الجاسوسية أسرار وألغاز (22): الجاسوس الذي جند أباه

profile
مصطفي إبراهيم رئيس التحرير التنفيذي لموقع 180 تحقيقات ورئيس تحرير موقع 180ترك
  • clock 25 سبتمبر 2024, 9:40:04 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عالم الجاسوسية.. عالم غامض عجيب.. تكتنفه الأسرار وتغلفه الألغاز.. يمتلئ بالحوادث التي يصعب تصديقها.. ويندر أن تجول بخاطر أي إنسان.. لا تنتهي عجائب هذا العالم.. ولا تنضب أسراره.

ولا تزال سجلات المخابرات المصرية حافلة بالعديد من الجولات الناجحة التي خدعت فيها الموساد الإسرائيلي وتفوقت عليه وقضت على أسطورة الجهاز العبقري.. وكذبت شائعات الذكاء اليهودي الذي لا يهزمه احد أو يخدعه إنسان..
ولأهمية الجاسوسية أفردت لها الصحف والكتب والمواقع الإلكترونية صفحاتها لتسجيل أغرب الحوادث وأندر الحالات، وهو ما حولت جمعه وطرحة بين يدي القارئ في هذه السلسلة "سلسلة الجاسوسية أسرار وألغاز ..  التي سبق أن نشرتها في جريدة النهار الكويتية في عام 2013 ولأهمية الموضوع ولحب الجمهور لقراءة ملفات المخابرات نعيد نشرها في موقع 180 تحقيقات ... خدمة لقراء الموقع الأعزاء إلى قلوبنا..  وذلك بمعدل حلقة أسبوعية.

وفي هذه الحلقات نكشف خفايا هذه الملفات.. ونرفع الستار عن قصص جديدة وملفات مخفية شهدت صراعاً شرساً بين العقول.. ومواجهات حامية الوطيس بين المصريين والاستخبارات الإسرائيلية.. كانت أسلحتها الخطط المحكمة.. ومكائد مدبرة بعناية فائقة.. وسطر أبناء النيل بحروف من نور نجاحات مبهرة لعملاء أحسنت المخابرات المصرية تدريبهم.. ليتسللوا داخل المجتمع الإسرائيلي.. واستطاعوا بمهارة فائقة خداع أرقى المناصب. وأعلى الرتب في المجتمع الصهيوني ليحصلوا على أدق الأسرار.. وليكشفوا المستور.. وأماطوا اللثام عما يملكه الكيان المحتل من أسلحة وذخائر.. ونقلوا للقاهرة خرائط تفصيلية لمواقع وتحصينات جيش الاحتلال قبل معركة العبور المجيدة.

ولم يتوقف نجاح المخابرات المصرية على زرع عملاء داخل المجتمع الإسرائيلي وفي بيوت جنرالات جيش الصهاينة.. بل تمكن المصريون ببراعة فائقة من اصطياد جواسيس الأعداء و منعوهم من نقل الأسرار إلى تل أبيب.. وحجبوا عن الموساد المعلومات ووقعت جواسيسه تباعاً.. بل ونجحت المخابرات المصرية في تجنيد بعض جواسيس الموساد وجعلتهم عملاء للقاهرة وأرسلت من خلالهم رسائل خادعة إلى إسرائيل كان لها فضل كبير في خطط الخداع والتمويه التي مهدت لنصر أكتوبر العظيم.

الحلقة 22

  سمير باسيلي.. الخائن المنتقم من والده

 

>> العلاقة المصلحية بين الأب والابن.. انتهت في مستنقع التخابر لإسرائيل

>> سافر إلى المانيا بعد حصوله على الثانوية العام .. ورفض والده مساعدته واستهزأ به

>> تلقفه الموساد في ميونيخ وأغروه بفاتنة الرايخ التي أذهبت عقله وأنسته وطنه

>> وليم والده سافر طلباً للمعونة .. فساقه   الابن الضال بلا رحمة على بئر الخيانة 

>> أبلغ عنهما ثلاثة مواطنين فنصبت المخابرات المصرية لهما فخا واصطادتهما 

>> طمعهما في المال أقع بهما والجاسوس الصغير حضر على عجل إلى حبل المشنقة  

>> الإعدام للابن و15 عاماً للأب.. وعار الفضيحة لاحقهما للأبد

 

