة سماوية حينا آخر..  يأخذ في ركل حجارة الطريق والعدو خلف القطط والعصافير اللاهية.. أصابع قدمه تبرز مسودة من بين ثنايا حذاؤه البالي المثقوب.. ملابسه الرثة متهدلة من بنطاله الكبير المشدود حول جيده بحبل سميك.. يظل يرفعه ويحكم قيده بين حين وآخر.. هكذا ديدنه كل يوم وآن.. منذ ساعات الصباح الأولى حتى ينتصف الليل أو أقل قليلا.. آثار خطواته مرتسمة على تراب الطريق.. تمحوها هبات الهواء بعد حين.. يالا الطرق الخائنة تنكر آثار خطواتنا المحترقة .. كنت أراقبه دوما من الشرفة.. يلوح لي بيده مبتسما بوجهه المليح وشعره المهوش عندما ينظر لأعلى.. يختفي من ناظري سريعا منعطفا نحو إحدى الحارات المتفرعة.. وإن كان صوت " صفيره" يظل يدق في أذني..

أحتدت مباراة الكرة وعلت صيحات الحماس.. سمعت صوت " الصفير" يلوح من بعيد معلنا قدومه.. أنتحي جانبا ينظر إلينا في شغف.. يهتف عاليا " صح كده.. باصي له... جوووون".. غادر أحد الأصدقاء المباراة إستجابة لنداء والدته وسط صيحات الإستهجان.. يمكنه أن يؤجل شراء " الخبز" بعض الوقت.. لم يكن أمامنا سوي أن يكمل " عايش" تلك المباراة حامية الوطيس.. أخذ يجري ويصول ويحول وعيناه لا تكف عن الحركة مصوبة نحو الملآة السماوية.. كان كأنه يعدو في البراح كالسيل عندما يهبط من عل لا شئ يوقفه.. فجأة إنحلت عقدة " الحبل" وسقط بنطاله.. توقف ينظر نحونا خجلا وقد أستغرقتنا موجة عنيفة من الضحك.. رمقنا وقد أطرق رأسه وأخذ يهيئ ملابسه من جديد ويحكم العقد.. أنصرف دون كلمة واحدة وحمل " كومة" الملابس ملقيا إياها خلف ظهره ومضى بعيدا ماسحا عرقه..أخذ يتلفت إلى الوراء بين فينة وأخرى ينظر نحونا  وقد عادت المباراة من جديد..

عندما وصل إلى " المحل" نهره " الأسطي" بشدة.. " إيه اللي أخرك يا إبن الكلب".. وألقى بقطعة من الخشب، نحوه أصابت قدمه.. ترك الملابس وعدا مسرعا وبعضا من الدمع يترقرق في مقلتيه.. لم يعد مرة أخرى.. صرت لا ألمحه رائحا غاديا.. أختفي صوت الناي الحزين.. بالتأكيد أنه واصل السير و " الصفير" في طريق أخر.. ربما أصبحت نغماته أكثر حزنا وأعمق شجنا.. لكنه يقينا سينكر الطريق الجديد وقع خطواته.. سيمحوها.. كل الطرق خائنة.. كل الدروب منكرة.. آثار العرق والدموع والدم تجف بعد حين.. نذهب نحن كذلك.. ويبقى الطريق صامتا لا ينطق.. لا شئ يثبت أننا مررنا من هنا أبدا..

(٢)

تراه يسير كل صباح بقامته المنحنية يحمل في يده أرغفة العيش الطازج.. وقرطاس من الورق _ تعلوه " حزمة" من " الجرجير"_ ملئ بأقراص  " الطعمية" الساخنة وقد تشرب ببقع الزيت " .. يتأبط جريدة الأهرام العريقة..يمضي دوما في تؤده مستندا إلى " عكازه".. يختفي خلف باب المنزل العتيق لبضعة ساعات.. في ساعات " العصر" يظهر من جديد.. يأخذ في " رش" مدخل المنزل بالماء مستخدما " خرطوم" طويل.. ثم يجلس مستلقيا على مقعد مهترئ من الجلد وقد وضعت عليه بعض الحشوات القطنية ".. تلوح نسمات الهواء المنعشة ويهيئ بروز الشرفات مساحة آمنة من الظل.. يبدأ في تصفح الجريدة وقد وضع على عينيه عوينات سميكة وسلسلة صدئة تتسلل من خلف عنقه.. نصف ساعة أو نحو ذلك ويبدأ الأصدقاء في الإلتفاف حوله وقد تراصوا على مقاعد من" الخوص " إستعاروها من المقهى المجاور.. لحظات وتأتي " الشيشة" و " صينية" الشاي ويأخذ " صبي القهوجي" في الطواف حولهما " يرص" قطع الفحم المشتعل " نافخا" فيه حتى يتوهج ويبدأ حديث السياسة الذي لا ينقطع..

