محمد كامل خضري يكتب : تجارب خطيرة

profile
  • clock 19 يونيو 2021, 2:23:12 ص
  • eye 657
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

 فى صيف 1971 إنتهت من دراسة الصف اﻷول ثانوى وبحثت عن عمل فى الأجازة كالعادة... واحد بلدياتى يعمل فى السد العالى وله أبن يكبرنى بعام فى مدرسة الصنايع سأكلمه الليلة وليجرى الله الخير على يديه إنه بدوى .

طرقت بابه عشاءا...

-شئ لله يابدوى ...

-أهلا ياصديقى ؟ 

قلت له أنت تعمل مع والدك فى اﻷجازة

 قال نعم ...

قلت له أريد أن أعمل معكم ...

قال لى انه لايعمل مع أباه لكن المقاول الذى يعمل معه ربما يحتاج بعض العمالة ...

انتظر الرد غدا...

    وجاءنى فى الغد مبشرا ستنزل ان شاء الله معى غدا فى الصباح مبكرا ،سنركب قطار السد  الساعة السادسة وسنصل للموقع بعد نصف ساعة وجاء الصباح ولا أقول أنى صحيت مبكرا ولكن الحر الشديد  فى صيف تلك البلاد يجعل النوم عزيزا ومتقطعا فنصحو كثيرا لنشرب الماء أما الشمس فتصحو قبل الجميع ولسان حرها يقول الراجل فيكم ينام  !

    مريت عليه فى بيته القريب وذهبنا للمحطة وركبنا القطار ،جاء الكمسارى أراه التذكرتين ،حاولت أن أدفع ثمن تذكرتى رفض بدوى بإصرار عيب أنت ضيفى ،نزلنا محطة السد العالى ،العمل فى بناء ميناء السد الذى يربط مصر بالسودان والعمل مع الريس الحويطى ،الراحة نصف ساعة للغداء...

إلى اللقاء ...

إلى اللقاء يابدوى ....

    إستلمنى الحويطى الذى يعمل نجارا  ،يصنع الشدات الخشبية التى تُشد عليها أسياخ  الحديد وتصب فوقها الخرسانة ،إنه نجار زفر هكذا اسمه ليفرقوه عن نجار الموبيليا والدكك والطبالى ،سأعمل خشابا هذا مسمى الشغلانة سأكون مساعدا للحويطى  أناوله الأخشاب بعد أن أخرج المسامير منها وأستعدلها وبدأت العمل مع ذلك الرجل الطيب... عِرق تلاتة متر ...

عِرق أربعة متر ...

قِدة مترين ...

حتة طفشة كانت هذه طلبات الأسطى ...

أقذفها له فيلتقطها...

كان لايمل من العمل مما أرهقنى فى هذه الشمس المحرقة لكن العمل أفضل من أعمال أخري جربتها كما أنى أعمل تحت الشدة الخشبية فى الظل ،الحويطى يعمل فوق الشدة فى عز الشمس وجاء وقت الغداء وذهبنا الى الكانتين...العدس والبصل والفول والطعمية والخبز هذه هى قائمة الطعام اليومية لاتتبدل ،اذن فلتكن الطعمية والفول فالفول كما قالوا إفطار اﻷمير وغداء الفقير وعشاء الحمير  ،الحمد لله ،نحن من آكلى الفول فى الثلاث وجبات أنا وبدوى !

    عدت الى العمل مع الحويطى بعد الغدا لاتوجد الليلة سهرة...هكذا قال يعنى مفيش أوفر تايم إنتهى اليوم ركبنا القطار عصرا فى طريق العودة وكان من بدوى نفس ماكان فى الصباح يعنى النهاردة بلوشى بالنسبة لى وبدوي هو الراعى الرسمى لهذا اليوم وعدنا الى بيوتنا على أن نلتقى مساء.

    وجاء المساء وقابلت بدوي سألنى..

-عجبك الشغل 

-قلت ماشى الحال

 -قال لى عارف اليومية كام ؟

-قلت له  لا ...

قال 25 قرش كويس ؟

 قلت كويس 

وكمان ممكن سهرة بنص يومية مبسوط قلت مبسوط الحمد لله ...

-قال لى عارف تذكرة القطار بكام ؟!

-قلت له لا  

- قال بسبع قروش ذهابا ومثلهم ايابا يبقى المجموع أربعتاشر قرش -وعارف الغدا بكام ؟ قلت له لا 

-قال بتلت قروش ليصبج المجموع سبعتاشر قرش هى تكلفة كل يوم...يعنى هتوفر تمن قروش كل يوم..

-سألته واجما وماالحل ؟!

-قال لى هات أكلك معاك كل يوم من البيت وبعدين بكرة يعدلها ربنا...