لا يتصور عاقل أن ينتقم الانسان السوي من أبيه أو يسعى للتشفي فيه، وغذى حدث ذلك سرعان ما يعاود الابن الرجوع الى رشده ويتوقف عن مسعاه ولا يكمل طريق الانتقام أو محاولات التشفي، لكن سمير وليم فريد بسيلي كان حالة خاصة وحادثة متفردة قلما تتكرر، وهي الحالة التي حيرت العلماء والمحللين النفسيين، الذين وقفوا عاجزين عن التفسير الحقيقي لحالة سمير الذي أعمته الرغبة في الانتقام من أبيه بصره وبصيرته ودفعته لأن يقتص من والد، ولم يتورع عن الدفع بأبيه الى وكر الجاسوسية، للانتقام منه، وتشفياً به، وورطه في عمليات تجسس لحساب اسرائيل انتهت بمصير مهلك لكليهما.

ورغم أن حالة سمير كما قلنا فريدة من نوعها،و خضعت للعديد من التحليلات النفسية، وضعته في النهاية في مصاف المرضى.. وصنفه يوجان على أنه الدوني السيكوباتي التكوين، والسيكوباتي هو دائماً في حالة توتر، لا يستفيد الا قليلاً جداً بالخبرة أو العقاب، ولا يدين بأي ولاء حقيقي لأي مبدأ أو جماعة

جناية الأب

وتبدأ قصة سقوط سمير باسيلي بحصوله على الثانوية العامة بصعوبة شديدة عام 1960 وتوقف عن اكمال دراسته بأحد المعاهد، وذلك لأن الأب، كان بخيلاً شديد البخل، شرس الطباع في معاملته لأبنائه، لا يترك قط مساحة ضئيلة من التفاهم تقربهم منه، وكره سمير في أبيه سلوكه فأدمن الخروج من المنزل والسهر مع أصحابه، ولم تنطفئ برغم ذلك حرائق الصدام مع والده، لذلك فكر في السفر الى ألمانيا بعدما ضاقت به الحياة وساءت أحواله.

وعندما عرض الأمر على أبيه لم يسلم من تهكمه وسخريته اللاذعة... وذكره بالفشل الذي أصبح أحد سمات شخصيته.. رافضاً بشدة امداده بنفقات السفر رغم توسط بعض أفراد الأسرة.. فاستدان سمير من أصدقائه ووجد نفسه فجأة على مقعده بالطائرة في طريقه الى ألمانيا، يتنفس الصعداء ويلعن الفقر... ويسب والده الذي حطم كل الآمال لديه فأشعره باحتقاره لنفسه، ودونيته، وبث بأعماقه شعوراً مخجلاً بالضعف والحقارة، وهكذا كان الأب يبخل على ابنه بأبسط بوادر الحنان والأبوة، وحرمه من الحب، فعاش معه مزوياً بلا هدف أو كيان، وأخذ سمير يجتر ذكرياته المرة مع والده البخيل، الذي دأب على تسميم بدنه

ليل نهار بالسباب والحط من شأنه،وتحريض أمه على طرده من المنزل كلما عاد متأخراً وحرمانه من العشاء والهدوء مما أثار حنق الشاب الممزق، وكثيراً ما كان يسأل نفسه أهو ابن شرعي لهذا الرجل أم لقيط وجدوه على الرصيف.

وترك سمير كل ذلك وراء ظهره، وأنهى اجراءات سفره الى ألمانيا،وتحركت به الطائرة على الممر، وقبل أن ترتفع مقدمتها عن أرض المطار... أخرج سمير منديله وبصق على معاناته وآلامه وحظه، وكأنه يبصق على كل ما يذكره بأيامه الكئيبة، وظل يسرح طوال رحلته في خيال جميل أفاق منه على صوت عجلات الطائرة وهي تنزلق على أرض مطار ميونيخ، وشرع من فوره في محاولة تحقيق الحلم، فاتصل بمعارفه هناك لمساعدته، وسريعاً حصل على وظيفة معقولة بشركة سيمونز الشهيرة فعاش حياة رائعة لم يكن خياله يقوى على وصفها أو يتخيلها.

