- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
أنيس فوزي قاسم يكتب: قانون «يُعاقَب…»
أنيس فوزي قاسم يكتب: قانون «يُعاقَب…»
- 27 يوليو 2023, 4:56:08 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
طرحت الحكومة الأردنية مؤخراً مشروع «قانون الجرائم الإلكترونية» الذي سوف يناقش في مجلس النواب الأردني قريباً. يتكون القانون من إحدى وأربعين مادة، ولو اعتبرنا المواد الموضوعية وحسب، أي طرحنا المواد الإجرائية، لأصبح القانون يتكون من ثلاث وثلاثين مادة تضمنت ثلاثاً وأربعين عقوبة، بالإضافة إلى مادة تنص على تشديد العقوبة إذا وردت عقوبة أشد في أي قانون آخر. و»يمتاز» هذا المشروع بانفراده بوضع عقوبات قاسية جداً، لم يسبق أن وردت في أي تشريع أردني مماثل آخر. وفي كل الأحوال، أشك في أن يكون القانون مفهوماً، أو من الممكن استيعابه، إن لم يرافق المحامين والقضاة خبراء في تكنولوجيا المعلومات، في كل مرة تكون هناك مناضلة أمام القضاء، ذلك أن الجوانب الفنية تفوق قدرة من هم خارج صنعة تكنولوجيا المعلومات.
من المستغرب أن يُطرح هذا القانون في الوقت الذي يحق للأردن أن يتباهى بهذا الجيل من الشباب الأردني، الذي اقتحم عالم الإلكترونيات بذكاء ونشاط ملحوظين، ويقدم هؤلاء الشباب الأردن كنقطة مضيئة في هذا العالم، الذي أصبحت الإلكترونيات فيه، بكل علومها وتطوراتها، جزءاً لا يتجزأ من مكوناته الرئيسية، ومن قصبات السبق فيه. ولنا أن نعتز بهذا الجيل من شبابنا الذي يتعامل مع هذه الصناعة بجسارة وجدارة، وكان المأمول أن يأتي المشروع ليفتح آفاقاً رحبة أمام شبابنا لاقتحام هذا المجال، من دون رهبة من عقوبة شديدة هنا وعقوبة أشد هناك. ومن المعروف، أنه في حالة نشوء صناعات جديدة يقوم المشرع عادة بحمايتها، وليس بفرض قيود عليها، دفعاً لهذا النشاط الوليد إلى الأمام.
يأتي مشروع «الجرائم الإلكترونية» قيد الدراسة في اتجاه معاكس وينطوي على نذرٍ سلبية تتعارض مع الدستور الأردني نصّاً وروحاً ومع التوجه العام للمملكة
إن الدخل الوطني الذي يأتي من صناعة الإلكترونيات أصبح يشكل جزءاً مهماً من الدخل القومي لكثير من الدول، فضلاً عن حجم اليد العاملة التي تعمل في هذه الصناعة. وأعلم كيف أن عدداً من المستثمرين يأتون إلى الأردن طمعاً في الكفاءات الأردنية، التي أثبتت جديتها ونجاحها في هذه الصناعة، كما أنه يثبت تقدم المؤسسات الأكاديمية الأردنية ذات الاختصاص. إن قراءة المشروع قراءة دقيقة، تبعث على الرهبة والخوف، بل الامتعاض، فهو قانون أقرب إلى أشد نوع من قانون عقوبات منه إلى كونه قانوناً جاء لتنظيم نشر واستخدام المعلومات، حيث وصلت بعض الغرامات إلى خمسين ألف دينار، ما يعني «كتم الأنفاس». إن أخطر ما في هذا المشروع هو تأثيره السلبي في حرية الرأي، والقدرة على التعبير والبحث، وهي من ركائز النظام الدستوري في الأردن. وكان الأردن رائداً في النص في دستوره على أن «تكفل» الدولة حرية الرأي، «ولكل أردني أن يعرب عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط أن لا يتجاوز حدود القانون» (المادة 15 من الدستور)، ثم جاء التعديل الحادي عشر على الدستور، فأبقى على النص الأصلي في تلك المادة، وأضاف فقرتين تبدأ كل منهما بكلمة «تكفل» الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر، و»تكفل» الدولة حرية