د. أشرف الصباغ يكتب : عادل إمام هو العصر

profile
  • clock 19 مايو 2021, 5:08:41 م
  • eye 2981
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

بدأ الممثل المصري عادل إمام مشواره الفني في عام 1960. أي قبل واحد وستين عاما. وتربع على عرش الكوميديا المصرية بلونه الدرامي والاجتماعي ما يقرب من نصف القرن. 

من الطبيعي أن يجد عادل إمام نفسه في مواجهة جحافل من المحبين والكارهين والمحايدين و"الفلاسفة النقاد" و"النقاد الفلاسفة" والمنافسين.

 بل ويجد نفسه في مواجهة آلة الدولة تارة وتحت جناحها تارة أخرى، وفي مواجهة الجهل والظلامية وآلتهما الغنية بالأموال والتأليب والتحريض. 

ومن الطبيعي أيضا أن يجد نفسه في مواجهة جمهور يتم التلاعب به وبمشاعره وأحاسيسه وأفكاره. وإذا أضفنا طبائعنا وطباعنا الاجتماعية وممارساتنا "الدينية" و"الأخلاقية"،

 سنكتشف أننا دخلنا منذ أزمنة إلى زمرة قاتلي الأنبياء وأكلة لحومهم. والمسال’ هنا لا علاقة لها بتشبيه عادل إمام بالأنبياء أو الرسل، حتى لا يمتشق ضعاف العقول والأحاسيس سيوفهم الوهمية ويبدأون النضال...

ليس مصادفة أن أكتب عن "رسالة الفنان" و"رسالة الفن". كان ذلك بمناسبة عيد ميلاد الفنان عادل إمام، ولكي أمهد للمقال الأكبر. 

وربما يكون عيد ميلاده قد مر في هدوء بسبب أحداث غزة، وربما لأن الأوصياء على الدين والوطنية مشغولون بالنضال على جبهات متعددة، 

وليس لديهم الوقت الكافي لتكفير عادل إمام في هذه السنة، أو اتهامه بانحسار الوطنية أو إصابته ببعض التقلصات فيها. 

عادل إمام هو العصر، شاء من شاء وأبى من أبى. عادل إمام شغل عصرا كاملا برؤسائه وزعمائه كلهم، وبتحولاته الاجتماعية من النقيض للنقيض، وبتحولاته الفنية الأكثر تناقضا، 

وقف على خشبات المسارح، وأمام الكاميرات، واقتحم كل بيت وغرفة وفندق ومقهى وعقل وقلب وإحساس.

لا يمكن أن ينكر أي أحد منا أن لديه انتقادات فنية محددة على عالم الشخصيات اللي يؤديها الممثل المصري عادل إمام، 

وبالذات الشخصيات تلك الشخصيات التي يرى البعض أنها ليست شخصيات ابن البلد بقدر ما هي شخصيات "السرسجي" على خلفية تحولات اجتماعية وسياسية وظهور منظومة قيم بديلة قادرة على تغطية العشوائيات والفوضى المقبلة.

 لقد نجح عادل إمام في أداء دور السرسجي الذي كانت الآلة الفنية السينمائية بكل مكوناتها تصر على أن يكون خفيف الظل و"حلنجي"،

 ثم نصاب على مؤمن على بُرَم وقادر أيضا على الضرب بكل أنواعه: ضرب المنافسين والأعداء، وضرب المخدرات..

عادل إمام من وجهة نظري ممثل جيد استطاع أن يستثمر كل الفرص الممكنة للصعود إلى القمة والبقاء عليها لسنوات طويلة. 

لا شك أن قدراته الفنية التي تناسبت مع المرحلة ساعدته إلى جانب الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت تمر بها مصر.

 وذلك في تجربة فنية وحياتية واجتماعية قريبة من تجربة عبد الحليم حافظ في الغناء، حيث استطاع حليم أن يصعد إلى القمة

 ويبقى عليها لسنوات طويلة بفضل قدراته الفنية، وبفضل التحولات السياسية والاجتماعية في البلاد..


