- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
إبراهيم نوار يكتب: «الفقاعة» و«الدولة الحديدية»: فاغنر في مواجهة روسيا
إبراهيم نوار يكتب: «الفقاعة» و«الدولة الحديدية»: فاغنر في مواجهة روسيا
- 28 يونيو 2023, 5:59:25 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تثير المواجهة المثيرة بين جماعة مسلحة غير حكومية مثل «فاغنر» ودولة المنشأ «روسيا» علامات استفهام كبيرة، حول حدود دور مثل تلك الجماعات، ليس في العلاقات داخل النظام الدولي فقط، ولكن أيضا في العلاقات السياسية داخل الدولة الواحدة، خصوصا في فترات أو مراحل تآكل دور الدولة، وغيرها من الفترات والمراحل المفصلية، مثل حالات الحروب، وبناء السلام، وإعادة بناء الدولة، ومراحل الغليان السياسي. وليس من الصعب أن نشير إلى أن تنوع دور الجماعات المسلحة غير الحكومية في منطقة الشرق الأوسط، يقدم لنا ثروة من الوقائع والأنساق والعلاقات والتطورات الدرامية، التي تمكننا في حال دراستها بعناية أن نستخلص منها الكثير من الدروس والعبر. وليس من قبيل الصدفة أن تكون «فاغنر» واحدة من هذه الجماعات في الشرق الأوسط؛ فهي موجودة في السودان وليبيا وتشاد، ولعبت دورا محوريا في سوريا، كما إنها على علاقة قوية بجماعات محلية من جنسها.
في الشرق الأوسط تمكنت جماعات مسلحة غير حكومية من إسقاط حكومات، كما حدث في ليبيا عام 2011، وكما فعل الحوثيون في اليمن عام 2014. كما استطاعت جماعات مسلحة غير حكومية أن تصبح فاعلا سياسيا يتحكم في عملية اتخاذ القرار للدولة، مثل تنظيمات «الحشد الشعبي» في العراق، وتنظيم «حزب الله» في لبنان. وفي حالات أخرى تلعب التنظيمات المسلحة غير الحكومية دورا رئيسيا في قيادة حركات انفصالية تهدد وحدة الأراضي الوطنية للدولة، مثلما حدث مع «داعش» في العراق عام 2014، وما حاولت منظمة «أنصار بيت المقدس» أن تفعله في شمال سيناء في مصر عام 2014، وما يحدث في الصحراء المغربية، وفي المناطق الكردية في تركيا والعراق وسوريا.
كما أن الصراع الحالي في السودان يكشف عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الجماعات العسكرية غير الحكومية، وشبه الحكومية في إضعاف الدولة، وتسهيل تقسيمها إلى أقاليم متناحرة. وتكشف تجارب الشرق الأوسط أن التساهل في تطبيق مبدأ حصر استخدام السلاح في أيدي الدولة، أو ضعف الدولة إلى درجة انتشار استخدام السلاح بواسطة جماعات غير حكومية، يضع الأساس لصراعات طويلة، تترافق مع خسائر كارثية، مثلما حدث ويحدث حاليا في دارفور والخرطوم.
لكن ما حدث يوم 24 يونيو في روسيا، عندما سيطرت قوات «فاغنر» على مدينة «روستوف» في غرب روسيا، حيث يوجد المركز الرئيسي لقيادة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ثم انطلقت منها قوة مدججة بأسلحة ثقيلة، تشمل دبابات وعربات مدرعة ومدفعية ثقيلة، بصحبة تشكيلات من الجنود، صوب العاصمة الروسية موسكو، كان في حقيقة الأمر يمثل مشهدا فريدا في تاريخ الدولة الروسية، ربما لم نشهد مثله، من حيث مكوناته، وكل الظروف المحيطة به، منذ المواجهة التاريخية بين الجيش الأحمر بقيادة «البلاشفة» و»الجيش الأبيض» المكون من تحالف واسع ضم «المناشفة» وأنصار النظام القيصري في نهاية الحرب العالمية الأولى. ورغم أن قوات «فاغنر» توقفت على بعد حوالي 100 كم من العاصمة الروسية، بعد اتفاق بوساطة ألكسندر لوكاشينكو رئيس جمهورية روسيا البيضاء، أي قطعت مسافة تقرب من 900 كم، من دون قتال تقريبا، فإن موسكو كانت تحت تهديد فعلي. وهو ما أدى إلى اتخاذ إجراءات احترازية تضمنت تفعيل حالة الطوارئ.
