- ℃ 11 تركيا
- 25 نوفمبر 2024
«لعنة المساواة».. كاتب أمريكي يُخبرنا كيف سيبدو العالم عام 2081
«لعنة المساواة».. كاتب أمريكي يُخبرنا كيف سيبدو العالم عام 2081
- 18 يوليو 2022, 4:20:39 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
دائمًا ما حلم البشر بالمساواة، وقد دفع كثيرون أعمارهم ثمنًا من أجل تحقيقها؛ واليوم صرنا نحلم أكثر بالعدالة والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات؛ لكن هل تخيلت يومًا العالم وقد حقق أخيرًا «المساواة الكاملة»، تلك المساواة التي ستجعل الجميع سواسية فعلًا، لكن كيف سيكون شكلها؟
الأمر يبدو للوهلةِ الأولى خارج نطاق التوقع؛ غير أن الكاتب الأمريكي كورت فونيجت تمكن من ذلك عام 1961، عندما نشر قصة خيال علمي بعنوان «هاريسون بيرجيرون» التي يصف خلالها أحداث العالم عام 2081، وقد حقق أخيرًا تلك المساواة الكاملة التي كانت حُلمًا داعب خيال الجميع.
لكنه سيتحول في قصة فونيجت إلى كابوس حقيقي، انسحق فيه الفرد والتميز الفردي للصالح العام؛ فأتت المساواة الكاملة لتحرم كل شخص مما يميزه حقًّا، فما أن جرى تطبيق المساواة شعر الجميع بعدم المساواة، فكيف وصف كورت فونيجت تلك المساواة وهذا العالم الكابوسي؟
«المساواة الكاملة».. هكذا تتحول الأحلام الوردية إلى كوابيس
«إنه العام 2081، والجميع أخيرًا سواسية؛ ليس فقط أمام الله والقانون، لكنهم متساوون بكل طريقة ممكنة. لا أحد أذكى من أحد؛ ولا أحد أفضل من أحد. لا أحد الأقوى ولا أحد الأسرع» *هاريسون بيرجيرون – 1961
رسمت قصة كورت فونيجت صورة لمجتمع غريب، أقل ما يُقال عنه إنه كابوسي؛ واضعًا إياه في إطار المساواة؛ لكنها بدت مساواة فجة، تسحق الفرد بأعلى درجات عدم المساواة. الأمر الذي سيجعلك تفكر بمجرد الانتهاء منها فيما تعنيه قيمة «المساواة» حقًّا وما يجب عليها أن تكونه؛ خصوصًا أن فونيجت تمكن من رسم هذا المجتمع الجديد المسحوق بعبقريةٍ متمردة يُحسد عليها.
وصف فونيجت المجتمع الأمريكي وقد طبقت فيه المساواة إجباريًّا بحكمِ القانون؛ لكنها لم تكن مساواة قاصرة على الحقوق والواجبات بين بني البشر؛ بل ظهرت في تلك «المساواة» عوامل جديدة تهدفُ إلى محو كل اختلاف بين فرد وآخر؛ وقد ذهب فونيجت هنا بالمساواة إلى أقصاها، فكان على جميع مَنْ في قصته أن يصبحوا متساوين في كل شيء، حتى العقل والجمال والقوة.
وهنا، لم يعد بإمكان الفرد أن يكون أكثر ذكاءً أو أكثر جمالًا أو أكثر قوة؛ حتى وإن كانت قدراته الفردية عكس ذلك؛ فأصبح على الفرد حينها أن يتخلص من فرديته؛ ويمحي ما يميزه حقًّا، ليصبح مثل الجميع، الأمر الذي طرح أسئلة فلسفية مهمة، من قبيل: هل من الجيد فعلًا اعتقاد الناس بأن أحدًا لا يجب أن يكون أفضل من أحدٍ آخر؟ وما الذي سيحدث إذا تحققت هذه الرؤية فعلًا ولم يعد هناك شخص أفضل من أي شخص آخر؟
رسم كورت فونيجت عالمًا دمرته الحروب والأوبئة، ووجد في تحقيق المساواة ضالته للتخلص من التنافسية التي أحالت العالم إلى الجحيم؛ لكنهم لم يدركوا أن الثمن سيكون، وفق كورت: «أن يصبحوا معاقين بشكلٍ متساوٍ» إذ أصبح على الأفراد الاستثنائيين والمتميزين ممن يعدون فوق المتوسط العام أن يعملوا على إعاقة أنفسهم ليصبحوا عاديين مثل الجميع، من أجل توزيع متكافئ للإعاقة.
كانت النتيجة أن أحدًا لن يرغب في العيش بأمريكا عام 2081 التي رسمها فونيجت، فخلال سعي الناس لتحقيق المساواة الحقيقية تخلوا عن حقوقهم الفردية لصالح القضاء على كل منافسة أو رغبة في القيادة، وهي الرغبات الإنسانية ذاتها التي تلهم الإبداع والابتكار.