البحث العلمي. والمشروع المطروح يشلّ هذه الحريات التي التزم الدستور بـ»كفالتها». تجدر الملاحظة، أن النص الدستوري جاء بكلمة «تكفل» ولم يستخدم «تمنح» الدولة حرية الرأي والبحث، وكان هذا الاختيار لكلمة «تكفل» مقصودا، فالكفالة ـ طبقاً للقانون المدني ـ هي التزام تابع لالتزام أصيل. فالمقترض، مثلاً، يجب أن يقدم كفيلاً للبنك، فالكفالة التزام يتبع الالتزام الأصلي وهو الاقتراض، ولأن الكفالة التزام تابع فهي تدور مع الالتزام الأصلي وجوداً وعدماً. فإذا قام المدين بتسديد القرض إلى البنك، تنقضي الكفالة حكماً دون قيام الكفيل بأي تصرف. وقياساً على ذلك، فإن الدستور نص على أن تقوم الدولة بـ»كفالة» التزام أصلي، وهو حرية التعبير، وهذه الحرية أسبق من الدولة وأسبق من الدستور باعتبار أنها حق طبيعي للأردني، ولأنها كذلك، جاءت الدولة «تكفلها» ولا تمنحها أو ترخّصها. الدولة «تكفل» حرية ممارسة الأردني حقّه في التعبير وإبداء الرأي وحريته في الكتابة بأي شكل من الأشكال، وحريته في الطباعة وإصدار الصحف، من دون رقابة من الدولة، وبخلاف ذلك يكون القانون، أي قانون، متنافراً مع الدستور، أي يصبح القانون «غير دستوري»، كما أن عدم احترام الدولة لـ»كفالتها» يعني قيام مسؤوليتها، بل إخلالها بالتزام الكفالة، وحيث أن حرية الرأي هي الأصل، وما زالت هذه الحرية قائمة وثابتة، فإن الكفالة تظل هي الأخرى قائمة لأنها مرتبطة بالحق الأصلي وهو حرية التعبير. وللمشرع الأردني أن يفتخر بأن دستوره قد كفل حق الأردني الطبيعي ولم يمنحه إياه.
أما الجملة الأخيرة من الفقرة الأولى للمادة (15) التي تنص على أن ممارسة حرية الرأي يجب «ان لا تتجاوز حدود القانون» فهي ليست رخصة للسلطة لشلّ حرية الرأي، فالمبدأ الذي ينص على «الكفالة» لا يمكن شلّه بمقولة «حدود القانون» التي هي الاستثناء، ذلك أن القانون يضبط ممارسة هذا الحق المكفول وينظمه كيلا تتضارب مشارب المواطنين واهتماماتهم، ومتى وكيف يمارس المواطنون حقهم في إبداء الرأي، وذلك كمن ينظم حركة الناس في استخدام الطرق العامة، من دون أن يمنعهم من استخدامها، وأي قيد على حرية التعبير يكون من شأنه المس بتلك الحرية المكفولة، يكون قيداً متعارضاً مع الدستور. ولا بدّ من التذكير بالمادة (128/1) من الدستور، التي قننت مبدأً مهماً وصريحاً في صيانة حريات المواطنين، حيث نصت على أنه «لا يجوز أن تؤثر القوانين التي تصدر بموجب هذا الدستور لتنظيم الحقوق والحريات على جوهر هذه الحقوق أو تمسّ أساسياتها»، وهذا يعني أن النص على «أن لا تتجاوز حدود القانون» لا يمكن أن تكون أداة لشلّ الحق في التعبير عن الرأي، وإلاّ تعارضت مع المادة 128/1 وهذا غير مقبول دستورياً. لقد مضى ذلك الزمن الذي كان المشرع ينظر إلى حرية المواطن وكأنها «منحة» أو «هبة» من الدولة، ذلك أن الدولة تسعى الآن إلى الدخول إلى العصر الحديث، وهناك أنشطة تمارسها الدولة حالياً ويقوم المسؤولون بشرحها للجمهور، من أن النية تتجه إلى العبور بالأردن في مئويته الثانية إلى القرن الحادي والعشرين، بدلالة إصدار تشريعات تحمل رسائل قوية مثل قانون الأحزاب ومحاولة تطوير قانون الانتخابات التشريعية. ويأتي المشروع قيد الدراسة في اتجاه معاكس وينطوي على نذرٍ سلبية تتعارض مع الدستور الأردني نصّاً وروحاً ومع التوجه العام للمملكة.
محام وكاتب فلسطيني