- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
يسري عبدالغني : القاضي الفاضل بالكلمة يكون الانتصار
يسري عبدالغني : القاضي الفاضل بالكلمة يكون الانتصار
- 12 يونيو 2021, 7:10:48 م
- 2880
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عبدالرحيم بن على بن محمد اللخمي، المعروف بالقاضي الفاضل (529هـ - 596هـ ) أحد الأئمة الكتَّاب، ووزير السلطان صلاح الدين الأيوبي حيث قال فيه صلاح الدين (ما فتحت البلاد بالعساكر انما فتحتها بقلم القاضي الفاضل).
ولد القاضى الفاضل بمدينة "عسقلان"شمال غزة في فلسطين سنة (529هـ) خمسمائةوتسع وعشرين . وانتقل إلى الإسكندرية، ثم إلى القاهرة. كان يعمل كاتبا في دواوين الدولة و وزيرًا ومستشارًا للسلطان صلاح الدين لبلاغته وفصاحته، وقد برز القاضى الفاضل في صناعة الإنشاء، وفاق المتقدمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار.
قال عنه العماد الأصفهانى: "رَبُ القلم والبيان واللسن اللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة". وكان للقاضى الفاضل شؤن كثيرة في قيادة الدولة منها فكان كاتبا بارعا ووزيرا ناجحا . وكانت وفاته بالقاهرة سنة (596هـ )، ودُفن بالمقطم.
نجح صلاح الدين الأيوبي في مشواره لأنه اعتمد على القاضي الفاضل اعتمادا كليا في تدبير كثير من شئون دولته..
قال صلاح الدين الأيوبي عن عبد الرحيم بن علي البيساني (526- 596هـ/1131- 1199م)، المعروف بالقاضي الفاضل: "لا تظنوا أني فتحت البلاد بالسيوف، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل".
ولا ريب في أن هذا الحكم لم يأتِ من فراغ، وبخاصة حينما يصدر عن الرأس المدبِّر للدولة الأيوبيَّة ومؤسِّسها، وعن القائد الذي تحاكي به الأعداء قبل الأصدقاء في بطولاته ونُبْله وكَرَم أخلاقه وطيب سريرته وسماحته. فقد يظن البعض أن صلاح الدين حينما يقول مِثْل تلك المقولة أنه إمَّا مبالغ، وأنه نسب عمله إلى غيره، ولكن تواضعه واعترافه بدور "الفاضل" رفع مكانته في النفوس، ونبهت خصومه إلى خصلة، صعبٌ على أحدهم التحلِّي بها؛ فلا تتجلى عظمة صلاح الدين في انتصاراته وفتوحاته فحسب، وإنما تتجلى في إدراكه أن عوامل انتصاراته وأسبابها ليست مرتبطة بشخصه أو بالقتال العسكري المجرَّد، بل هي متعلقة بفريق متكامل من الشخصيات يملك رؤية وبرنامج للوصول إلى النصر.
وقد أكَّد عددٌ من المؤرخين قوة العلاقة التي ربطت بين "الفاضل" وصلاح الدين، يبدو منها شدة اعتماد الأخير عليه وعلى مشورته في معالجة أمور الدولة؛ فقال ابن خَلِّكَان: "وتمكن منه غاية التمكُّن"؛ يعني من صلاح الدين، وقال الأصفهاني: "وهو ضابط الملك بآرائه، ورابط السلك بآلائه"، وقال أيضًا: "السلطان له مطيع، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد آرائه، ومقاليد غناه وغنائه"، وقال: "كنت من حسناته محسوبًا، وإلى آلائه منسوبًا"، وعن كتابته قال: "وكانت كتابته كتائب النصر، ويراعته رائعة الدَّهر، وبراعته بارية للبرِّ، وعبارته نافثة في عقد السحر، وبلاغته للدولة مجملة، وللمملكة مكملة، وللعصر الصلاحي على سائر الأعصار مفضلة".
ولا شك أن ثَمَّةَ رابطًا بين ما قاله صلاح الدين بنفسه عن القاضي "الفاضل"، وبين الدور الذي قام به الأخير إلى جواره من خلال رؤيته الإستراتيجيَّة للموقف الراهن، على غرار إدراكه للصورة العامة للموقف السياسي والعسكري في بلاد الشام عقب وفاة "نور الدين محمود"، وتركه جبهة مفككة منقسمة على نفسها بين "مصر ودمشق"، و"حلب والموصل وحمص وحماه"، فحث "الفاضل" صلاح الدين على ضرورة ضَمِّ بعض تلك المدن المهمَّة التي ستحقق له بالتبعيَّة سيطرة على باقي الكيانات الشامية، وفلسفته لمغزى ضَمِّ تلك المدن بوصفها ستمدُّ صلاح الدين بالدعم المادي والمعنوي، وبتأمين ظهره وقت انشغاله بحروبه مع خصومه، وغلق الطريق على حُكَّامها؛ كيلا يتحالفوا مع الصليبيين..