عادل إمام أحد أوتار العمل الفني السينمائي التي يعزف عليها المخرج. وكون أن لدينا مشاكل في مسألة النجومية وصفات النجم وتكوين النجم،

 أو مشاكل في صناعة السينما، ومشاكل في الأدوار الثانية والثالثة وبقية الأدوار المساعدة وهناك نظرة معينة لتلك الأدوار وفهم أعرج وعاطب لها ولقيمتها، 

فهذه ليس مشكلة عادل إمام إطلاقا. وكون أن لدينا عدم توازن بين مساحات البطل الرئيسي ومساحات بقية المشاركين في العمل،

 فهذا ليس ذنب عادل إمام. وكون أن العديد من الأعمال الفنية تضم مشاهد ساخنة أو إيحاءات جنسية أو تحرش، فهذا ليس ذنب عادل إمام. إننا نتعامل مع أعمال فنية سينمائية.

إن مشاهد التحرش واللمس والتلاسن والكلمات والإيحاءات التي قام بها عادل إمام في العديد من أفلامه ليست قائمة بذاتها، 

ولكنها ضمن موضوع محدد شارك فيه الكاتب والسيناريست والمخرج والممثلات والممثلون الذين اشتركوا في العمل الفني. 

لم يقم عادل إمام، كعادل إمام، بالتحرش أو بالتحريض على التحرش، وإنما الشخصية التي يؤديها عادل إمام هي التي قامت بالتحرش بناء على السيناريو المكتوب وعلى توجيهات المخرج 

وبالاشتراك مع الممثلة التي تم التحرش بها ليس بصفتها الأصلية ولكن كإحدى شخصيات العمل الفني..

ليس من الضروري أن يكون عادل إمام، أو أي ممثل آخر، مؤمن بالدور الذي يقوم به، أو مؤمن بطبيعة الشخصية التي يقوم بها، 

وإنما الفيصل هنا هو قدرته على تجسيد تلك الشخصية وفقا للسيناريو ولتعليمات المخرج ولقدرات الممثل.

 والعكس أيضا، أي ليس من الضروري أن يرفض الممثل شيئا في الحياة وفي الواقع، ويرفض القيام بهذا الدور كممثل اتساقا مع المبادئ والمثل العليا والأخلاق.

 إننا هنا نحول الفن إلى دين وأخلاق بالمعنى الديني الهش، ونحرم كافة المشاركين في العمل الفني من الخيال والإبداع...

من الصعب انتزاع مشاهد التحرش التي قام بها بطل الفيلم عادل إمام من سياقاتها، ولصقها بالمواطن عادل إمام الذي يعمل ممثلا، 

ثم اتهام المواطن عادل إمام بالتحرش والطعن في أخلاقه، ورفع الحماية القانونية والاجتماعية والأخلاقية عنه من أجل تعريضه لإجراءات قد تهدد حياته من جانب أفراد أو تنظيمات أو جهات ما..

كون عادل إمام يشارك في تمثيل أفلام ذات طبيعة معينة، ويرفض أن تشارك بناته في مثل تلك الأفلام أو يدلي بتصريحات تتناقض مع طبيعة عمله وطبيعة مشاركاته في أعمال معينة،

 فهذا ليس إطلاقا سببا في الطعن فيه أخلاقيا أو سياسا أو فنيا، ولدينا في نجيب محفوظ (نوبل 1988) مثال لهذا الأمر. 

بل ومن الممكن ذكر العديد من الممثلين والممثلات والكتاب والمبدعين الذين ساروا على هذا النسق. 

وفي الوقت نفسه يمكن أن نذكر شخصيات دينية ومشايخ وفنانين وكتاب ومبدعين آخرين فعلوا العكس تماما.

 ما يعني أننا إذا حاسبنا الفريق الأول، فيجب أن نسمح أيضا للذئاب المنفردة والقتلة والتنظيمات الإرهابية أن تحاسب الفريق الثاني،

 وأن نسمح لأجهزة الدولة بأن تبتز الممثلين والممثلات للقيام بأدوار أخرى لا تدخل في صميم علمهم وعملهن!

إذا كانت مشاهد التحرش والإيحاءات الجنسية لا تتوافق مع السياق الدرامي للعمل الفني فهذه ليست مشكلة عادل إمام كبطل للفيلم أو كمواطن،

 ولكنها عيب أو تقصير في العمل الفني. الغريب أن رأي قطاع واسع من المثقفين في كل من المواطن عادل إمام وبطل الأفلا

م عادل إمام يتفق مع رأي التنظيمات الإرهابية والمؤسسات الدينية والذئاب المنفردة التي تحرض على قتله كمفسد في الأرض!!!

 بل وترى أيضا أن الإفساد في الأرض يجب أن يطال كل الممثلين والممثلات.

