- ℃ 11 تركيا
- 23 نوفمبر 2024
الجنرالات في إسرائيل يحفرون قبورهم السياسية
الجنرالات في إسرائيل يحفرون قبورهم السياسية
- 16 أغسطس 2022, 8:06:57 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
غادي آيزنكوت، رئيس الأركان الحادي والعشرون للجيش الإسرائيلي، ليس أول جنرال يحمل رتبة فريق يختار الانتقال من العسكرة إلى السياسة. فعل ذلك قبله 14 رئيس أركان سابقاً، وكذلك 28 قائداً عسكرياً كبيراً برتبة لواء. ومع كل مرة كان يعلن فيها جنرال كهذا عن نيته دخول السياسة، كانت الساحة تغلي والإعلام ينتفض، ويتجاوز الاهتمام بهذا «الحدث» حدود إسرائيل بعيداً جداً. وتتسابق وسائل إعلام عالمية لإجراء حوار معه.
ولكن بالون الاهتمام هذا كان يفقد كثيراً من الهواء حتى يترهل. ومن جنرال إلى آخر، تقصر مدة الانتفاخ أكثر. وبالون آيزنكوت كان صاحب رقم قياسي في فقدان الهواء. فبعد ساعات من إعلانه دخول السياسة في حزب جديد هو «حزب الوطنية»، مع قائده السابق، بيني غانتس، وزميله في سكرتارية الحكومة، غدعون ساعر، أجريت أول 3 استطلاعات رأي لفحص مدى تأثير هذا الدخول، وجاءت النتيجة مخيبة: فالحزب يتأرجح ما بين 12 و14 مقعداً، أي أكثر بمقعدين من الاستطلاعات السابقة. وحزب غانتس ساعر يمتلك اليوم 14 مقعداً. والأهم أن أحد هذين المقعدين يأتي من معسكر اليمين، والثاني يأتي على حساب حليفهم، رئيس الحكومة يائير لبيد.
بالطبع، نحن نتحدث عن استطلاع أجري بعد أقل من يوم واحد على إعلان دخول آيزنكوت عالم السياسة، وهناك احتمال أن تتغير هذه النتيجة لاحقاً. إلا أن التغيير أيضاً غير مضمون الاتجاه، فقد يكون للأفضل أو للأسوأ، بالمقدار نفسه؛ لأن الجمهور الإسرائيلي لم يعد ينظر إلى الجنرالات بنظرة التبجيل والتأليه، كما كان يفعل في يوم من الأيام. وهناك انحسار متواصل في مكانتهم بالمجتمع الإسرائيلي، يعود لعدة أسباب، بعضها يتعلق بأدائهم، وبعضها بمنافسيهم والحرب التي يديرونها ضدهم.
فأولاً، هناك تاريخ غير مشرق للجنرالات في السياسة الإسرائيلية. لقد خدم في منصب رئيس الحكومة، 14 شخصية سياسية، بينهم 3 جنرالات سابقين في الجيش: إسحاق رابين، وإيهود باراك، وكانا يحملان رتبة فريق، وشغلا منصب رئيس الأركان، وأرئيل شارون الذي كان يحمل رتبة لواء. جميعهم معروفون بقدرات عسكرية عالية جعلتهم محبوبين ومقدرين لدى الجمهور الإسرائيلي، اليمين واليسار معاً. لكن قناعتهم بضرورة تسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس «حل الدولتين»، تسبب في حملة تحريض دموية ضدهم في اليمين، بلغت حد الاتهام بالخيانة.
رابين قُتل بسبب قراره التوقيع على اتفاقيات أوسلو مع الفلسطينيين، وسبقت اغتياله مظاهرات عنيفة اتهمته بالخيانة، ورفعت صوراً مفبركة له يظهر فيها كما لو أنه ضابط في جيش النازية الألمانية. والثاني باراك الذي يعتبر حامل أكبر عدد من الأوسمة على إنجازاته القتالية، اعتُبر أكثر رؤساء الحكومات فشلاً، وأطيح به بشكل مهين، واليمين لفظه لأنه وافق على دولة فلسطينية بحسب خطة الرئيس الأميركي بيل كلينتون. أما شارون الذي يعتبر مؤسساً لحزب «الليكود»، وتاريخه مليء بالمجازر ضد الشعب الفلسطيني (خصوصاً مجزرة السموع في الخمسينات، ومجازر صبرا وشاتيلا في 1982)، فاعتُبر عميلاً لليسار، عندما قاد الانسحاب من قطاع غزة وإزالة المستوطنات هناك.
