تكبير الخط تصغير الخط

جميلة هي مشاهد الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة في بلاد تعرف معنى ذلك وتربي شعوبها عليه، والأجمل منها أن يعرف حكام هذه الشعوب أن مقاليد الأمور بيد مواطنيها، تأتي بمن تشاء وتذهب بمن تشاء، حينها فقط يهاب من في سدة الحكم من شيء اسمه "الصندوق الانتخابي".

أما في غير تلك الدول، فليل أمتها يطول، والظالمون يتربعون بلا شرعية قانونية ولا شرعية شعبية، فقط شرعية الـ97٪، وأظن المتبقي لتحصيل تمام المئة هو فقط لحفظ ماء الوجه أمام المجتمعات الغربية، إن كان لديهم حياء أو خجل من الأساس.

أذكر آخر مرة شاركت بها في الإدلاء بصوتي الانتخابي بشكل طبيعي دون خوف أو ترهيب وبشفافية كانت هي نفس المرة الأولى التي عرفها أبناء شعبي وعرفتها بلادي مصر في اختيار رئيس للبلاد يمثلهم عام 2012؛ حيث جاء الرئيس باقتراع مباشر، أعرف أنها كانت تجربة وليدة على شعب اعتاد أن يرى من يحكمه في بلاده منذ خليقتها تحكم بالتوريث على اختلاف مسمياته، إما بنظام ملكي أو أميري أو عسكري.

عام واحد فقط يفصل بين كل ما سبقه من أعوام منذ نشأت مصر وما تلاه من أعوام أخرى حتى يومنا هذا، وأظنه العام المدني الوحيد؛ بل قل اليتيم في عمر هذه البلاد، وإنما قلت الوحيد تجملاً.

أقصد بالمدني ما نستطيع الفصل به بين السلطات والهياكل والمؤسسات المدنية والدينية والعسكرية، ولكن هذه المفاهيم قد تنتفي تماماً تحت وطأة دبابة تأتي على حين بغتة أو فوهة بندقية تبدد حلم أمة ومستقبل شعب، فلا فارق حينها بين من اختار هذا ومن رفض ذاك ليختار آخر، فالنتيجة واحدة، كما الحالة المفروضة عنوة بأمر شخص واحد، وهذا هو الحكم العسكري.

نعم قد تتغير البزات المرتداة بأخرى أكثر مدنية مع ربطات عنق لمحاولة  إضفاء صورة مدنية على مشهد معتم أصلاً بدخان وغاز ورائحة موت في كل مكان، ولكن في الكواليس قد اُعدت ربطات عنق من نوع آخر أشد بشاعة وأكثر انتقاماً، انتقام على كل من ثاروا ومن انتخبوا ومن قالوا وبعض الأحيان من صمتوا.

الحكم العسكري يا سادة ليس أشخاصاً أو جنرالات وفقط، بل هي حالة شاهدنا نتاجها وما زلنا نراها في الكثير من بلداننا العربية وكأنهم جميعاً تعلموا من كتاب واحد حذو الخطة بالخطة.

وجهة نظري أن مفهوم الحكم في بعض بلادنا العربية لا يعرف ديمقراطية ولا يحترم دستوراً ولا يحتكم إلى قوانين ولا حتى يؤمن بسنة الله في التغيير وتقلب الأمور كما يتقلب الليل والنهار، وصدق رسول الله حين قال: "ثم تكون جبرية".

ولا يظن ظان أنها مسبة في هؤلاء بل هي طبيعة الحالة التي لا تعرف غير الأمر والتنفيذ، والذي سمحت له الفرصة في الخدمة بالمؤسسات العسكرية أو الشرطية يعرف ذلك جيدا.

في خضم هذا الحديث تابعنا وتابع الجميع تجربة بسيطة جرت أمام العالم عن مفهوم الديمقراطية وحق الاختيار وحق الكلمة، وأيضاً معنى الاختلاف، هذه الطبيعة التي فطر الله الناس عليها، قد نختلف في الطرق والآراء، لكن الأصل ثابت، وأقصد بالأصل هنا رضوخ الجميع على رأي الأغلبية حتى تسير الأمور، وإلا فسدت الأرض وساد مفهوم القوي الذي يهضم حق من له الحق، نعم أعرف جيداً أن ليس هناك على الإطلاق ما يسمى بالمدينة الفاضلة أو المجتمع الملائكي، فلا بد هناك من أخطاء تشوب كل أمر، ولكن على القليل هناك مفهوم "الصندوق الانتخابي" بتعريفه المدني الذي هو ملك لشعبه.

أظن من يتحدث اليوم عن الانتخابات التركية من أوطاننا العربية صاحبة الصيت الكبير في الانقلابات العسكرية على مختارات ومقدرات شعوبها علي مدار أعوام، ليست المسألة في الحقيقة كما يدعون عن مدة الرئيس في ولايته ولا عن علاقته بالمجتمع الغربي ولا عن نفوذ الدولة التركية في الشرق الأوسط ولا حتى عن فوز الرئيس في الجولة الثانية بعد تقارب الفروقات بين منافسه في الجولة الأولى ليس كل هذا، ولا حتى الديمقراطية في تركيا ممن ليس لديهم ديمقراطية ولا الانتخابات في تركيا ممن ليس لديهم انتخابات.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان – الأناضول
 

ولكن أظنه الخوف من تصدير الحالة النظيفة من الانتخابات التركية التي جرت بالأمس بتاريخ 28 مايو 2023، لا أقول لبلدانهم حتى نكون واقعيين، ولكن دعونا نقل إلى نفوس شعوبهم والتوق الطموح أن يكونوا أمثالهم، وأن فكرة الصندوق النزيهة هذه قد تأتي بمتغيرات لهم تحمل معها آمالاً بل نسيماً نقياً لنفوسهم المتعبة، بعدما فسدت بهواء سام أنهك أرواحهم وأفقدهم حتى القدرة على مجرد حلم التغيير بعدما سرقت ثورتهم، حتى يروا من سار على نهج الديمقراطية في بلادهم بممحاة قد استبدل بغيره.

الحكام ليسوا أصحاب حكمة إلهية مقدسة منزلة من السماء، ولا هم يمتلكون دعماً إلهياً كما يدعي بعضهم، وإلا فما الفارق بين دولة دينية تدعي الحكم باسم الله في أرضه وبين دولة مدنية ملك لمواطنيها، فالمسألة ليست صعبة أو معضلة أيها الحكام، دعوا الشعوب تقرر مصيرها بالصندوق الانتخابي ولننتظر النتيجة.

أدرك جيداً أنه ليس هناك على وجه هذه البسيطة بشعب يمتلك من الوعي تمامه ويعرف حق المعرفة بالصالح له إن خُير بين هذا وذاك ولا حتى عند الشعوب الأكثر انفتاحاً، فما بالنا بالشعوب العربية التي تم تجهيلها وإذلالها وإمراضها عنوة على مدار عقود من الزمن بحكم الحديد والنار وقوانين الطوارئ المتعاقبة.

إن الشعوب التي سُنحت لها الفرصة في التغيير الحر الشفاف دون قيود، رأى العالم منها ما لم يكن متوقعاً، ومثال على ذلك الانتخابات الرئاسية المصرية التي جرت عام ٢٠١٢ والتي شهد بنزاهتها العالم بعدما أفرزت تجربة مدنية ناصعة البياض بغض النظر عن الأيديولوجيا التي جاء منها الفائز، ولكن سرعان ما تبدل الحلم، وحدث ما حدث.

أخيراً، مبارك لتركيا تجربة ديمقراطية واعية كثيراً ما حلمنا بها في أوطاننا العربية.