مرت الأسابيع والشهور وسمير منهمك في عمله لا يبغي سوى جمع المال... وبدأ رويداً رويداً في استطلاع الحياة الجديدة.. التحرر الصاخب الذي يغش المجتمع من حوله، وساعده المال الذي ادخره على المغامرة فانغمس في عالم آخر بعدما ضعف أمام اغراء المدينة الساحرة، بحر هائج من اللذات لا ينتهي مد موجه أو يخمد، أفرغ بين ضفتيه حياته السابقة لا يكاد يفيق من نشوته وسكرته الا ويعود أكثر شراهة وطلباً.

ضمن له مرتبه الكبير التكيف مع حياته الجديدة، ولأنه فقد هويته أراد أن يرسم لنفسه هوية جديدة ابتدعها، وهيأت له الظروف خطوطها لخدمة أحلامه وطموحاته. وتبلورت شخصيته الجديدة على مقهى برنسيس حيث الخمر والرقص والنساء.

وذات مساء.. كان الزحام على أشده جلس بجواره رجل أنيق ودار حديث بينهما وفهم سمير أن نديمه ينتظر صديقته التي جاءت تخطر كغزال رشيق.. وصاح هانزمولار ينادي على صديقته جينفيف يارد في ترحاب زائد.. وعرفها على سمير باسيلي الذي غاص في الذهول والمفاجأة، فقد كانت أنوثتها طاغية وعندما قامت للرقص زاد تعلقه بها، لكن هانز صحبها بعد ذلك وخرجا ولم يستطع سمير صبراً على فراقها، فلاحقهما بسيل من الاتصالات التلفونية لكنهما تعمدا ألا يردا عليها لبعض الوقت، الى أن أوشك الشاب العاشق على الجنون، فدعاه هانز الى شقته وجاءت جين واشتعلت مشاعر سمير عندما رآها.

ابتلاع الطعم

ترك هانز الشقة اثر مكالمة تلفونية وتمنى سمير ساعتها لو منحها كل غال لديه للفوز بها، وبالفعل فاز بها سمير، وهذه كانت أولى خطوات الشرك التي حاكه له جهاز الموساد، وبعد ذلك أخبرته جين بأنها ستغادر ألمانيا

وقال لها وقلبه يعتصر: لن أتركك ترحلين فأغترب وأحترق، فتبدلت نبرتها الى الحزن وردت قائلة: أنا أيضاً أعيش معذبة بعدما مات والدي منذ سنوات، ان الوحدة تقتلني وترهقني المعاناة، لذلك فأنا أموت كل ليلة من التفكير والقلق، وبي حاجة الى صديق وحبيب يخفف عني ويؤازرني.

تساءل: أليس هانز صديقا؟، فأجابت مفتعلة الصدق والألم: لا.. انه رئيسي في العمل وفي ذات الوقت ملكه. انني مثل سلعة تافهة يروجونها مجاناً.

فتجهم وجهه وقطب حاجبيه وهو يسألها: من؟ من هؤلاء الذين تقصدين؟

فالتصقت به كالخائف الذي يلوذ بمن يحميه.. واجابته بأنفاس متقطعة دون أن تنطق بكلمة، فعاود سؤالها في لهجة جادة:أجيبيني من فضلك جين،فهمست بصوت متهدج: لا أستطيع.. لا أستطيع.. مستحيل أن تثق بي بعد ذلك، فزاد الحاح سمير ,وان لم تخل نبراته من العطف: أرجوك جين.. أنا أحبك ولن أتركك أبداً.. من هؤلاء الذين تعملين معهم؟ ركزت نظراتها على عينيه موحية له بالأسف: الموساد.

موساد؟.. هكذا نطق بها سمير وكأنه أنه لم يفهم.. اذ اعتقد أنهم جماعة من جماعات الهيبز التي كانت قد بدأت تنتشر في أوروبا وتطوف بالميادين والشوارع هناك.

فقالت: نعم الموساد.. ألا تعرف الموساد؟ ونظرت في عينيه بعمق تستقرئ ما طرأ على فكره.. وأكملت: انها المخابرات الاسرائيلية.

ولما رأت جين أنه لم يهتز أو يرتجف أو يجزع أسبغت عليه أوصاف الفحولة والرجولة فأنسته اسمه ووطنه الذي هجره.. وقرر خيانته.

