ياسر مناع يكتب: ماذا يجري على شوارع المستعمرة؟

profile
ياسر مناع كاتب وباحث بالشأن الإسرائيلي
  • clock 11 أبريل 2023, 7:56:52 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

من منا شده هتاف "سرقوا لنا الدولة"، شعار عميق المعنى، كثير التكرار، لاسيما في التظاهرات الإسرائيلية الأخيرة، يحمل في طياته الكثير من المعاني حول الصدوع المتجذرة في المجتمع الإسرائيلي. أيضًا وعلى الرغم من عملية ديزنكوف بتاريخ 9 آذار/ مارس من العام الجاري، والمواجهة الجارية والمتصاعدة في الضفة الغربية، إلا أن التظاهرات المستمرة وبمشاركة شرائح متعددة بما فيها السلك العسكري والأمني لم تطرق إلى القضية الفلسطينة أو حتى فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948.

 منذ عقد من الزمن وبعد المسيرات الاحتجاجية عام 2011 لم تشهد إسرائيل تظاهرات بهذا الحجم، إن ما يجري اليوم على شوارع المستعمرة أحد انعكاسات التركيبة الفسيفسائية المتناقضة في إسرائيل، كما أنها تعيد من إلى الواجهة جديد تلك الصدوع ذات الجذور الضاربة في أعماق المجتمع الاستعماري. 

لا شك بأن الحالة السياسية الإسرائيلية المتردية خلال السنوات الماضية، وما تلاها من جولات انتخابية متتالية أفرزت طرفي صراع لكلٍ منهما سماته الخاصة وجمهوره وسياساته. أحدهما يميني شعبوي يتقلد زمام الحكم ويضم بين جنباته الصهيونية الدينية، الكهانيون، الحرديم، على الجهة المقابلة يتمركز اليمين المعارض وإن كان بعضهم يعرف نفسه بالوسط، إضافة إلى ما تبقى من اليسار الصهيوني.

 إذن، من خلال هذه المشهد بات من السهل أن تحدد معالم هذا الصراع السياسي الذي لا يعدو عن كونه صراعًا يتمحور حول الهيمنة والنفوذ، لا صراع حول مصير الدولة أو وجودها.

معضلة التفاعل الفلسطيني

 كلما اشتدت وتيرة التظاهرات في شوارع تل أبيب، ارتفع سقف التحليلات الفلسطينية عبر شاشات التلفزة والفضائيات، و منصات التواصل الإجتماعي، حيث اتسمت بالموضوعية تارة، وبالعاطفة والتمني تارة أخرى. حتى ذهب البعض في وصف ما يجري بأنه "الربيع الإسرائيلي" على غرار الربيع العربي الذي أطاح بثلاث حكام عرب.

 لكن أكثر ما شد الانتباه كان التوقع بأن إسرائيل على حاف "حرب أهلية"، لا أدري إلى ماذا استندوا أصحاب هذا الرأي وما برهانهم في ذلك؟ وإن كنت أر خلاف ذلك. من هذا النقطة تنطلق مجادلة المقالة، التي تحاول تفسير الأسباب التي تحول دون وقع حرب أهلية أو حتى عمليات إغتيال في أوساط السياسيين وقادة الأحزاب.

قبل أن أخوض في غمار المقالة، أود التنويه إلى أن هنالك نوعًا من العشوائية في دراسة إسرائيل، ناهيك عن حالة الافتتان بالإعلام الإسرائيلي، حتى غدا الواحد منا يترجم كل شاردة وواردة في المواقع والصفحات الإعلامية المتنوعة، مما قادنا إلى الانزياح اللاشعوري لإحدى المعسكرات المتناحرة، ناهيك عن عملية تصنيف المستعمرين بين هذا متطرف ومتشدد وذلك يساري ومعتدل، لا أن نتناول المجتمع الاستعماري كوحدة واحدة لا فرق بين مركباتها، وهنا تمكن معضلتنا في دراسة إسرائيل

 

 

 أهذه الأزمة الأولى أم ماذا ؟ 

من أكثر الأفكار التي تقاطع عليها معظم المحللين والمتابعين للشان الإسرائيلي أن هذه الأزمة الداخلية هي أكثر الأزمات عاصفة في إسرائيل، والتي من الممكن أن تفضي إلى حرب أهلية. قد ينطلق كل باحث بالنظر إلى هذه التظاهرات من زاوية معينة، لكن محمد قعدان في مقالته "الصهيونية على عتبة الإنكسار" يرى بأن ثلاث أحداث مفصلية عصفت بإسرائيل والحركة الصهيونية، وشكلت خطرًا عليها منذ فترة اليشوف وحتى اليوم، وهي موزعة على النحو التالي:

