الأمن الإقليمي علاقه متوازنة

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 20 مارس 2021, 12:15:25 م
  • eye 1987
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

قال أهل الفهلوة: «التجارة شطارة»، وقال أهل العلم: «السياسة هي فن الممكن»، وقال أهل الخبرة: «ان تاريخ العلاقات الدولية هو تاريخ توازن القوى»، وقال أهل القانون: «ان القوة وحدها لا تعطي شرعية»، وقال الواقع: «من معه قرش يساوي قرش»، وقال مناحيم بيغن: «ان العربي الطيب هو العربي الميت»، وقال جمال عبد الناصر: " ان ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة»، وقال السادات: «ان حرب أكتوبر هي آخر الحروب»، وصرخت امرأة فلسطينية ـ بينما البولدوزر الاسرائيلي يدمر بيتها أمام عينيها ـ «ألحقونا ياعرب»! 


ان كل مقولة من المقولات السابقة قد تستغرق وحدها مقالاً أو عدة مقالات، أو ربما كتاباً أو كتباً لشرحها وتفسيرها وعرض ما لها وما عليها، وهو عبء تنوء بحمله الجبال، ومن الحماقة ان يقفز المرء الى هذا الخضم الهائج المائج الذي لا شواطئ له، ولا يبدو أنه سيهدأ الى يوم الساعة، وربما كانت هناك بعض الجزر المتناثرة التي يمكن الاسترخاء عليها والتأمل، بشرط ألا يغرق المرء في التفاؤل فيظن ان هناك وصفة سحرية لعلاج أوجاع البشرية، مثلما ظن «الفارابي» في مدينته الفاضلة، ومثلما ظن أهل قريتي في زجاجة «منقوع البراطيش» التي كان يبيعها الدجالون كوصفة للشفاء من كل الأمراض اعتباراً من الرشح الى توقف عضلة القلب...!. 


ومن احدى هذه الجزر، يمكن تأمل المقولات السابقة بشكل آخر، فاذا كانت التجارة شطارة، فلا بد ان تكون هذه الشطارة حساب ومنطق ودراسة، واذا كانت السياسة هي فن الممكن، فأنها أيضاً ارادة احداث التغيير والتصميم عليه، واذا كان تاريخ العلاقات الدولية هو تاريخ توازن القوى، فإن توازن القوى ليس معادلة جامدة ثابتة، ويجب ان يدرك كل من يهمه الأمر ان ثبات الأحوال من المحال، واذا كانت القوة وحدها لا تعطي شرعية، فأن الذين يملكون الحق لن يستفيدوا بشرعيته اذا لم يكن لهذا الحق قوة تحميه، واذا كان من معه قرش لا يساوي غير قرش، فلا بد ان نفهم ان هناك «قيمة مضافة» هي الارادة المستقلة التي تجعل من يملك قرشاً يتجاوز تلك القيمة الكمية بمراحل، واذا كان العربي الطيب هو العربي الميت، فهناك ملايين العرب الذين يرفضون ان يموتوا أحياء، أو يعيشوا أمواتاً، ثم ما أصعب أرواح الميتين التي تحوم فوق كل الرؤوس حتى لا تنسى أو تغفر، واذا كان ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة، فمن المعروف ان القوة المسلحة ما هي الا عنصر من عناصر القوة الشاملة، أما ان حرب أكتوبر هي آخر الحروب، فهو شعار نبيل تكفلت اسرائيل باثبات أنه مجرد شعار بغير محتوى، فلم تتوقف الحروب منذ ان أطلق هذا الشعار، أما الفلسطينية التي صرخت: «ألحقونا ياعرب»! فسوف يلتفت اليها العرب فور انتهائهم من حروب «داحس والغبراء». 