وبعد ذلك سألته: هل ستتركني أرحل؟ بيدك أن أظل بجانبك أو أعود الى تل أبيب. أجاب كالمنوم: بيدي أنا..؟ كيف؟ لا أفهم شيئاً، عانقته في ود مصطنع وبكت في براعة وهي تقول: لقد كلفوني بالتعرف على الشباب العربي الوافد الى ميونيخ، خاصة المصريين منهم وكتابة تقارير عما أعرفه من خلال حوارنا في السياسة والاقتصاد.. لكنني فشلت فشلاً ذريعاً بسبب اللغة، فالمصري أولاً ضعيف في الانكليزية لأنه يهتم بالدويتش، وهم أمهلوني لمدة قصيرة وعلى ذلك لا مكان لي هنا.

وكان الأمر ثانوياً بالنسبة له فقال بتوسل شديد يغمسه الحنان: ماذا بيدي لأقدمه لك؟

قالت تترجم لي بعض التقارير الاقتصادية من الصحف المصرية والعربية وليس هذا بأمر صعب عليك.

أفاق قليلاً وقال: وهل المخابرات الاسرائيلية تجهل ما بصحفنا لكي أقوم بالترجمة لها؟، أجابت في رقة: يا حبيبي أريد فقط أن أؤكد لهم أنني ألتقي مصريين وأقوم بعملي معهم.. ولا يهمني ان كانوا يترجمون صحفكم أو لا يترجمونها، أريد أن أظل بجانبك هنا في ميونيخ.. وطال الحوار بينهما وعندما خافت جين من الفشل في تجنيده.. أجهشت بالبكاء وهي تردد: لا حظ لي في الحب... ويبدو أن الشقاء سيظل يلازمني الى الأبد، وأخذتها نوبة بكاء هستيرية وهي تنعي حظها في الحب وافتقادها للدفء والحبيب، فما كان منه الا أن قال: مهما كنت.. لن أتركك ترحلين وأمام رغبته الجامحة وخدعة المشاعر... أسلم مصيره لها تفعل به ما تشاء، فجاءته بأوراق وكتب بخطه سيرة حياته، ومعلومات عن معارفه وأقاربه ووظائفهم وعناوينهم في مصر، وطلبت منه بتدلل أن يمدها بأخبار مصر من خلال المصريين الوافدين الى ميونيخ، فلم يعترض بل كان شرطه الوحيد أن تظل بجانبه..

السقوط

وهكذا سقط سمير في براثن الموساد، وبعد أن غرق لأذنيه في مهامه لتجسسية واستسهل المال الحرام، وبعد ذلك تركته جين لتبحث عن غيره، وانشغل هو باصطياد المصريين والتقاط الأخبار، وقبع في مطار ميونيخ ينتظر الطائرات القادمة من مصر عارضاً خدماته على الوافدين للمرة الأولى، الذين يسعدون بوجود مصري مثلهم يساعدهم في بلاد الغربة ويقوم بتسهيل أعمالهم في المدينة.

وبعد أشهر قليلة استطاع أن يقيم شبكة واسعة من العلاقات، خاصة مع بعض موظفي مصر للطيران وبعض المضيفين والمضيفات، ويعود الى مسكنه في المساء ليكتب تقريره اليومي المفصل، الذي يتسلمه منه مندوب من الموساد كل صباح، ويقبض آلاف الماركات مكافأة له. وبعد أن استقرت أموره المالية كثيراً عرف أبوه طريقه.. فزاره في ميونيخ عدة مرات زاعماً أن المشاكل الاقتصادية في مصر تضخمت... طالباً مساعدته في الانفاق على أسرته.

كان سمير يتلذذ كثيراً بتوسلات والده، بل يرسل في طلبه خصيصاً ليستمع إلى كلمات الرجاء تتردد على لسانه، وليرى نظرات التودد تملأ وجهه، وتضخم الإحساس بالشماتة عند الابن تجاه أبيه حتى وصل إلى درجة الانتقام، وكان الانتقام بشعاً ويفوق كثيراً حجم الترسبات التي قبعت برأس الابن تجاه أبيه.