أما بقية الجنرالات، وبينهم رؤساء سابقون لأجهزة للمخابرات («الموساد»، و«الشاباك») مثل عامي إيلون وداني ياتوم، وحتى رؤساء أركان مثل: أمنون لفكين شاحك، وموشيه يعلون، وشاؤول موفاز، وغابي أشكنازي، فقد عوملوا كسياسيين عاديين، وربما أقل. وإذا كان بعضهم مثل: موشيه ديان، ويغئال يادين، وحايم بارليف، ورفايل إيتان، عوملوا باحترام خاص بحكم تاريخهم العسكري، فإن هذا الاحترام آخذ في الانقراض شيئاً فشيئاً منذ بدأ الجنرالات يتحدثون عن «حلول واقعية للصراع».
وهناك مشكلة عمومية تقليدية للجنرالات المنتقلين إلى السياسة، فهم يأتون من عالم إصدار الأوامر إلى عالم التداول وسماع الآخر، من عالم رفاق السلاح إلى عالم الحرب داخل الحزب الواحد، من عالم «احمِ ظهري» إلى عالم «يطعنونني في ظهري».
ما يجرى هنا دوامة تشبه رقصة الموت. فاليمين السياسي في إسرائيل اتخذ مواقفه العدائية من تسوية الصراع، بالأساس، بسبب الجنرالات. فقبل أن يتركوا الجيش وينضموا للسياسة عُرف عن جنرالات الجيش الإسرائيلي أنهم يطلقون خطاب عربدة عسكرياً، ويمارسون هذه العربدة على الأرض. وقد حققوا في الحروب مكاسب كبيرة، وحققوا في صناعة الأسلحة إنجازات هائلة، وبدلاً من أن يطمئنوا الجمهور بأن إسرائيل قوية بالدرجة الكافية حتى تنهي الصراع بسلام، اختاروا تحذير وتهديد الأعداء بغطرسة وغرور. والتيار القومي اليميني يطرب لهذا الغرور، ويحوله إلى سياسة وآيديولوجيا. لكن عندما يخلع الجنرالات البزة العسكرية ويدخلون معترك الحياة والأطر غير العسكرية مكتشفين «كم هو مهم أن تترك الحرب وتهتم بالتكنولوجيا والعلوم والثقافة، وتهتم باحتياجات الناس المعاشية»، فإنهم يجدون أن المخلوق الذي صنعوه -أي الموقف المتغطرس- يرتد إلى نحرهم. فإسرائيل تسير باندفاع نحو اليمين. واليمين لا يقبل أي تراجع.
اليمين في إسرائيل ليس مجرد حزب أو مجموعة فرق. إنه معسكر منظم يقوده بشكل منهجي أحد أقوى الشخصيات السياسية في تاريخ الدولة العبرية، بنيامين نتنياهو. لقد كان نتنياهو في صدام دائم مع قيادات الجيش وبقية الأجهزة الأمنية منذ عام 2010، بعد أن رفضوا طلبه الدخول في حرب مع إيران. إنه يخوض حرباً ضد الجيش. وأجهزة الإعلام ومعاهد الأبحاث والقنوات التلفزيونية التي أقامها نتنياهو، مليئة بمهاجمة الجيش والمساس بهيبته، وادعاء أنه ذو قيادة يسارية، وأنه تخلى عن عقيدة الإقدام القتالية، وأنه غير جاهز للحرب، ويبذر الأموال على رواتب الضباط، وغير ذلك.
عملياً، الجيش يدفع ثمن ما صنعته أياديه. والجمهور الذي كان يبجل الجيش وقادته، بات على استعداد لتحطيم جنرالاته، فأصابه ما أصاب العرب في إحدى حقب الجاهلية. عندما صنعوا آلهة من التمر ثم أكلوها عندما جاعوا.
لذلك، فإن مجيء آيزنكوت إلى السياسة، لا يأتي مصحوباً ببشائر خاصة، ووصوله إلى السياسة ليس لأنه جنرال؛ بل «رغم أنه كان جنرالاً».