وجاء الغد ومريت على بدوى وتكلمنا ووصلنا إلى رصيف  المحطة ،لم نركب القطار كاليوم السابق ولكنه أشار لى أن أتبعه...حيث يوجد بين العربات مايشبه درجات السلم هات يدك وأصعد قلت الى أين يابدوى ؟! 

قال إلى السطح قلت له سطح إيه ياعم  أنا بخاف !

قال لاتخف...

صعدت وأنا أرتجف...

قال لى كلنا كنا كذلك فى البداية وبعدها تعودنا ،صعدت وأنا أشبه بكائن هلامى كل شئ فيه زلق...أجلس هنا وأشار إلى موضع  وأمسك هذه ...إنه بروز معدنى  من بروزات كثيرة متكررة على سطح القطار أعتقد أنه هواية لطرد أنفاس المسافرين ...

أمسكت بكلتا يداى وقلبى يدق كأننى لص فى أول تجاربه أو عاشقا تسلل إلى بيت محبوبته من السور وإضطربت رؤيا البصر عندى حتى أننى لم أعد أرى الأشياء إلا كما يراها قصير النظر عندما يخلع نظارته لقد كنت فى إختبار حقيقى مع شجاعتى ! 

جلس بدوى بجانبى دون أن يمسك بشئ وتحدث مع آخرين ونظرت فوجدت سطح القطار ملئ بالناس كأننا فى سوق وكان بعضهم يجرى ! 

ياالله إنه عالم آخر عالم المزوغين  ولكن فوق القطار وتحرك القطار ولكن الخلق فوقه لايكفون عن الحركة وأحيانا المطاردة مزاحا وتشجعت أنا قليلا وأصبحت أمسك الهواية بيد واحدة !

ضلل خوفى مشاعرى من أن أستمتع بتيار الهواء الناشئ بفعل سرعة القطار... 

قبل وصولنا الى محطة السد وجدت سلكا كهربائيا يمر فوق القطار ولكن الجميع يعرفون مكانه لأنهم  وهم الواقفون خفضوا رؤوسهم فى توقيت واحد كراقصى الباليه عند الوصول إليه  قال لى بدوى أن أحدهم لقى حتفه صعقا عندما إصطدم بالسلك وقذف به الى هذا الوادى الجبلى السحيق وادى الشلالات...  

    إستمتعت فى قادم الأيام بالهواء الجميل فوق القطار...آه لويعلم حاملى التذاكر روعته لقاتلوا المزوغين عليه !كان بدوى صديقا رائعا واستمرت تجربة العمل والتسطيح فوق القطارات حتى نهاية اﻷجازة الصيفية  .

       (شئ لله يابدوى)

 حلينا مشكلة مصروفات التنقل بالتسطيح فوق القطار   

    وللتاريخ أبى وأمى لم يكن لديهما فكرة عما حدث والا لربما كان  لهما رأى أخر أولربما طلبا أن يزورا السد العالى من فوق سطح القطار  ! 

 وجاء يوم رأيت فيه الموت بعينى حيث زوغت من العمل مبكرا ولم أجد سوى جرار منفرد هو الذى سيعود لمحطة أسوان وعلى إنتظار القطار عصرا ولقلة خبرتى صعدت فوقه ساعة تحركه من المحطة بعد أن وجدت أن بعض الناس فى يجلسون فى ركن فوقه حيث لم أجد لى مكانا فى الممر الجانبى للجرار فصعدت ولكننى وجدت نفسى فوق ماكينة الجرار فى فرن ملتهبة تكفى لشوى خروف والجزء البارد من سطحه لامكان فيه لقدم  ولا فرصة لى فى المغادرة بعد أن غادر الجرار المحطة وبسرعة رهيبة ولهذه الرحلة حكاية مستقلة حكاية حيث كدت أفقد فيها حياتى ولكنها كانت تجربة رائعة فى أجازة رائعة على أى حال وكما قال الفيلسوف الألمانى نيتشة "السم الذى لايميتنى يزيدنى قوة " وها أنا حى بينكم ولا أنسى يوم جئنا الميناء فى صباح يوم فوجدنا منسوب المياه قد إرتفع لدرجة قياسية مع ذروة الفيضان وقد عامت أخشاب العمل فى البحيرة...وكانت مهمتنا جمعها ونقلها فى مكان جديد فوق اليابسة...إنها قصة أخرى كدت أموت فيها غرقا فاتتكم متعة التجربة مع خطورتها ولكنها كانت من أجمل تجاربى...أحد أبنائى عندما سمع الحكاية مع حكايات أخرى قال لى إيه يابابا ده إيه ده !!

التعليقات (0)