في الحرب، لضمان التعرض لأقل قدر من الخسائر، وتحقيق النجاح، يتعين على القيادة تركيز المجهود الرئيسي في اتجاه محدد، إما تحقيق هدف محدد، أو منع العدو من تحقيقه
الخلافات بين فاغنر والجيش
تأسست فاغنر كشركة أمنية خاصة، لممارسة أنشطة خارجية، خارج نطاق القانون، وإن كانت تتمتع بنوع من الحماية الخفية غير المعلنة من الدولة، ومنذ تأسيسها عام 2014 لعبت أدوارا مهمة في شبه جزيرة القرم، بعد ضمها إلى روسيا، وفي سوريا منذ عام 2016، وفي بلدان أخرى في افريقيا أهمها جمهورية افريقيا الوسطى، وجمهورية مالي، وتشاد، والسودان، وجنوب السودان. وكان نشاط «فاغنر» في سوريا ثم افريقيا على وجه الخصوص، خطوة كبيرة لتوسيع مجال الأنشطة التي تقوم بها في النواحي الاقتصادية، بدءا من حماية آبار النفط في شمال شرق سوريا، إلى حماية مناجم الذهب والتنقيب عنه في افريقيا الوسطى والسودان.
وعلى الرغم من أن معظم الجماعات المسلحة غير الحكومية تحصل على مساعدات مباشرة وغير مباشرة من أطراف أخرى محلية أو خارجية، إلا إنها بوجه عام تسعى إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من الاستقلال المالي، حتى تكون قادرة على تمويل نفسها بغير حدود. وقد لاحظنا في تشكيل تنظيم «داعش»، أن أحد أركان بقائه كان يتمثل في وفرة مصادر التمويل الذاتي، مثل الضرائب والرسوم والأنشطة التجارية وبيع النفط، وسرقة البنوك والمتاجر. وقد حققت مجموعة «فاغنر» استقلالها المالي من خلال أنشطة قانونية، مثل أعمال الحراسة والحماية والتدريب، وغير القانونية مثل التنقيب عن الذهب واستخراجه وبيعه عن طريق شبكات تهريب تضم حكومات، تمارس أنشطة تبييض الأموال والثروات المنهوبة، إضافة إلى تجارة السلاح، وتهريب الأفراد والمخدرات، وتقديم الخدمات غير المشروعة مثل تنفيذ الاغتيالات.