ودبر سمير كميناً محكماً لأبيه أوقعه في شراكه عندما صحبه الى مكتب هانز مولار ضابط المخابرات الاسرائيلية في ميونيخ، والذي يبدو في ظاهره مكتباً للمقاولات.

أحلام الرفاهية

ولأن وليم فريد باسيلي الأب يعشق النقود.. أوضح له هانز أنه سبب الرفاهية التي يعيش فيها ابنه سمير، وأنه على استعداد أيضاً لبدء علاقة عمل بينهما وتأسيس شركة تجارية كبرى في القاهرة تدر عليهما ربحاً وفيراً..عندها تخيل وليم شركته الجديدة والأموال التي ستغدق عليه.. تخيل أيضاً مقعده الوثير ومكتبه الفخم وسكرتيرته الجميلة وسيارته الحديثة.. وسافر بخياله يجوب شوارع القاهرة ليختار موقع المكتب. فأيقظه هانز قائلاً انه بحاجة الى معلومات اقتصادية عن السوق المصرية... يستطيع من خلالها أن يحدد خطوطاً عريضة لنشاط الشركة، ولبى وليم الدعوة وجلس عدة ساعات يكتب تقريراً مفصلاً عن احتياجات السوق، وأحوال الاقتصاد في مصر.

دهش هانز لدقة المعلومات التي سردها وليم ومنحه فوراً 1000 مارك، ووعده بمبلغ أكبر مقابل كل تقرير يرسله من القاهرة.

وهكذا نشط الجاسوس الجديد في كتابة التقارير وإرسالها إلى ألمانيا وفي الزيارة التالية لميونيخ فوجئ وليم بثورة هانز بسبب سطحية تقاريره المرسلة إليه، وقال له إن المكتب الرئيسي على استعداد لدفع خمسة آلاف مارك للتقارير المهمة وأنه على استعداد لتدريبه على كيفية جمع المعلومات وكتابتها بعد تصنيفها، وعندما سأله وليم عن المكتب الرئيسي أجابه بأنه في تل أبيب، وهو مكتب مختص بالشؤون الاقتصادية في دول العالم الثالث.

ارتبك وليم فناوله هانز خمسة آلاف مارك في مظروف مغلق قائلاً إنه هدية من إسرائيل من أجل التعاون المخلص، أما التقارير فلها مقابل أيضاً... وتسلم وليم خمسة آلاف أخرى فانكمش في مقعده بعدما أدرك حقيقة موقفه ووضعه.

طمأنه هانز بأن علاقتهما لن تكشفها المخابرات المصرية، لأن هذه التقارير ليست مادة سرية فهي موجودة في الصحف القاهرية، وشيئاً فشيئاً... تطورت العلاقة بين هانز ووليم الى علاقة بين ضابط مخابرات وجاسوس خائن، تحددت بدورات تدريبية خاضها الأب على يد ضباط فنيين، وانتفخت جيوبه بآلاف من الماركات بعدما كثرت تقاريره التي كان يجيد كتابتها بعد تحليلها... وتعمده مصادقة ضباط القوات المسلحة والعسكريين المسرحين من المحيطين به. وفي كل زيارة لميونيخ كان هانز يحذره من قراءة قضايا التجسس في الصحف المصرية حتى لا يرتبك ويقع في قبضة المخابرات المصرية التي لا ترحم الخونة، وطمأنه على أسلوب عملهم الذي لا تستطيع المخابرات العربية كشفه، وحتى وان حدث ذلك فهم سيتولون رعاية أبنائه والانفاق عليهم من بعده والتاريخ أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن اسرائيل تتنصل من الخونة بعد سقوطهم وأنها تأخذ فقط وتمنح قبل السقوط.

اتساع النشاط

أما الابن سمير فقد اتسعت دائرة نشاطه في التعرف على المصريين الوافدين وتصيد الأخبار منهم من خلال الدردشة العادية.. وهؤلاء الذين فشلوا في الحصول على عمل.. وشرع بالفعل في تجنيد ثلاثة من المصريين، لكنهم عجلوا الرجوع الى مصر وأخبروا جهاز المخابرات المصرية بتصرفات سمير.. ودوره في محاولات الايقاع بهم لصالح المخابرات الاسرائيلية.. بواسطة فتيات جميلات يجدن استعمال لغة الجسد. وجاءت البلاغات الثلاثة في فترة قصيرة ومن أشخاص لا يعرفون بعضهم، وكانت خطة المخابرات المصرية لاصطياد سمير وأبيه محسوبة بدقة بالغة واحكام.