يوم ماطر.. أتى بائع " الخبز" الصغير مسرعا بدراجته.. كان يحمل " فقص" " الخبز" فوق رأسه يسنده بيد.. ويقبض على المقود بالأخري آخذا في رن الجرس بين حين وآخر.. فجأة أنرلقت الدراجة في بركة مياه متجمعة وسقط الصبي الصغير مصطدما " بالحاج عبد الله" وهوي الإثنين أرضا وقد تناثر الخبز و أقراص" الطعمية" وطفت حزمة " الجرجير" حولهما.. تجمع المارة وكادوا يفتكون بالغتي العابث.. لطمه أحدهم على وجهه " مش تاخد بالك يا حيوان".. نهض " الحاج عبد الله" مستندا على أحدهم وقال وهو يعرج عرجا خفيفا" معلش مكانش قصده.. جت سليمة إن شاء الله".. كان الصبي يبكي وهو يرى الخبز ملقي على صفحة المياه.. بينما كان العجوز يطمئن على سلامة جريدته وأنها لم تتلوث بالماء.. وصورة الرئيس " السادات" تزين الصفحة الأولى مصحوبة ببعض العناوين الحمراء.. آخذا في تقليب عويناته السميكة .. مد يده في جيبه ودس جنيها كاملا في يد الصبي ماسحا على رأسه وهو يسحب يده التي أخذ الصبي يقبلها بجنون.. تهادت بعض القطط حول الطعام الساقط تتحسسه بأنفها.. ثم سرعان ما أنصرفت حاسرة تموء بحزن..

مضى " الحاج عبد الله" في سيرورته وطقوسه اليومية.. وإن كان قد ظل يعرج لبضعة أيام عرجا خفيفا.. متلفتا خلفه بين فينة وأخرى في حذر...والقطط تسير بلا إكتراث حوله.. لم يتبدل شيئا في المشهد.. ربما فقط ما تغير هو تاريخ الجريدة المطوية.. وصورة الرئيس مازالت تزين صفحتها الأولى تحت" المانشتات" العريضة الحمراء..

(٣)

كان يبرز بجسده الممشوق ووجهه المحمر مرتديدا " البالطو" الآبيض " يجر" عربته " الزجاجية" المميزة..يسير كعادته مبتسما بلا ضجيج.. مناديل بصوت محبب " الحلويات الطازة"..يحرك عربته بمهارة وسط زحام  السيارات التي لا تتوقف.. يلقى بتحية الصباح على أصحاب الحوانيت الصغيرة المتراصة على الطوار.. هذا يرش الماء من " خرطوم" صغير أمام " الدكان ".. وذاك يرتب بضاعته بعناية بشكل جمالي يجذب الزبائن.. وثالث يجلس مستكينا وقد بسط جريدة الصباح بين يديه وخفض رأسه منهمكا في قرائتها..

" عم جمعة" الحلوانى.. كان يكفيك قطعة معدنية صغيرة مرسوما على وجهها النسر المهيب " بخمسة" قروش كي تحصل على " خرطة " كبيرة من" البسبوسة" اللذيذة.. كان يقطعها بسكينه المميز من وسط الصحيفة ( الصينية) النحاسية الكبيرة.. يقدمها في طبق أبيض نظيف مع " شوكة" فضية مغلقا باب العربة مرة أخرى .. كانت دائما ساخنة تنز بطعم "السمن البلدي".. لا مانع أن يضيف قطعة أخرى صغيرة  من " الكنافة " أو " البقلاوة"" فوق البيعة ".. نادرا ما كان يتوقف في مكان ثابت.. يظل يجول بعربته في الحارات والعطوف وشارع" زين العابدين " قاطعا إياها جيئة وذهابا... 

صوت فرامل شديدة لسيارة نصف نقل.. تحطمت العربة الزجاجية وسقطت شظايا الزجاج مختلطة بالحلويات .. بينما آثار دماء غزيرة تسقط من جبهة" عم جمعة "..

أختفي عم جمعة لأيام عدة.. طل يسعى بعربته قادما من أول الحارة من جديد.. كانت العربة تزهو بطلاؤها الأبيض الجديد وزجاجها اللامع المصقول.. بينما بدت ندية عميقة تتوسط جبهته... وإن كانت لم تغير من إبتسامه شيئا... وخرزة زرقاء كبيرة تتدلي من مقدمة العربة..

التعليقات (0)