الحصول على غنائم
بعدما تم استدعاء «فاغنر» للمشاركة في القتال في أوكرانيا، لعبت دورا رئيسيا في السيطرة على منطقة «دونباس»، كما لعبت أخيرا الدور الرئيسي في معركة «باخموت»، وتسببت المعركة الأخيرة، في انفجار توتر كان قائما ومتصاعدا بالفعل بين نظامين للعمل العسكري، من الصعب أن يتعايشا في مكان واحد. ويبدو لي من متابعة الأحداث والتعليقات والهوامش المرتبطة بها، أن قوات فاغنر حصلت على وعود بمكافآت سخية في حال اقتحام «باخموت» وتأمينها، وتضمنت المكافآت كذلك توزيع أوسمة ونياشين على المقاتلين الذين أظهروا كفاءة متميزة في أعمال القتال. وبعد دخول «باخموت» فإن ضباط الجيش والقوات الرسمية هم الذين حصلوا على التكريم، وليس «فاغنر» حسب رواية بريغوجين، وهو ما أثار غضبه، وغضب جنوده عليه، وربما اعتاد مقاتلو «فاغنر» في عملياتهم، سواء في سوريا أو افريقيا الحصول على مكافآت كبيرة في نهاية كل معركة، وربما على «نصيب من الغنائم»، وهو ما لم يحدث بعد «باخموت»؛ فاستغل بريغوجين غضب الجنود، وألقى اللوم على الجنرال شويغو وزير الدفاع، والجنرال غراسيموف رئيس الأركان، قائد القوات المشتركة المحاربة في أوكرانيا، واشترط إبعادهما. وربما ترك ذلك الأمر انطباعا بأنه أراد لنفسه أحد المنصبين، باعتباره بطل معركة دونباس، ومعركة «باخموت». وقد بالغ بريغوجين بشدة في تقدير قوته، وقرر دخول اختبار مستحيل، تراجع عنه في 24 ساعة، في خسارة ساحقة، تعني صراحة إبعاده عن روسيا، وحل قواته، وربما تصفية شركته داخليا، وإعادة قواته التي لم تتورط في التمرد إلى معسكراتها الأصلية في الخارج. وهناك سبب آخر ينبغي عدم تجاهله، هو أحد أهم أسباب الخلاف بين بريغوجين، وكل من شويغو وغراسيموف، يتعلق بتحكم الجيش في إمدادات الأسلحة إلى قوات «فاغنر»، من حيث النوع والكمية. ومن المعروف عسكريا أن أهم مصادر قوة الجماعات المسلحة غير الحكومية، تتمثل في حرية الوصول إلى الأسلحة. ولما كانت هذه الحرية مقيدة بواسطة الجيش، على عكس ما اعتادت عليه «فاغنر» في افريقيا، فإن وجود غراسيموف على رأس القيادة، جرد «فاغنر» من حرية الحصول على الأسلحة التي تريدها، وهو أمر يعلمه فلاديمير بوتين ويفهم مبرراته.
إسقاط إمبراطورية «فاغنر»
في نهاية الأمر تحولت «فاغنر» إلى مجرد فقاعة صغيرة في أوكرانيا، لأنها أقدمت على تحدي «الدولة الحديدية»، ولا شك في أن عدم اعتراض قوات «فاغنر» وهي في طريقها إلى موسكو كان يعكس عاملين: الأول هو اطمئنان بوتين إلى أمن وسلامة موسكو، وأن قواته تستطيع تصفية القوة التي تحركت صوب العاصمة بأقل قدر ممكن من الخسائر. والثاني هو أن بوتين لم يغامر بالدخول في حرب داخلية في روسيا، بينما كييف تستعد لشن هجوم مضاد جديد بعد فشل هجومها الأول. في الحرب، لضمان التعرض لأقل قدر من الخسائر، وتحقيق أكبر قدر من النجاح، يتعين على القيادة تركيز المجهود الرئيسي في اتجاه محدد، إما تحقيق هدف محدد، أو منع العدو من تحقيق هدف محدد. وأظن أن بوتين نجح في تركيز المجهود الرئيسي للقوات الروسية في اتجاه صد الهجوم المضاد الأوكراني، وتعزيز مواقع قواته على خطوط المواجهة. الدولة الحديدية في روسيا تمكنت من أن تفقأ فقاعة «فاغنر» داخليا، لكن هذه الفقاعة تحتاج إلى مواجهة حاسمة في بلدان مثل السودان وليبيا وتشاد وافريقيا الوسطى ومالي، فهل يمكن لتلك الدول، تحت بعض الشروط، إثبات أن «فاغنر» وغيرها من الجماعات العسكرية المسلحة غير الحكومية، هي مجرد فقاعات صغيرة، يمكن للدول المعنية، حتى إن كان البعض منها مجرد فقاعة كبيرة، أن تبتلع الفقاعة الصغيرة وتقضي عليها؟ إمبراطورية «فاغنر» لم تسقط بعد.
كاتب مصري