- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
نور الدين ثنيو يكتب: حول الإسلام
نور الدين ثنيو يكتب: حول الإسلام
- 11 يوليو 2023, 3:57:47 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
«حول الإسلام» آخر كتاب أصدره المفكر وأستاذ الإسلاميات رمي براغ في ما ينيف على ثلاثمئة صفحة، تحتل فيها المراجع والإحالات نصيبا وافرا، ما ينم عن مسح عام لما يثار من قضايا الإسلام في الوقت الراهن، وفي فرنسا بالذات. قيمة وأهمية الكتاب ليست في القضايا الملتهبة التي تعرفها فرنسا مع الإسلام والمسلمين، لأنها كلها مما أثير وصار من خطل القول والمكرور منه، بل في مَنْ يتكلم وأين يتَمَوقع وكيف يَتِم الحديث مع الآخر الذي لم يعد آخر بعد أجيال طويلة من المسلمين الذين أقاموا في فرنسا، وصاروا مواطنين فيها، يحتلون كامل المراكز القانونية والاجتماعية والسياسية. فالمسألة لم تعد في ما يثار من قضايا، بل في الحالة التي يصدر منها الكلام ويكتب فيها عن مسائل راهنة.
يستهل المؤلفُ كتابه بهذه المقاربة كمدخل إلى ما يرغب في عرضه: «من حق القارئ أن يعرف مَنْ يتكلم معه. لا أعتبر نفسي متخصصا في الإسلام، وإنما فقط فيلسوف زامل ورافق، لردح طويلا من حياته، أصدقاء يهودا ومسلمين لهم دِراية وعِلم عصر الوسيط». والعصر الوسيط كما يشرح ويحلل المؤلف هو لحظة معرفية وحضارية انتكست فيها المدنية المسيحية، وتقابل بالضبط حقبة ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية والعربية، خاصة في الأندلس.
صراحة، ما ينبغي الإشارة إليه أن موضوع الإسلام لم يعد قاصرا على المتخصصين فيه، على النمط الذي يُدَرِّس في الأوساط الأكاديمية والعلمية، خاصة منها الكلاسيكية، بل الإسلام اليوم مادة حيوية قابلة للتفكير والنقاش، لأنه أخذ أبعادا واسعة، لكي يتدخل الجميع في ذلك، خاصة المواطنين المسلمين في أوروبا، لأن قضايا الإسلام والدولة والمجتمع والأمة الفرنسية تدرس في اللحظة الراهنة في زمن المابعديات، ما بعد الاستعمار وما بعد الاستشراق وما بعد الإسلاموفوبيا وما بعد الوطنيات وما بعد صراع الشرق والغرب، كل هذه القضايا وما استدرجته ليست في نهاية التحليل إلا تعبيرا عن لحظة الإسلام مع الواقع والتاريخ والمصير.
«حول الإسلام» جرى التفكير في مباحثه بروح هادئة لا تنتصر لموضوعها، ولا تحفل برود أفعال من يقرأ أو لا يقرأ، بل حرص المؤلف على أن يكون صريحا إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه المرء، بعد طول بحث وتفكير في قضايا تاريخ الإسلام في كل مراحله، خاصة الفترة الوسيطة والراهنة. فالصراحة والصدق مع النفس والتزام المثقف والبحث الأكاديمي هي التي تهمنا في هذا المقال. يقول رمي براغ : «وفي ما يخصني، فأنا أنظر أيضا إلى الموضوع وأتموقع خارجه. فلم أجد لحد الآن أي مبرر يدفعني إلى اعتبار الإسلام دينا حقيقيا وأن محمد نبي فعلا ولا حتى قدوة حسنة وأن القرآن كتاب إلهي».
