- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
ابراهيم نوار يكتب: قمة التصالح مع النفس ونهاية الاستقطاب مع العالم
ابراهيم نوار يكتب: قمة التصالح مع النفس ونهاية الاستقطاب مع العالم
- 24 مايو 2023, 4:27:37 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قمة جدّة 2023 هي بيان للناس في العالم العربي والشرق الأوسط والعالم. بيان للناس في العالم العربي، بانتهاء فراغ القيادة السياسية، للمرة الأولى منذ عام 1979، وانتظام الصف العربي بعودة سوريا وراء القيادة السعودية، وإعلان التصالح مع النفس. وهي بيان للناس في منطقة الشرق الأوسط، بانتهاء مرحلة إدارة العلاقات بأدوات الصراع والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ورسالة صريحة قوية بأن العرب يفتحون أبوابهم لجيرانهم، لكن بشروطهم، ويرفضون اقتحام الآخرين لقضاياهم بالقوة أو بغير استئذان. وهي رسالة تحمل معها إعلان مبادرات متعددة الأطراف لإقامة منطقة للسلام والتعاون المشترك بين العرب ودول الجوار. كما إن قمة جدّة هي بيان للناس في العالم أجمع، بأن الدول العربية تنحاز، دون عداء لأحد، إلى رؤية إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، ليكون وعاء لعصر جديد من السلام والتعاون والرخاء. في هذا البيان المتعدد الرسائل تتبنى السياسة السعودية دبلوماسية شبكية «عنكبوتية» غير خطية تتحرك في اتجاهات متعددة، وتعتمد على أدوات قوة متنوعة، اقتصادية وسياسية وثقافية، يتم توظيفها بعناية من أجل تحقيق أهداف فرعية إيجابية، تساعد على خلق حقائق حية تقود إلى نمط جديد للعلاقات بين الدول العربية وبعضها البعض، وبينها وبين دول الجوار، وبينها وبين العالم أجمع.
أعادت قمة جدّة صياغة محددات السياسة الجماعية العربية، على النحو الذي يحقق المحافظة على المصالح القومية ويعززها، في مرحلة مضطربة من تاريخ المنطقة والعالم
دبلوماسية المبادرة
وقد تجاوزت صيغة «بيان جدّة» الطابع الارتدادي، الذي يمثّل دبلوماسية «رد الفعل» العقيمة، إلى دبلوماسية عملية خلاقة هي «دبلوماسية المبادرة»، بإعلان ترتيبات عملية لتجاوز الأمر الواقع، تستفيد من أدوات القوة الدبلوماسية المتاحة والقابلة للاستخدام. ففي الحد من التدخل الأجنبي مثلا يرتبط تطبيق «دبلوماسية المبادرة» على الحالة السودانية بمفاوضات جدّة بين القوى السودانية برعاية مشتركة سعودية – أمريكية. وفي الحالة السورية ترتبط «دبلوماسية المبادرة» بإعادة سوريا إلى الصف العربي، والبدء في مفاوضات من خلال آلية تشارك فيها دول عربية رئيسية مع جامعة الدول العربية، تتقدم تدريجيا طبقا لمبدأ «خطوة مقابل خطوة». هذه المبادرة تعيد الملف السوري إلى عاصمة عربية، بدلا من جنيف وآستانة، وهو ما يعزز قوة الدبلوماسية العربية.