كان وليم قد افتتح مكتباً كبيراً للمقاولات في القاهرة استطاع من خلاله أن يمارس عمله في التجسس.. وجعل منه مقراً للقاءاته بالأشخاص الذين يستمد منهم معلوماته.. خاصة من العسكريين الذين أنهوا خدمتهم، حيث انهم في الغالب يتفاخرون دائماً بدورهم وبعملهم السابق بصراحة مطلقة.. أمام الأشخاص الذين يبدون انبهاراً بما يقولونه ويسردونه من أسرار عسكرية وتفاصيل دقيقة.

وفي أحد الأيام.. فوجئ وليم برجل ثري عائد من الخليج.. يريد الاستفسار عن إمكانية فتح مشاريع استثمارية وعمرانية كبيرة، كان الرجل قد أمضى في الخليج سنوات طويلة ويجهل حاجة السوق المصرية للمشروعات.. وتباهى وليم في سرد خبراته مستعيناً بإحصائيات تؤكد صدق حديثه.. واستطاع إقناع المصري الثري بقدرته على اكتشاف حاجات السوق وإدارة المشاريع. وبدا أن الرجل قد استشعر ذلك بالفعل الا أن حجم ثروته ورغبته في عمل مشاريع عملاقة... استدعى من وليم الاستعانة بخبرة سمير فكتب له يطلب مجيئه وألح عليه في ذلك... وجاءه الرد من ابنه يخبره بميعاد قدومه خلال أيام.

فخ المخابرات المصرية

وما هي إلا أيام حتى جاء الابن إلى القاهرة.. بصحبته شاب ألماني وصديقته أرادا التعرف على الآثار الفرعونية.. فصحبهما سمير إلى الأقصر حيث نزلوا بفندق شهير على النيل، ثم مكثوا يومين في أسوان وعادوا الى القاهرة.

كان سمير طوال رحلته مع صديقيه يقوم باستعمال كاميرا حديثة ذات عدسة زووم في تصوير المصانع والمنشآت العسكرية طوال رحلة الذهاب والعودة.. وفي محطة باب الحديد حيث الزحام وامتزاج البشر من جميع الجنسيات.. وقف سمير أمام كشك الصحف واشترى عدة جرائد.

وبعدما هموا بالانصراف... استوقفه شاب انيق يرتدي نظارة سوداء برفقته أربعة آخرين وطلب منه أن يسير بجانبه في هدوء.

ارتسمت على وجه سمير علامات الرعب.. وحاول أن يغلفها ببعض علامات الدهشة والاستفهام لكنه كان بالفعل يرتجف.

اعتذر الرجل الأنيق للضيف الألماني وصديقته... وودعهما سمير بلطف ومشى باتجاه البوابة الى ميدان رمسيس يجر ساقيه جراً محاولاً أن يتماسك... لكن هيهات فالموقف صعب وعسير.

وعندما دلف الى داخل السيارة سأله الرجل الأنيق ذو النظارة: أتريد أن تعرف الى أين تذهب؟

أجاب بصوت مخنوق: أعرف ! وعندما فكر في مصيره المحتوم.. أجهش بالبكاء.. ثم أغمى عليه بعدما تملكه الرعب وأصابه الهلع.. وحملوه منهاراً الى مبنى المخابرات العامة ليجد والده هناك.. نظراته أكثر هلعاً وصراخه لا يتوقف وهو يردد: سمير هو السبب !. واكتشف وليم أن الثري القادم من الخليج ما هو إلا ضابط مخابرات.. واكتشف أيضاً أن تقاريره التي كان يرسلها الى الخارج تملأ ملفاً كبيراً.

ولم يستغرق الأمر كثيراً. فالأدلة دامغة والاعتراف صريح، وكان الحكم في مايو 1971 عادلاً لكليهما.

الإعدام للابن و15 عاماً أشغال شاقة للأب... وعار للأسرة للأبد.

التعليقات (0)