فجاءت خطة الحكومة في «هاريسون بيرجيرون» تهدف إلى توحيد صفات جميع أفراد المجتمع بشكل قهري؛ إذ عينت الحكومة الرقباء من أجل إخضاع الجميع والتأكد من عدم وجود أي شخص من شأنه تهديد المستوى المتوسط والتوافق بين الجميع، وفي ظل هذا المجتمع الكابوسي؛ كان مصير كل شخص استثنائي هو القمع والحبس والنفي في جنون المصحات العقلية، حتى يُقتل في النهاية إذا ما فشل في أن يُصبح عاديًّا.
أهلًا بكم في العالم «عام 2081».. المساواة في متناول يد الجميع
يجلس جورج وهازل أمام التلفاز، يشاهدان عرضًا للباليه لراقصين وراقصات جرت إعاقة حركتهم لأنهم أكثر رشاقة من باقي أفراد المجتمع، كان جميع منْ في العرض ملثمين بالأقنعة – حتى لا يشعر مشاهدو التلفاز بالسوءِ حيال مظهرهم- إذ لم يكن من حق الراقصات أن يكنَّ أكثر جمالًا من العادي.
وأثناء الاندماج في مشاهدة تلك العروض الرديئة للراقصين المثقلين؛ يسمع جورج صوتًا في رأسه؛ إنه التشويش، ضوضاء في الأذن عليه أن يتحملها لأنه أكثر ذكاءً؛ كما كان عليه أن يتحمل أشياء أخرى مثل «حقيبة الإعاقة» التي يحملها على ظهره وتزن 47 رطلًا.
كانت تلك هي طريقة الحكومة الأمريكية ووكلائها في العام 2081، لجعل الجميع متساوين بلا تفرقة، إذ جرى تطبيق المساواة بالطغيان القديم نفسه، فلم يكن مسموحًا لأحد بالتفكير أو استخدام دماغه، سوى المسؤولين؛ وكان جورج رجلًا أعلى ذكاءً من المعتاد؛ لذا أجبروه على ارتداء جهاز للأذن يرسل له ضوضاء تشوش ذهنه؛ وكان خلع الجهاز محرمًا بموجب القانون، كما كان يجري ضبطه على ترددات راديو خاصة بالحكومة الأمريكية، يرسل خلالها المرسل الضوضاء الحادة للمستقبل كل 20 ثانية.
ليس ذلك فقط، بل كان على الأكثر جمالًا ارتداء الأقنعة التي تحجب جمالهم، وعلى الأكثر قوة حمل أثقال تزن عشرات الأرطال للحدِّ من قدرتهم، وبدلًا من أن ينعم المجتمع بالتنوع بين أفراده، جرى إعاقة الأقلية المميزة، ليصبحوا «مثل الجميع»؛ ولا يعود العالم إلى طرقه التنافسية القديمة.
ونجد تمثيلًا لذلك في المشهد الخاص بمذيع «نشرة الأخبار» الذي ظهر فجأة أثناء العرض على شاشة التلفاز، وكان يعاني من إعاقة واضحة في الكلام جعلته يعطي النشرة لإحدى راقصات الباليه لتقرأها بصوتها الجميل؛ ومن ثم تتحول إلى صوت طبيعي وعادي – بعدما اعتذرت عن جمال الصوت- وهي تقول: «هاريسون هرب».
(هاريسون بيرجيرون – المصدر Goodreads)
كان هاريسون (الشخصية الرئيسية في القصة) ابن جورج وهازل الذي يبلغ من العُمر 14 عامًا، وقد أخذه وكلاء الحكومة الأمريكية منذ فترة بعيدًا عن أهله في مشهدٍ مأساوي لأنه كان مميزًا واستثنائيًّا، وكان اعتقاله يهدف لتعديل قدراته، وفي هذا النوع من الاعتقال يخضع الفرد لمهارات المتوسط العام؛ حتى تتوافق قدراته مع العاديين، لكن هاريسون لم يكن استثنائيًّا عاديًّا، بل كان متمردًا أيضًا؛ لدرجة مكنته من الثورة على قيم «المساواة الكاملة».
كان على هاريسون في القصةِ التعامل مع عدة إعاقات مختلفة، مرة لأنه وسيم، وأخرى لأنه ذكي، وثالثة لأنه أكثر قوة من المعتاد، فيظهر في صور النشرة الإخبارية وهو يحمل فوق ظهره 300 رطل من الأثقال تعوق حركته، ويرتدي سماعات أذن ضخمة وذلك لذكائه الحاد؛ كما جرى تقبيح وجهه بأنفٍ مطاطية حمراء وأسنان مشوهة وحلق للحاجبين.
أثناء فوضى «عرض الباليه الرديء»، يقتحم هاريسون بيرجيرون بنفسه المسرح ويعلن نفسه إمبراطورًا جديدًا، ليتخلص بعدها من الحقائب التي تعوق حركته، ويتخلص من إعاقاته كاملة، ومن ثم يطلب من النساء الحضور أن من تجد في نفسها الشجاعة لتقف إلى جانبه الآن في هذه اللحظة ستصبح هي «الإمبراطورة»، وفي مشهدٍ مسرحي يرمز للحظات الأولى للثورة، تقف إحدى الراقصات وقد أزالت قناعها الذي كشف عن وجه جميل لتتوج إلى جانبه؛ ويأمر هاريسون الموسيقيين بخلع إعاقتهم والعزف بأفضل ما لديهم، ليبدأ هو وعروسه في الرقص بخفة وجمالٍ حقيقي بلا إعاقات؛ لكنها ستكون «الرقصة الأخيرة».