وقد تجلى الطابع الشبكي «العنكبوتي» للدبلوماسية السعودية دوليا، في دعوة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي للحديث أمام القمة، بدون أي التزام من جانب الدولة المضيفة. ولم يكن الضيف موفقا في توجيه انتقاد إلى سياسة تقارب مع روسيا تنتهجها بعض الدول العربية. كذلك فإن القمة تلقت رسائل قوية من الطرف الآخر، روسيا، ومن الصين أيضا، وهي قوة عالمية كبرى معنية بصنع السلام في أوكرانيا والعالم. وتختلف الدبلوماسية العنكبوتية (الشبكية) عن الدبلوماسية الخطية، في إنها ترفض الاستقطاب الأعمى، وتفتح لنفسها طريقا للحركة في حرية وبلا قيود أو شروط مسبقة، من أجل التعاون وصنع السلام في العالم. وهي في ذلك تتحدى دبلوماسية الاستقطاب والانحياز الخطية، التي تهيمن على العلاقات الدولية في فترة الحرب الباردة، وتستطيع أن تتحرك بما لا يعرض مقومات الأمن القومي للخطر، بشرط تحديد طبيعة ونطاق ومقومات المصلحة القومية بدقة؛ فهذا هو الحصن الحصين الذي يحميها من الانزلاق إلى أخطاء يمكن أن تضر بالأمن القومي.
أدوات القوة السعودية
السعودية عضو في مجموعة الدول العشرين الأكبر اقتصاديا في العالم، وهي قيادة عالمية في قضايا الطاقة، باعتبارها أكبر مصدر للنفط، وإحدى القوى الواعدة في عصر التحول إلى الطاقة النظيفة، وهي قوة عالمية في قطاع التمويل، وتتمتع بقوة ناعمة هائلة، باعتبارها مهد الديانة الإسلامية، ويتوجه إليها سنويا ملايين المسلمين للحج والعمرة باعتبارها موطن الحرمين الشريفين. هذه المقومات تمنح السياسة الخارجية السعودية سلة متنوعة من «أدوات الضغط والتحفيز»، التي تساعدها على التفاعل في إطار إيجابي، في وقت واحد، مع قوى متصارعة، مثل الصين والولايات المتحدة، وإيران وإسرائيل، وتركيا واليونان، بدون حساسيات أو ارتباك.
هذا الدور السعودي الجديد في إدارة العلاقات مع العالم بواسطة الدبلوماسية الشبكية غير الخطية يؤكد مصداقية القيادة السعودية، ويحميها من الوقوع في مصيدة الاستقطاب الدولي بين القوى الكبرى المتصارعة على النفوذ، وهو ما تمتد آثاره الإيجابية إلى العالم العربي ككل، في تغليب سياسة التعاون على الصراع، والسلام على الحرب. إن الخطوة الشجاعة التي قامت بها السعودية باستئناف العلاقات مع إيران، في إطار المبادرة الصينية، قد وضعت منطقة الشرق الأوسط بأكملها في خضم عملية سياسية تفرض ضرورات تغيير الاصطفاف السياسي، وإعادة بناء معادلات التعاون والصراع الإقليمي، وكذلك علاقات المنطقة بالعالم.
ويعتبر «إعلان جدّة» الصادر عن القمة بمثابة واحد من أهم تجليات تغيير الاصطفاف السياسي، والشروع في إعادة بناء معادلة توازن القوى الجديدة في الشرق الأوسط، ودور المنطقة في صنع السلام في العالم، بدلا من أن تكون واحدة من أخطر مناطق الصراع التي تهدد الأمن والسلم الدوليين.
محددات جديدة للسياسة العربية
أعادت قمة جدّة صياغة محددات السياسة الجماعية العربية، على النحو الذي يحقق المحافظة على المصالح القومية ويعززها، في مرحلة مضطربة من تاريخ المنطقة والعالم. وتستطيع أن نستخلص من «إعلان جدّة» المحددات الأربعة التالية:
المحدد الأول، إعادة التأكيد على أهمية القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية للمنطقة، وأن حلها يقوم على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة على الأراضي المحتلة في يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وهو ما نصت عليه مبادرة السلام العربية، التي أطلقها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز عام 2002 عندما كان وليا للعهد، ولا تزال إلى الآن تمثل العمود الفقري للسياسة العربية تجاه القضية الفلسطينية. الإعلان الصريح الذي جاء في «إعلان جدّة» في هذا الخصوص، يرد على المزاعم الإسرائيلية بسقوط القضية الفلسطينية من أولويات جدول أعمال الدبلوماسية العربية، لصالح استراتيجية نتنياهو التي عنوانها «السلام مقابل السلام»، وليس «الأرض مقابل السلام». كما يرد على المزاعم القائلة بأن الرأي العام العربي لم يعد يهتم بالقضية الفلسطينية، وأنه ينظر إليها على أنها قضية «هامشية» ولم تعد «قضية مركزية» كما كان عليه الحال حتى أكتوبر/تشرين الأول 1973. كما أن إعلان جدّة يفرض قيودا على الاتفاقات والترتيبات السياسية والأمنية التي وقعتها دول عربية مع إسرائيل منذ عام 2020.
