- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: ميليشيات مدنية: لماذا يتعسكر المدنيون؟
مدى الفاتح يكتب: ميليشيات مدنية: لماذا يتعسكر المدنيون؟
- 4 أبريل 2023, 2:28:36 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ترتبط الدولة الحديثة في تعريفها باحتكار العنف، لتكون هي الكيان الوحيد المسموح له باستخدام أدواته، مقابل أي جهة أخرى يكون أيّ تطلع لها للحصول على السلاح بمثابة الجريمة.
يكاد يتفق جميع المنظرين السياسيين على هذا التعريف، بل يمضي بعضهم إلى ما هو أبعد، فالألمانية حنا أرندت (1906 ـ 1975) تقول على سبيل المثال إنه «إذا كانت السلطة لا تحتاج إلى تبرير فإن العنف هو ما يبررها ويجعلها مسيطرة، فلا يمكن تصور سلطة من دون استحضار عتادها العسكري والأمني الذي تطبق به عنفها المشروع».
استدعاء أرندت في هذا السياق مهم، فالفيلسوفة اليهودية التي عاصرت مأساة الهولوكست تعاملت مع إلقاء القبض على رموز الجرائم النازية ببرود، معبرة عن رأي مفاده، أن محاكمة بضعة أشخاص بسبب مشاركتهم في تلك الجريمة بلا معنى، فتلك لم تكن جرائم جنائية عادية، وإنما كانت أخطاء كبرى نفذها نظام، وما كان أولئك إلا مجرد تروس ضمن ذلك النظام. بدت أرندت في هذا الرأي، الذي حولته لاحقاً لكتاب فلسفي حول الارتباط بين السياسة والعنف، وكأنها كانت مقتنعة بمنطق الضابط النازي أدولف أيخمان، الذي ظل يردد إبان محاكمته أنه غير مذنب لأنه لم يفعل أي شيء بإرادته، بل أنه لم تكن له أي مشكلة شخصية مع اليهود.
لا يمكن لكل مجموعة أن تحتفظ بسلاحها وأن تدعي الحق في استخدام العنف وإلا تحولت الدولة إلى غابة
تحتفظ الدولة لنفسها بحق استخدام العنف، وهو حق مقنع ومسلم به، وهو ما يدفع المشاركين الصغار، مثل حالة الجنود والضباط النازيين، لعدم التفكير والانصياع لما هم مأمورون به، ذلك «الانصياع» ليس قاصراُ على العسكريين، فكثيراً ما يكون مدنيون مقتنعون بمنطق الدولة، على ما فيه من عنف أو وحشية، كما في حالة الفيلسوف هايدغر، الذي تسبب تعاطفه مع المنطق النازي في افتراقه عن أرندت، وكما في حالة الآلاف من المواطنين الأوروبيين، الذين ثبت تواطؤهم ودعمهم للإجراءات الخاصة ضد اليهود.
في العقود الأخيرة بدأت تطرأ اهتزازات على هذه المعادلة، لنشهد اختلاطاً كبيراً وذوباناً للحدود بين المدني والعسكري، وبين السلطة والمجتمعات. وفقاً لذلك لم يعد عنف الدولة مجالاً مفتوحاً تتحرك فيه السلطة بلا رقيب فارضة أيديولوجياتها وتعريفاتها ولم تعد، حتى أكثر الأنظمة سلطوية، حرة في استخدام ما ترى أنه «حلول نهائية» على طريقة ألمانيا النازية، فباتت الدولة محاصرة داخلياً بالجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني، كما باتت أيضاً مجبرة على تبرير خطواتها للمراقبين الدوليين. من جهة أخرى بدأ المدنيون في أكثر من مكان ينازعون الدولة حقها في احتكار العنف، فلأسباب أهمها عجزها عن القيام بأدوارها، أو لعدم اعترافهم بشرعيتها، لا يتردد مدنيون في تنظيم وتسليح أنفسهم ليعلنوا أنفسهم منافسين للسلطة، أو راغبين في اختطافها. المعارضات المسلحة الافريقية قد تكون مثالاً واضحا هنا لتحدي تعريف الدولة ومساءلة شرعيتها، لكن هذا ليس كل شيء، فبسبب هذه السيولة والاختلاط في الأدوار، بدأت تتشكل لدينا في كثير من الدول صورة معكوسة عن السلطات الضعيفة عسكرياً والمجتمعات المدنية الماضية في طريق التنظيم العسكري. يجب أن نتذكر هنا المنطق البسيط في إعطاء الدولة حق احتكار العنف، وهو المتمثل في أن ذلك هو الوسيلة الوحيدة لاستتباب الأمن وتعزيز الاستقرار، فمثلما تخلى الناس عن حقوقهم في إدارة الدولة وسلموها لجهاز تنفيذي محدود الأفراد، لأنه لا يمكن لجميع السكان الاشتراك في اتخاذ القرار، بالمنطق ذاته فإنه لا يمكن لكل مجموعة أن تحتفظ بسلاحها وأن تدعي الحق في استخدام العنف وإلا تحولت الدولة إلى غابة.