أولًا: عملية اغتيال حاييم ارلوزوروف عام 1933، الإغتيال الذي جسّد قمة الخلاف الداخلي الصهيوني في أثناء الكفاح على الوجود والديموغرافيا في ظل الانتداب البريطاني، والذي كاد وفق قعدان أن يتحول إلى صراع دموي وانكسار للصهيونية ومنظماتها، وخصوصاً الهستدروت. ثانيًا: قصف سفينة "التالينا" 1948، الحدث ثبتت اركان المؤسسة العسكرية ورسخ وحدتها. ثالثًا: اتفاق اوسلو 1993، ومن ثم اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحاق رابين 1995. وأضيف إلى ذلك احتجاجات حركة الفهود السود التي انطلقت من المصرارة؛ رفضًا للظلم والاجحاف الواقع على اليهود الشرقين في سبعينيات القرن الماضي.

يتضح لنا هنا أن هذه الأحداث المفصلية والإغتيالات السياسية التي طالت شخصيات محورية في اليسار الصهيوني لم تصل إلى نقطة الحرب الأهلية الدامية، إذن فكيف للتظاهرات اليوم التي تطالب بالعدول عن مشاريع قانونية أن تصل إلى حرب أهلية؟

 جذور الصدع الاشكنازي - الشرقي 

تعتبر الانتخابات الاسرائيلية 1977 انقلابًا سياسيًا؛ لأنه وباختصار مكنت اليمين من تولي سدة الحكم بدلًا من اليسار الصهيوني، وكانت عاملًا حاسمًا في بروز اليمين الشعبوي المدعوم من الشرقيين المهمشين على الساحة السياسية، وولادة "إسرائيل الثانية". لعل ما كتبه أفيشاي بن حاييم – وأن كان قد تحدث قبله عدد من علماء الاجتماع في المسألة أمثال باروخ كيمرلنج - في كتابه الذي اثار عاصفة من الجدال في إسرائيل وحمل اسم "إسرائيل الثانية" كان حاضرًا خلال متابعتي للأحداث، حيث طرح بين صفحاته جملة من الأفكار التي تتمحور حول الفجوة بين الأشكناز والشرقيين داخل المجتمع الاستعماري، ولأن المقام لا يتسع لمناقشة الكتاب أو التبحر في الأفكار التي أوردها بن حاييم، أود أن أذكر أقتباسين من مقدمة بشكلهما المجرد، "عقب انقلاب 77 لم تستطع إسرائيل المهيمنة الأولى أن تتحمل خسارة الهيمنة المطلقة"، "كتب يائير نتنياهو ، نجل رئيس الوزراء ، ردًا على نظرية إسرائيل الثانية: "والدي، مثل كل المراجعين اليمينيين، هو جزء من إسرائيل الثانية وليس له علاقة بأصله. هذا ادعاء مثير للاهتمام وواسع، حيث أن نتنياهو ليس فقط "المختار" من إسرائيل الثانية ، بل هو جزء حقيقي منها". اعتقد أن هذان الاقتباسان قد يفسرا لنا ما يجري في إسرائيل اليوم.

 هذا يتوافق مع رأي سامي سموحة – أحد أبرز علماء الاجتماع في إسرائيل- الذي يرى بأن سكان إسرائيل ينقسمون إلى خمسة خطوط رئيسية: التيار السياسي، الإلتزام الديني، الطبقة، العرق، والجنسية. وأن هذه الإنقسامات تولد صراعات وعدم استقرار في الجانب السياسي والاجتماعي، وغالبًا ما تصور إسرائيل على أنها مجتمع منقسم بشدة، وديمقراطيته مثقلة بالمشاكل.

 

 بالتالي، يدور رحى الصراع اليوم في إسرائيل بين فئة ترى أحقيتها بالقيادة وهم الأشكنازيين المتقدمين "إسرائيل الأولى"، وبين فئة تلازمها عقدة النقص من عدم المشاركة الفاعلة في الدولة لحظة بناءها وهؤولاء هم الأشكناز المتأخرين "إسرائيل الثانية". حيث ترى النخبة المؤسسة من السياسيين والاقتصاديين والعسكريين الأشكناز الذين انضووا تحت راية حزب مباي ثم العمل لاحقًا الأحقية في بقاء مقاليد السلطة بقبضتها، وامساكها لمفاصل الدولة قدموا كل جهد في إقامتها، بينما يسعى المتأخرون اليوم إلى ممارسة الدور الأكبر في الدولة، بل إلى قيادتها والتربع على عرش السلطة دون محاصصة النخبة الأشكنازية المهيمنة، التي تفننت في إذلال الشرقيين ومارست العنف تحت شعار الحداثة والتطوير تجاههم، كما منعوا من تبوء المناصب الرفيعة في الدولة.