لم تكن ذكرة ميلاده في 17 مايو 2020 المرة الأولى التي تتأجج فيها مثل تلك الحملات ضده، وإنما كانت حلقة ضمن سلسلة حلقات تحدث طوال أكثر من عشرين عاما،

 ما يشير إلى مصالح ما لجهات وأفراد وربما مؤسسات يقفون وراء تلك الحملات الممنهجة، والتي يتم فيها استخدام قطاعات المثقفين،

 واستثمار التناقضات والخلافات بينهم وتشرذمهم وتصفية الحسابات بينهم، لتتجاوز الأمور عادل إمام وتصل إلى ممثلين وممثلات آخرين،

 وإلى الفن نفسه كرسالة إنسانية وروحية، لتصل الأمور إلى أبعد من ذلك حيث يتم نصب المحاكم الأخلاقية والسياسية،

 ويتم هدم كل شيء لإثبات ذنب عادل إمام وإثمه الأخلاقي والسياسي والأمني والمهني، وربما ينسحب ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر على ممثلين آخرين وممثلات أخريات،

 لننتقل إلى حرمانية الفن وفساده وفساد أخلاق العاملين فيه وبه وإفسادهم في الأرض وهو ما يستحق عقوبات محددة قد يقوم بتنفيذها أولي الأمر أو تنظيمات دينية بعينها 

أو ذئاب منفردة تتفق تماما في رأيها مع آراء العديد من المثقفين، وبالذات في الجانب الأخلاقي.

إن النفاق الثقافي والاجتماعي والديني و"الوطني" سحب الغالبية العظمى من المجتمع إلى واحدة من أحط الدرجات الإنسانية، 

وخلط المعايير والقواعد الفنية والنقدية والإنسانية، وهبط بالفن والثقافة إلى واحد من أردأ مستويات التدني في تاريخنا. 

هناك حالة من الخسة والدناءة في التعامل والنظر إلى الفن والفنان، وإلى الثقافة والمثقف، ولكن ماذا يمكن أن نفعل مع مجتمع لا يستطيع أن ينام دون أن يشبع غرائزه بتكفير نفسه وتكفير الآخرين،

 أو اتهام نفسه بالتآمر واتهام الآخرين بالخيانة العظمى!!! من أين جاء كل ذلك، ومن المذنب، وإلى أين نسير بكل تلك الأحمال الرديئة والدنيئة، وبكل ذلك الجهل والغباء وقصر النظر والحماقة والانتهازية والتسول الروحي والمادي؟!

كلهم يلجأون إلى الخلط المتعمد من أجل ذبح عادل إمام وتصفية حساباتهم معه، والانتقام منه لأنهم لم يستطيعوا أن يتحققوا، 

ولأن إحساسهم بالدونية يدفعهم إلى اقتراف أنذل وأحط الطرق لإعدام الآخرين ومحوهم ومحو تاريخهم.

 إنهم على استعداد ليغفروا للشيطان نفسه، ولكنهم غير مستعدين للتعامل بجدية واحترام لأنفسهم في علاقتهم بعادل إمام

 وبمنجزه الإبداعي كممثل وليس كرسول أو نبي أو مثقف عضوي أو ثوري. إنه مجرد ممثل جيد تربع على عرش نوع درامي معين ما يقرب من نصف قرن. 

أخفق ونجح وفشل وانتصر وهُزِم.. إنه إنسان طبيعي وليس ملاكا. لكن لا أحد يريد أن يتعامل معه بجدية ومن دون ركاكة ونذالة ودناءة وانتهازية، 

وفي الوقت نفسه تجري محاولة إحلال العملات الرديئة محل العملات الجيدة، وتقديس ممثلين وممثلات الكل يعرف جيدا مواقعهم ومواقعهن على الخريطة الفنية 

وفقا لقدراتهم وقدراتهن، وقدرات من أطلقهم وأطلقهن علينا وعلى مشاعرنا وأحاسيسنا وعقولنا وأرواحنا!! 

ما كل هذا الغباء وقصر النظر وتصفية الحسابات؟! ما كل هذه القسوة والدناءة والنذالة والانتقام؟!  

لنسأل أنفسنا، كيف تم تأسيس الأمر الواقع الذي قاد إلى قتل فرج فودة وضرب نجيب محفوظ بالسكين، 

ومن قبلهما إعدام الشيخ الدهبي على يد الحثالة البشرية؟! كيف برر رجال الدين، الغزالي والشعراوي وكشك وعشرات غيرهم، تلك الجرائم؟!