المحدد الثاني، نهاية الخطاب السياسي العربي الذي يعتبر إيران عدوا للمنطقة، وعنصرا أساسيا من عناصر عدم الاستقرار وإثارة التوتر. قراءة إعلان جدّة، تبين إنه ينطوي على رسائل مغايرة للرسائل النمطية التي كانت تصدر عن مؤسسة القمة العربية، خصوصا بالنسبة لإيران وتركيا، مع أنه لا يتجاهل عوامل خطورة بعض سياسات الدولتين تجاه المنطقة، مثل التدخل العسكري التركي في سوريا والعراق، واحتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث جزيرة أبو موسى، وجزيرتي طنب الصغرى والكبرى منذ آخر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1971. ويتضمن الخطاب السياسي الإقليمي الجديد العمل على إغلاق أبواب التدخلات العسكرية الأجنبية في الصراعات العربية، والتنبيه إلى أهمية سبل الوقاية منها، وإلى خطورة الدور الذي تقوم به المنظمات المسلحة غير الوطنية وغير الحكومية. كما يتضمن الإعلان توجها واضحا للعمل على نقل ملفات الصراعات العربية الداخلية لحلها في نطاق عربي، بما لا يمنع مشاركة أطراف أخرى، بدلا من إدارة هذه الملفات في الخارج.
المحدد الثالث، إدراك أهمية إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، وهو ما يعكس تبلور ونضوج القيادة السياسية للمنطقة العربية، وإدراك أهمية أن تصبح منطقة سلام لا صراع، بعيدا عن الاستقطاب الحاد والانقسام بين كتلتين كبيرتين متصارعتين، على غرار ما كان عليه الحال بعد الحرب العالمية الثانية، عندما تفرق العرب بين خيمتين: واحدة للدول التقدمية، وثانية للدول الرجعية، ودارت بينهما حرب باردة تعكس صورة الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا. الآن يضع العرب أنفسهم داخل إطار فعال لإقامة نظام عالمي جديد آخذ في التشكل، على أساس استقلال المصالح العربية، وعدم الوقوع في مصيدة الاستقطاب الدولي، وإعلاء شأن العمل العالمي المشترك ضد نزعات الإرهاب، والتطرف، والانفصال، باعتبارها نزعات تهدد السلم العالمي وتتطلب التعاون المشترك من أجل اقتلاعها.
المحدد الرابع، إعادة توجيه مشروع الاندماج الاقتصادي العربي، انطلاقا من نهج موضوعي جديد يستهدف إقامة أسس التنافسية وتكامل سلاسل الإنتاج وتوفير شروط نموها. وقد تبنى «إعلان جدّة» تحقيق ذلك من خلال إعادة ترتيب أهداف الاندماج الاقتصادي العربي، على أساس أهداف مشتركة تبدأ من تحقيق الأمن الغذائي من خلال بناء سلاسل إنتاج مستقرة، متشابكة، ومتكاملة، لسد الفجوة الأخطر في بنية الاقتصاد العربي ككل، ومواجهة التحديات المشتركة المتعلقة بمنظومة الإنتاج الغذائي، وعلى رأسها تحدي شحة المياه.