وذلك كله من خلال التوجيه السِّلْمِي للأحداث؛ تحاشيًا لفتح ثغرات تؤدِّي إلى تحالف المسلمين المنشقِّين مع الصليبيين، وربَّما يُعْزَى إلى هذه الإستراتيجية نجاحُ صلاح الدين في توحيد تلك الجبهة في مدة لم تزد عن عشرة أعوام؛ ليضارع الصليبيين ويهدد كياناتهم وممتلكاتهم فيما بعد.
وربط "الفاضل" بين الكيانات الصليبيَّة في بلاد الشام وأوربا، وتفهَّم عقيدة القتال لدى الصليبيين، وبخاصة صمودهم وهم يحاربون تحت راية الصليب، وتنبَّه إلى مراكز قواهم، وبخاصة خطر الطوائف الدينيَّة العسكرية: مثل الدَّاوية والإسبتاريَّة، وحثَّ صلاح الدين على التخلُّص منهم حال وقوعهم في الأَسْرِ، ومغزى ذلك، ووقف على مراكز الثِّقَل السياسي والإستراتيجي العام للصليبيين، وبخاصة مساندتهم لبعضهم في أحداث الحملة الصليبية الثالثة، والتفافهم حول الدين يستمدون منه الرابط والدعم، إضافةً إلى عِلْمه الدقيق بأسلحة "الفرنج" ودفاعاتهم وخُطَطهم، وما إلى ذلك من مراكز ثِقَل وقوى مباشرة وغير مباشرة.
وعلى المستوى الداخلي الخاص بالمسلمين عمومًا وفي مصر خصوصًا، فقد هيَّأت الإجراءات التي أحدثها صلاح الدين -بناءً على نُصْح "الفاضل"- كافة الظروف الداخلية، بحيث باتت أرض المعركة ممهَّدة أمام صلاح الدين بذهن صافٍ، وقد ضَمِن رضا الخلافة عنه، وعن البلدان التي فتحها بمقتضى الشرعيَّة التي أمدته بها الخلافة وأسبغتها عليه، ممثلة في ولاء جيشه ورعاياه له.
ناهيك عن حشد الرأي العام المصري -بما له من ثِقَل اقتصادي وبشري وإستراتيجي- خلف صلاح الدين، من خلال عدد من الإجراءات: مثل استخدامه للشعراء والكُتَّاب والمؤرِّخين على غرار "الأصفهاني"، و"ابن سناء الملك"، و"ابن نُباته"، و"ابن مماتي"، و"ابن شدَّاد" وغيرهم؛ للترويج لسياسة صلاح الدين وحكمه، ومسامحة رجال الأسطول وإكرامهم بناءً على نصح الفاضل، وإسقاط بعض الْمُكُوس والضرائب عن رعيّته ورعايته لحقوق اليتامى، والدفاع عن مصر وكرامتها؛ تقديرًا لشعبها ولما تقدمه لحروبه من دَعم ومساندة، ومحاولة كَسْب قلوب المصريين بالدفاع عنها أمام عاصمة دار الخلافة وغيرها من المدن.
وتحمَّل "الفاضل" مهمة الإعداد النفسي للجنود في وقت الأزمات والهزائم؛ بالتقليل من شأن الهزيمة، والدفع المعنوي لصلاح الدين وجيشه؛ كيلا يقفا عند الهزيمة أو التأثر بها، وتحاشيًا لحدوث تمرُّد أو ثورات بين رعاياه، وبخاصة في مصر التي لم تكد تتخلص من النفوذ الشيعي، وحرص "الفاضل" وقت الانتصار على إيضاح الرهبة والرعب لدى العدو؛ كي يكون ذلك نافذة أو معبرًا نفسيًّا للجنود؛ كيما يتخلصوا من مخاوفهم ويتغلبوا عليها، وربَّما لأَجْل ذلك الغرض كان "الأصفهاني" حريصًا على وجود الفاضل في عمليات الحصار التي دارت حول "عكَّا"؛ لأنه يعي جيِّدًا مكانته ودوره الذي لا يعوضه وجود غيره.
لقد نجح صلاح الدين في مشواره؛ لأنه اعتمد -ضمن ما اعتمد- على "الفاضل" اعتمادًا كليًّا في تدبير كثير من شئون دولته، وبخاصة النواحي الداخلية والعلاقات الدبلوماسية، وأن عقلية "الفاضل" وثقافته وعِلْمه قد مهَّد لصلاح الدين الكثير من الأمور التي كان في غنًى عن شَغْلِ عقلِه بها، والأكثر من ذلك أنه يلمس أنَّ خُطَا صلاح الدين في حروبه الخارجية وسعيه للوحْدَة في الداخل، قد جاءت نتيجة لخطة مدروسة فيما بينه وبين القاضي "الفاضل"، ولم تكن ارتجالية أو عشوائية، وأنه بالرغم من السلطات الكثيرة التي تفرَّد بها "الفاضل"، فإنه لم يسعَ إلى إساءة استخدامها في تكوين مجدٍ شخصيٍّ أو ثروة مالية، وإنما تحرَّك في حدود المتاح، وخَدَمَ دولة صلاح الدين بحبٍّ يَنْدرُ لَمْسُه في ذوي المناصب الحسَّاسة.فكان مثالا للعالم العامل المجاهد رحمه الله وغفر له.