ما هي الخلافات التي كانت بين الضحايا وبين المثقفين وأتباع التيارات السياسية اليسارية والقومية والناصرية، وماذا كان يقول عنهم كل هؤلاء؟!

كيف تم تأسيس أمر واقع لتكفير نصر حامد أبو زيد وتطبيق قانون الحسبة عليه وتطليق زوجته منه، وسفره إلى خارج مصر، لأن الدولة لم تستطع حمايته؟!

ماهي الخلافات التي كانت بين نصر حامد أبو زيد وبين عبد الصبور شاهين وشلته، وكيف ساهم ذلك في رفع الغطاء والحماية القانونية والأخلاقية والمهنية عن المفكر نصر أبو زيد. 

علما بأن شاهين وشلته كانوا مع نصر حامد أبو زيد في نفس الكلية أو القسم على ما أذكر؟!

كيف ساهم المثقفون وأتباع التيارات السياسية اليسارية واليمينية والقومية في إشاعة حالة العداء، سواء ضد نجيب محفوظ أو فرج فودة أو الشيخ الدهبي أو نصر حامد أبو زيد؟!

ماذا لو تم قتل عادل إمام (أو غيره من ممثلين وممثلات) أو الاعتداء عليه بعد أن تم رفع الغطاء الأخلاقي والمهني والإنساني عنه، سواء من جانب قطاعات واسعة من المثقفين أو من جانب التيارات الدينية التي تعيش في سلام في مصر،

 أو من جانب الذئاب المنفردة التي تعيش بيننا وتعتبر التحريض على العنف والقتل والتصفية الجسدية رأي شخصي من حقها ممارسته؟!

يبدو أننا وصلنا إلى القاع الخانق المظلم الآسن. وصلنا إلى زمرة القتلة وأكلة لحوم البشر. نفعل ذلك بأريحية وكأن ذلك من طبائع الأمور،

 كأننا مفطورون على الانتقام والقتل بفعل الجهل والتعصب والعصبية. نبتسم بفذلكة وصفاقة وتقعر ونقول: "ماذا نفعل، إننا بشر من دم ولحم، والإنسان ملئ بالتناقضات"!!! 

نعم نقول ذلك من أجل أن نبرر ونتفلسف، ونترك جوهر الأمر ونتنطع لنوجه أسئلة هامشية وبعيدة عن جوهر أي موضوع، نقوم بتشتيت كل شيء ودفع كل شيء إلى العدمية لكي نرضي هذا الحيوان القاسي القابع في أرواحنا... 


عندما حصل الكاتب الروسي إيفان بونين على جائزة نوبل في الأدب عام 1933، كانت هناك حملة شعواء ضد الكاتب الروسي مكسيم جوركي. 

وكانت الاتهامات تحيط به من كل حدب وصوب، وكان ستالين يترصد له، وكان الكي جي بي قد قتل ابنه. كانت الآلة الشيوعية الستالينية الدنيئة تقهره من جانب،

 وكان مناهضو الدولة السوفيتية العرجاء يمزقونه من جانب آخر. يومها خرجت الشاعرة الروسية العظيمة مارينا تسفيتايفا،

 التي كانت تعاني الأمرين من الكي جي بي ومن الآلة السوفيتية الدنيئة، لتتحدى الجميع وتعلنها على الملأ: "إن جوركي هو العصر"! تلك المرأة "الشريفة" 

بكل معاني الكلمة، والتي كانت على تناقض جوهري وجذري مع مكسيم جوركي، تحدت الجميع، أنصارها وأعداءها ومنافسيها والمخابرات والدولة،

 وقالت رأيها التاريخي في واحد من أعظم كتاب روسيا القيصرية والسوفيتية، مهما اختلفت حوله الآراء. 

هكذا هم الكبار. وهكذا هم أبناء المجتمعات الحريصة على قواها الناعمة واستخدامها كسماد من أجل تغذية الأرض وإصلاحها وتمهيدها لزراعة المزيد من الإبداع ورعايته ومواصلة العطاء والارتقاء... 

عادل إمام عصر من التمثيل والأداء والفروسية والأحلام والابتسامات والدموع... كل عام وأنت بخير، يا رجل...

التعليقات (0)