يطير الإمبراطور الصغير وعروسه بخفة الحركات الراقصة؛ يطيران ويلامسان فضاء المسرح، وقبل أن يهبطاا للأرض تطولهما يد رقيبة الحكومة، ديان مور جلامبرز، وبندقيتها. إذ اصطادت روحيهما برصاص البندقية كما العصافير، ليكتمل المشهد بسقوط الإمبراطور الثائر وعروسه المتوجة وقد ماتا على خشبة المسرح الدموي.
لكن الأكثر مأساوية أن هازل وزوجها جورج على الرغم من أنهما يشاهدان موت ابنهما الوحيد على التلفاز، تمنعهم ترددات الراديو المشوشة وضوضاء الأذن عن تذكر ماهية ما حدث، ليظهرا مثل المنومين في غيبوبة إعاقتهما؛ لنجد الزوجة تبكي فجأة بلا سببٍ واضح؛ يسألها الزوج: «لماذا تبكين؟»، فترد: «لا أتذكر بالضبط، لكن شيئًا محزنًا حدث للتو على التلفاز»، فيحثها في النهاية على عدم التأثر بالأشياء العابرة الحزينة.
«الفردانية» في مقابل «المساواة»
عندما جلس كورت فونيجت في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1961، ليكتب قصته الساخرة عن ازدواجية المعايير فيما يتعلق بالقيم، أراد أن يرينا كيف يمكن تحويل قيمة كبيرة مثل «المساواة» عند تطبيقها إلى النقيض، إذ خَلَقَ الإجبار في تطبيق المساواة جوًّا عامًّا من القهر والظلم بعد أن تخلى الجميع عن فرديته، للظهورِ بمظهرٍ عادي.
تلك القصة التي صورت على أنها هجاء قاسٍ لـ«نفاق المساواة»، عن طريق رسم واقع بديل، لكنه مرير ولا يخلو من المأساة كشفت أيضًا أنه بعد أن يتخلص العالم من انقساماته، من الصراعات السياسية والدينية والعنف العرقي؛ وبعد أن يقف الجميع على قدم المساواة حتى في القدرات الخاصة والمهارات العقلية والذكاء؛ يسيطر جانب مظلم آخر لمجتمعٍ يتساوى فيه الجميع، وهو ما يظهر في قصة كورت في شكل «المساواة في الإعاقة»، وفي تلك الحالة تُظلم الأقلية المميزة؛ في دفاعٍ صارخ عن «الفردانية»، التيار الفلسفي الذي يشجع التميز الشخصي للفرد بين الجماعة البشرية.
يرى فونيجت أن التنوع الفردي هو نبض المجتمع الحي، وهو ليس ضد المساواة، بل يراها فكرة نبيلة في محاولة تحقيق الحقوق العادلة للجميع، لكنه مع توازنها حتى لا تقضي على حق الفرد في التميز، إذ رأى السعي الحثيث والدائم نحو المساواة قد يؤدي في النهاية إلى نتائج عكسية؛ كما رأينا في «هاريسون بيرجيرون».
وهو أمرٌ حذر منه بعض الباحثين، مثل الأستاذ الفخري بجامعة أوكسفورد، لازلو سوليمار، في مقالٍ يشرح اتجاه العالم نحو درجة أعمق من عدم المساواة، أسوأ من تلك التي شاهدناها في العصور الإقطاعية؛ لكنها هذه المرة مُتغيرة بما يتوافق مع متطلبات العصر الحالي.
إذ وفقًا لسوليمار، اختلف المجتمع كثيرًا عما كان عليه في الماضي، ونتيجة لهذا الاختلاف، تغيرت معاني مفردات الغني والفقير، وقيم مثل المساواة. في الماضي كان الغني هو من يملأ بطنه عند الجوع، والفقير هو من لا يجد قوت يومه؛ لكننا أصبحنا في عالم لا يعاني من فقر بتلك الطريقة.
فالعمال يسكنون منازل الوحدات السكنية، والأثرياء يسكنون القصور؛ وهو وجه من وجوه عدم المساواة الحديثة، وفقًا للباحث، لكنه ليس بسبب احتياج ضروري مادي، بل أصبح الصراع نحو كماليات الحياة ورفاهيتها.
ويتوقع سوليمار أن يتجه العالم نحو المزيد من الصراع خاصةً مع تطور التكنولوجيا؛ ودخول الجميع ملعب الذكاء الاصطناعي، راسمًا صورة كابوسية أخرى للمستقبل تختلف عما رآه كورت فونيجت عن طريق المغالاة في الفردانية، لكنها تشترك معها في المصير الكابوسي نفسه، للصراع ما بين حاجة الفرد للمساواة وحاجته للتفرد.