الإسلام اليوم مادة حيوية قابلة للتفكير والنقاش، لأنه أخذ أبعادا واسعة، لكي يتدخل الجميع في ذلك، خاصة المواطنين المسلمين في أوروبا
وعندما يطرح موضوع الإسلام في مجتمع ديمقراطي مثل المجتمع الفرنسي فهو لا يثير أي حفيظة، ولا أي حرج لأن الحرية الأكاديمية مكفولة ويقع على المجتمع المعرفي والعلمي إثارة النقاش حوله، وهذا ما جرى فعلا في الأوساط العلمية والإعلامية التي رحبت كثيرا بالكتاب ونوهت به وتَصَدّر المشهد الفكري والثقافي العام. ما أشار إليه المؤلف من أنه ليس متخصصا في الإسلام، فيه كثير من التواضع، لأنه باحث ضليع في الفكر الإسلامي الوسيط، تجشم لكي يمتلك ناصيته تعلّم اللغة العربية وبالقدر نفسه حرص على الإلمام باللغة العِبْرية والإنكليزية والألمانية، وكلها نوافذ ومنافذ إلى جوانب قلما تظهر عند غيره. أما إشارته إلى أنه مجرد فيلسوف فهو أيضا في مقام من يحترم نفسه، لأنه يفكر في الفلسفة على خلفية كاثوليكية، فهو رجل مؤمن لا يقترب فقط من الواقع، بل يتحسس ما بعد الواقع على ما تنحو إليه الفلسفة، ثم ما بعد بعد الواقع أي الآخرة (الدين) على ما تهتم به الثيولوجيا ( علم اللاهوت) وهو تقليد كانت عليه الفلسفة قبل خروجها إلى العصر الدنيوي، وتجرد العالم من المقدس والمدهش والعجيب، على ما أفصح عنه ماكس ويبر في مطلع القرن العشرين ومارسيل غوشي في ثمانينيات القرن نفسه. رِمي بَراغ مفكر كاثوليكي يشتغل بفكر يخوض في قضايا الدين والحضارة والتاريخ، على خلفية المؤمن المسيحي الذي يؤمن بأن الله تكلم إلى أنبياء ورسل ومنهم السيد المسيح، الذي تأسست على إثره الديانة المسيحية وتاريخها الطويل والعريض، الذي وصل كل أرجاء العالم. والحقيقة التي يَكْشِفها الكتاب مع صاحبه هي هذه المفارقة: كيف يمكن لمؤمن أن يصادر كلام الله ويوقفه عند لحظة السيد المسيح فقط، ولا يتعداها إلى النبي محمد مبشر بدين آخر هو الإسلام، الذي ظهر في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي. فقد اختار المؤلف مقاربة لا تبعد موضوعه عنه، بل يبقى على صلة معه إلى آخر صفحات الكتاب، ليقف أمام نفسه ويحاسبها قبل أن يحاسبه الله الذي يؤمن به وينفي كلامه إلى المسلمين المؤمنين الجدد.
في موضوع آخر وبالمعنى نفسه يؤكد المؤلف أن الإسلام ليس دينا وأن محمد ليس نبيا، مما يؤكد قناعة راسخة لديه: «الإسلام ليس دينا كما نفهمه، فهو شريعة تتعامل مع العقيدة كيقين فطري لا يمكن ردها إلا من باب سوء الطوية. والإسلام عالم لا يجد غير المؤمن مكانه فيه، يتميز ويختلف بشكل جذري عن الديانات الإنجيلية». ما لم ينتبه إليه السيد رمي براغ في نهاية المطاف هو أنه يتوجه بكلامه إلى المجتمع الفرنسي الذي أصبحت فيه الديانة الإسلامية ثاني ديانة بعد الكاثوليكية، قبل الديانة اليهودية وغيرها، وأن الإسلام حالة جديدة يخوض عبر الفاعلين المسلمين مسألة فصل الدين والدولة بأقوى ما شهدتها فرنسا عام 1905 عندما احتدم الصراع بين الكنائس الكاثوليكية والدولة المدنية الحديثة. فالمؤلف يتكلم وسط جمع من المسلمين وكتابه «حول الإسلام» يُناظره ويناقشه المسلمون في دولتهم الفرنسية. وتلك هي الحقيقة التي فلتت من وعي السيد رمي براغ ولم يلتفت إليها وجعلته يتناقض مع نفسه في منطلق وسياق ونهاية البحث. ولعلنا في نهاية المقال، نقدم مثالا آخر أكثر تماسكا مع نفسه هو الفيلسوف الفرنسي ميشال أنفري الذي يحرص ويؤكد على أنه ملحد بالقدر الذي لا يقول بأن الله غير موجود، لأن الملايين من البشر يؤمنون به، أي أنه يقر بحق وإمكانية الآخرين، ومنهم المسلمون الذين يدافع عنهم بقوة وشراسة حيال الدول الرأسمالية الجائرة، في إيمانهم ويرى كثير من التماسك في تفكيرهم وسلوكياتهم ومواقفهم.