ومن الأمثلة التي لا تحصى على الفجوات بين الأشكناز والشرقيين ما نشره الصحفي يوسي يهوشع مقالًا في صحيفة يديعوت أحرنوت بتاريخ 11\1\2023 حمل عنوان "تقليص الفجوات يمر عبر الجيش"سلط الضوء على التهميش الذي يعانيه الشرقيين في الوحدة العسكرية الاستخباراتية 8200، وكيف أنها أصبحت حكرًا على الأشكناز وابناء الطبقات المخملية البرجوازية.

كما يعد فيلم "صالح هنا أرض إسرائيل" الذي بثته القناة 13 من أبزر الافلام التي استعرضت قضية الشرقيين في إسرائيل. إلا أن الأمر اليوم قد اختلف، فأصبح هذه الفئة المهمشة بمثابة الخزان الانتخابي والمد البشري لليمين الشعبوي. مما يعني بأن هذا الصراع معقد ومركب، ومؤسس على الخلافات والاختلافات الاثنية والطبقة تاريخيًا. وبالتالي فإن أي تحليل بمجرد قراءة مقال أو سماع نشرة أخبار أو قراءة التحليلات للساسة الإسرائيليين يعد تحليلًا قاصرًا إذا لم يؤخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي للصراع القديم المتجدد بين الأشكناز والشرقيين.

 لماذا لم ترق الدماء؟ 

كان من اللافت جدًا طلية التظاهرات التي امتدت لأكثر من 12 اسبوعًا عدم التطرق إلى القضية الفلسطينة في هذا الصراع، ولو بشعار أو لافتة واحدة، على الرغم من العمليات في تل أبيب عاصمة المتظاهرين، وبقي الأحداث في جوهرها وأطرافها حول إدارة المستعمرة ومن يتربع على سدة الحكم أو من يرسم السياسات ويسن التشريعات. بالتالي، فإن ما من خطر محدق بالمشروع الاستعماري برمته، أو تحول قد يضفي على شكله المأمول. مما يعني بأن خطر الحرب الأهلية التقليدية أو حتى الاغتيالات السياسية تستبعد كليًا من السيناريوهات المطروحة أو التي قد تطرح مستقبلًا.

 قد يستحضر البعض حادثة إغتيال رئيس الوزراء الأسبق "اسحاق رابين" 1995، لتدليل على إمكانية وقوع حربٍ أهلية أو على الأقل إغتيالات سياسية. وفي هذا المقام ان صح لنا القول فإن حادثة إغتيال رابين كان الهدف منها تغيير المسار السياسي السلمي مع الفلسطينيين والحد منه، والذي رأى فيه اليمين مساسًا صارخًا وانتهاكًا للمشروع الصهوني وحلم الدولة الكبرى، بكلمات أخرى كان الموضوع الفلسطيني جوهر الصراع الداخلي الإسرائيلي، وحول شكل العلاقة معه كان الخلاف، وهذا ما لا يتحقق في صراع اليوم. 

 

الجيش النظامي العامل الحاسم 

في الواقع شكل تهديد الجيش النظامي العامل الضاغط الأساسي والنقطة الحاسمة في عدول نتنياهو عن التعديلات القضائية، والتي بالمناسبة هي مشروع اليمين الإسرائيلي وليس مشروع نتنياهو لوحده. أما الهستدروت - نقابة العمال- الذي لا وزن له اليوم واضراب الشركات التجارية ما كانت إلا بمثابة عوامل ثانوية.

 لكن الخوف الكامن في صدرو المعارضة ينبع من علمهم بأن نتنياهو يتقن "لعبة شراء الوقت" فمثلًا منذ بداية قضاياه عمل على إطالة عمرها قانونيًا، وهنا السؤال هل يناور نتنياهو ويحاول جرالمعارضة إلى مربع يحملهم مسؤولية فشل الحوار الذي دعا إليه، ويستمر في التعديلات مستقبلًا؟ فلا يمكنني الإجابة الآن؛ لأن المشهد لازال رماديًا في كثير من تفاصيله، لكن بلا ريب أن اللعبة السياسية في إسرائيل باتت تحكمها المصالح والمطامع الشخصية لا الإيديولوجيا وحلم تحقيق الرؤية الصهيوني.

 

ياسر مناع – الباحث في برنامج الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)