ولمزيد من التأمل، يجدر بنا ان ننظر الى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية (N.P.T)، فهي باختصار عقد اذعان ما بين أعضاء النادي النووي من طرف، وبين غير أعضاء النادي من طرف آخر، حيث أنه طبقاً للمادتين الثانية والثالثة، فأن غير الأعضاء يلتزمون بالتخلي عن حقوقهم السيادية في صناعة الأسلحة النووية، وبقبول تفتيش وكالة الطاقة النووية، وفي المقابل يلتزم أعضاء النادي النووي بالتزامات ثلاثة: «أولاً: مساعدة الدول غير أعضاء النادي في تطوير الاستخدام السلمي للطاقة النووية بما يشمله ذلك من تقديم المعلومات الفنية اللازمة (المادة الرابعة والخامسة )، وثانياً: مواصلة التفاوض بنية حسنة لانهاء سباق التسلح النووي (المادة السادسة )، وأخيراً: عدم مساعدة أية دولة (من خارج النادي) على تصنيع أو الحصول على أسلحة نووية ) المادة الأولى.( 


لم تنضم اسرائيل الى هذه الاتفاقية، ربما لغموض موقفها، أو لتعمدها هذا الغموض، فليس هناك شك الآن أنها عضو منتسب الى النادي النووي، ولكن شعارها السياسي المرفوع هو: «أنها لن تكون الأولى التي تدخل السلاح النووي الى الشرق الأوسط »، وهذا شعار مائع وغير مفهوم، فهو لا يؤكد امتلاك اسرائيل لأسلحة نووية، ولكنه لا ينفي امتلاكها له، والمعنى المباشر لهذا الشعار هو ان اسرائيل لن تستخدم هذا السلاح الا اذا استخدم أو هددت باستخدامه ضدها، ولا يكون ذلك كذلك الا اذا كانت تمتلكه بالفعل ...


والموضوع بهذا الشكل يبدو هزلياً رغم أنه يتعلق بمصائر الملايين في الشرق الأوسط منهم سكان اسرائيل نفسها. 

ثم يتحدثون عن «الأمن» و«اجراءات بناء الثقة » !!


«الأمن» ليس كعكة يختص بها طرف دون باقي الأطراف، لأنه بهذا المعنى لن يعني سوى «فرض الأمن بالقوة»، وذلك لا يعني أمناً ولا استقراراً سواء لاسرائيل أو لغير اسرائيل، «الأمن الاقليمي» لا يمكن تصوره سوى في شكل علاقة تعاقدية متوازنة، ولن يتحقق من خلال «عقد اذعان» يحصل فيه طرف واحد على كل الضمانات ويحتفظ لنفسه في نفس الوقت بوسائل تهديد أمن جيرانه، أن ذلك قد يكون مقبولاً بالاضطرار لبعض الوقت، ولكن يخطئ من يظن ان باقي الأطراف ستظل متمسكة بعقد حالة الضرورة، بل ستعمل - ويجب عليها ذلك - ان تحقق لنفسها ما يتيح لها بقواها الذاتية ضمانات أمن رادعة تجاه الطرف الأقوي، بما يعني استمرار سباق التسلح في المنطقة ( بما فيها التسليح النووي )، وحالة الشك والتربص التي تكون في الغالب أهم مقدمات الاضطرابات والحروب. 


ان أهم اجراء من اجراءات بناء الثقة في عملية السلام بالشرق الأوسط هو «كسر حاجز الخوف والشك»، وذلك لن يتأتي سوى بانضمام اسرائيل الى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وقبولها بخضوع منشآتها النووية للتفتيش، والتعهد بالتخلص مما تملكه من أسلحة الدمار الشامل، فضلاً عن العمل بحسن نية على خفض نفقاتها العسكرية المبالغ فيها. 


لقد شاهدنا المصري اليهودي في المحلات التي كانوا يملكونها في القاهرة، يقول للزبون وهو يضيق عينيه ويشير بسبابته الى عقله: «تراعيني قيراط يا خبيبي، أراعيك قيراطين» .. وتلك هي الحكمة التي ينبغي ان يتحلى بها صانعو القرار في اسرائيل، والا فالخضم سيظل هائجاً مائجاً، ولن يجد أحد حتى جزيرة لالتقاط الأنفاس والتأمل، ولن يجدوا عربياً طيباً سواء كان حياً أو ميتاً، ولن يبقي أمام الأجيال المقبلة سوى منهج واحد بغير بديل، وهو «أن ما أخذ بالقوة، لا يسترد الا بالقوة».

التعليقات (0)