من الأمثلة الحديثة لعسكرة المدنيين ما تقوم به مجتمعات محلية في غرب افريقيا من تسلح لمواجهة خطر الجماعات الإرهابية، التي تبدو القوات النظامية عاجزة عن تحجيمها. هذه «العسكرة المدنية» كان لها أثر كبير في ما سميناه خلطاً للأوراق بين ما هو عسكري ومدني، فقد نتج عن إحساس الجماعات الإرهابية بالاستهداف من قبل مكونات مدنية، استهداف مضاد من قبلها للمدنيين، حين رأت هذه المنظمات الإرهابية أنها لم تعد مهددة فقط من الأجهزة الأمنية الرسمية، وإنما من حواضن مختلفة مدنية المظهر. خلق هذا حالة من فوضى انتشار السلاح، الذي تسرب بعضه لأيادٍ لا تقل إجراما وفوضوية عن فوضى الإرهاب الأصيل.
تطرق الخبير في الشأن الافريقي حمدي عبدالرحمن، في مقالة له حول «عسكرة المجتمعات» إلى ما سماه «دور الحراس المحليين في مكافحة الإرهاب الافريقي». تحدث عبد الرحمن في تلك المقالة بتفصيل عن أسباب نزوع المجتمعات الافريقية للعسكرة. أسباب تبدأ بالتنافس على الموارد الشحيحة بين القبائل المختلفة، بما يتحول لأشكال مختلفة من الصراع، مرورا بعوامل أخرى كالتغير المناخي، الذي جعل تلك الصراعات تشتد وتصبح أكثر حدة، ونهاية بمخاطر تناسل الجماعات الإرهابية. كانت تلك المقالة مهمة، فافريقيا تبدو نموذجا واضحاً لدراسة حالات العسكرة، التي يتجلى فيها التعبير المختلط للميليشيا المدنية، التي تجمع، كما يوضح اسمها، بين كونها مجموعات حاملة للسلاح وأهلية في الوقت ذاته. نرى ذلك النوع من العسكرة الأهلية في الصراعات بين قبائل تربية الماشية وقبائل المزارعين، أو في الصراعات الأخرى حول موارد الطاقة ومواطن التعدين، التي ترتبط بمصالح بعض الأهالي الذين يرون أنهم أحق بها أو أن من واجبهم حمايتها.
مع كل ما سبق، إلا أن هذه العسكرة المدنية ليست قاصرة على افريقيا ولا على دول العالم الثالث، حيث يظهر نزوع في بلدان الشمال للتوسع الشعبي في استخدام السلاح، ولعل الولايات المتحدة هي المثال الأوضح هنا، ليس فقط لأنها تشجع على الحصول الفردي على السلاح، على الرغم مما ينتج عنه من مآسٍ وحوادث إطلاق عشوائي للنار (أكثر من عشرين حادثة منذ بداية العام الحالي)، ولكن لأن فيها العديد من المجموعات المسلحة التي تتوزع بين العمل في الظل والعمل بشكل شبه مرخص به. الميليشيات المدنية الأمريكية كثيرة ومتعددة لدرجة أنه تصعب الإحاطة بها، لكن أخطرها يبقى الميليشيات اليمينية المتطرفة أو المعادية للمهاجرين، على غرار الجماعة التي تطلق على نفسها اسم «الوطنيون الدستوريون المتحدون»، التي نشطت في جنوب البلاد لحماية الحدود من المتسللين، خاصة إبان حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب. شمل دور الجماعة ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين واعتقالهم بادعاء مساعدة السلطات. يقف القانون الأمريكي، الذي يحتاج لأدلة موثقة من أجل التدخل، عاجزاً عن مواجهة مثل هذه الجماعات، فعلى الرغم من توجيه اتهامات لزعيم جماعة «الوطنيون» من بينها حيازة أسلحة بشكل غير قانوني، إلا أن من الواضح أن جماعته باقية ومتوسعة في استخدام الأسلحة والبنادق، بل إنها تدفع بكرة الاتهام نحو المؤسسات الليبرالية، التي يعتبرون أنها تستهدفهم ولا تقدر دورهم الوطني في حماية البلاد.
في الحقيقة فإن كل حاملي السلاح من المجموعات مدنية الأصل يتحدثون بالمنطق ذاته حول الدوافع الإنسانية والمسوغات «الطيبة» التي قادتهم للتسلح. يشترك في هذا صائدو الحيوانات في افريقيا وقادة الحروب الطائفية والعرقية، وحتى المنتمون للجماعات الدينية المسلحة، لتتكون لدينا في الأخير تلك الصورة القاتمة التي تفقد فيها المجتمعات بشكل تدريجي أمنها، والتي تعجز فيها الدولة التقليدية، في حالات كثيرة، عن السيطرة على البشر أو التحكم في حركة السلاح.