- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
محمد كامل خضري يكتب : الجاسوس
محمد كامل خضري يكتب : الجاسوس
- 18 يونيو 2021, 3:44:23 ص
- 862
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
فى اﻷجازات المدرسية كنت دائما أبحث عن عمل...أى عمل... ليس عن حاجة ملحة...ولكن رفاهية أن يكون لك قميصان بدلا من قميص وأن تشترى كاوتش للعب الكورة (وليس كوتشى)بدلا من اللعب حافيا...رفاهية أن تحمل كتبك فى جلدة بلاستيك تحميها بدلا من أن تمتص الكتب وسخ وعرق يديك...رفاهية أن يكون لديك كتاب خارجى للمادة...رفاهية أن تدخل السينما (ترسو)لتشاهد فريد شوقى يضرب عصابة محمود المليجى ...مرة إضافية فى الشهر
كنت فى الصف الأول الإعدادى وإلتحقت بالعمل مع جار لنا أسطى يعمل فى المعمار أقرب له طوب البناء بعد أن أبلله ...وألم ساقط المونة من تحت الجدار بعد الإنتهاء من البناء وأكحل بها الفراغات التى بين الطوب حتى تصبح للناظرين أجمل أقرب له قراونة المونة بعد أن أملأها من المخمرة وهكذا كل الأعمال اللوجستية المتعلقة بالبناء كنت مسئولا عنها إنتهاءا بجمع العدة من الخيط والمسطرين وميزان المية الذى يحافظ على أفقية البناء وميزان الخيط الذى يحافظ على رأسية البناء فيرتفع شامخا فى أناقة ... قال لى فى منتصف اليوم فى أول يوم عمل لى آتنا غداءنا نحتاج بعض الراحة وبعض الطعام فذهبت أحضر الجبنة والعيش والبطيخ وكان هذا غداءنا اليومى فإذا عز البطيخ إستعضنا عنه بالخيار ...البطيخ الشلين كان يباع شرايح على الطبالى وعلى قارعة الطريق للعمال كما رأيته فى أوربا وأمريكا بالظبط !
والفرق الوحيد هم يعرضونها فى المبردات الزجاجية مغلفة والبائع عندنا يستعيض عن التغليف بالمنشة حتى يطارد الدبان !
لاحظت فى طريقى شخصا يلبس بدلة كاملة بالكرافته جالسا على مصطبة رخامية لأحد البازارات السياحية لابسا نضارة شمسية وعندما رأى أحدهم وضع صحيفتة أمام عينيه بطريقة مريبة...خرم بالصحيفة فتحتان مستديران تتيحان لعينيه أن يبصرا المارة ويراقب دون لفت أنظارهم فلما مر ذلك الرجل خفض صاحبنا الصحيفة فإذا مر شخص آخر سارع بوضع الصحيفة أمام عينيه مرة أخرى متابعا له من الفتحات فإذا مر وضع الصحيفة !
فأنزعجت وأضطربت لأنى كنت أيامها أقرأ كثيرا الصحف السيارة عند محسب بتاع الجرائد...وكانت تُنشر سلسلة حلقات عن الجاسوسية لصحفى اسمه محمود عوض...فى أخبار اليوم فى تلك الأيام الصعبة التى تلت النكسة وتطابقت الصور فى ذهنى مع ماأرى من هذا الرجل وماشاهدته فى السينما...جزمت أن من رأيته هو جاسوس بإمتياز...ونحن فى حرب مع اسرائيل ولابد أن يكون هو أحد جواسيسها !
فعدت الى اﻷسطى مفزوعا دون الغداء وأنا أرتجف وأعلمته بما رأيت... هدأنى ثم قال لى هل كلمك؟ قلت له لا ...قال هل إعترضك؟ قلت لا ..هل لمسك ؟ قلت لا ...قال دعك منه إذهب ومر من طريق آخر وهات الغدا ...تبا لك يا أسطى سيد إنك لا تفهم إلا فى اﻷسمنت ورصة الطوب وخلطة المونة والمدماك ولاتفقه شيئا فى اﻷمن القومى ولا فى علوم الجاسوسية !
وإنقضت الأجازة وأنا أعمل مع الأسطى سيد إبن جليلة كنت أمر عليه فى بيته فى الصباح وأحمل عنه شيكارة العدة...وأمر لشراء الغداء من طريق آخر...
ومرت الأيام ولم أشاهد هذا الرجل بعدها أبدا ولم أحاول...إذن لقد أفلت الجاسوس منى وضيعت من نفسى فرصة أن أكون بطلا قوميا ومن المشاهير وأن تزين صورتى الجرايد
ومرت الأيام وأختفى الموضوع إلى قاع الذاكرة وتركت تلك المدينة وتركتها أسرتى بعد حصولى على الثانوية العامة...وذهبت إلى الجامعة ومرت سنوات قليلة وعدت الي مدينتى المحبوبة... زائرا ولأتذكر مامضى من أيامى الحلوة وللصدفة الغريبة وأنا أمر على مواقع عملى السابق وماشاركت فى بنائه وجدت ذلك الرجل وقد كبر سنه وهو يرتدى بدلته كاملة وكرافتته وإن بديا أسوأ حالا جالسا فى نفس المكان...وعندما رآنى وضع تلك الصحيفة المثقوبة أمام عينيه بنفس الطريقة ...أوه ياربى يالهذا المسكين إنه مريض نفسى ربما كان يوما جنديا هزته أهوال الحرب أو مثقفا أودت بعقله صدمة الهزيمة المُرة بعد أن روج الإعلام أننا سندخل غدا تل أبيب !
لقد كنت فى تلك السنوات أسير إستنتاجى الأول ....وهاأنذا أكتشف ضلال ماكنت أعتقد...معذرة ياأسطى سيد لقد أسأت الظن بك...ووقفت أتأمل الرجل الذى أرعبنى يوما...إنه مريض بائس...سجين مرضه العقلى... ولكن عذرى أننى لم أكن أعرف فى تلك السن الصغيرة أن هناك مرض نفسى وغياب للعقل قد يكون جزئى أوكلى عند بعض البشر وقد يصل للجنون ...ولكننى عندما كبرت وتعلمت...عرفت أن العقل مغيب عند بعض البشر وحاضر عند البعض...وأننا دائما مانكون أسرى قناعاتنا الأولى التى يحكمها علمنا وخبرتنا ثم نكتشف بعد وقت طويل أنها قناعات خاطئة ومن يومها وأنا أتعامل مع الناس ممن لايحسنون التصرف أو يقومون بتصرفات غير مفهومة أو غير مبررة كأنهم ذلك الرجل إلى أن يثبت العكس...جربوها !