الحارث طه يكتب: الاصطدام يولد الفرز .. أمريكا تحرك أوروبا كالماروينت (3-3)

profile
الحارث طـه صحافي سوري ، ومنتج إخباري، مقيم في هولندا
  • clock 4 أكتوبر 2023, 5:16:46 ص
  • eye 595
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

إذا كانت السياسة أمريكية تبدو غامضة ولا نعرف توجهاتها، فالجواب البسيط هو أن السياسة الأميركية تنظر للعالم كأحزمة من النفط والغاز والقطن والقمح والثروات الباطنية، ولا ترى شعوب وبلدان ذات حضارات وديانات،..إلخ، من هنا يبدأ فهمنا لتوجهات السياسة الأميركية وطريقة تعاملها.

في البداية، لا بد من توجيه العالم بحسب المصالح الأميركية على اعتبار أنها القطب الواحد، والمحور الذي تدور حوله جميع البلدان،  وعليه أخذت خطه تغير منهج المكتسبات قريبة المدي إلي المتكسبات بعيدة المدى لتبدأ مرحلة التغيرات الجيوسياسية. وفي الوقت نفسه تغيرت أحجار الشطرنج لتكون أحجار اليورانيوم والماس والكربون  كالعبة جديدة في أوروبا. بدأت بفرنسا ثاني أكبر قوة اقتصادية بعد المانية، وأكبر جيش في أوروبا. كانت البداية منذ ٢٠١٨ مع احتجاجات العمالية ورفع شعارات ضد الضريبة ونظام الحكم فيها، وامتدت لأشهر مما أدى إلى ضائقة اقتصادية واجهت فرنسا ولا تزال.  ثم جاءتها الضربة الأميريكية الكبيرة باغتنام  أكبر صفقة عسكرية منها، وهي صفقة الغواصات لصالح أستراليا بقيمة ١٧ مليارا تلك المليارات كانت يمكن أن تنعش اقتصادها المتهالك.

كان علي الولايات المتحدة الأميريكية عقد حلف ثلاثي يضم بريطانيا وأستراليا لمواجهة النفوذ الصيني في المحيط الهادي والهندي، كان علي أثره عقد صفقة لتزويد استراليا سبع غواصات نووية ذات تقنيه أمريكية، تلك التقنية غير موجودة في أي بلد إلا بريطانيا وأميركا فقط، بعدها أعلن عن الحلف بإسم (حلف أكواس)، وبناءا على ذلك الاتفاق تم إلغاء  الصفقة التي كانت مقررة  بين فرنسا وأستراليا.

أعلنت فرنسا مقاطعتها لذلك الحلف، وسحب سفرائها من تلك الدول لاول مرة بالتاريخ الحديث . وعليه بدأت الانفكاك عن المسار الأميركي لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية . ثم أخذت السياسة الفرنسية بالتخبط في الشرق الأوسط وشمال أفريقية.  اتضح ذلك في إعلان إفلاس البنك المركزي اللبناني حيث  النقد الموجود في المركزي اللبناني تم نقله إلى فرنسا خلال ٢٠٢٠، على اعتبار فرنسا هي الوصية على القرار اللبناني.

  بدأت الحرب الاوكرانيا الروسية وعلي أثرها بدأت أزمة تدفق الغاز الروسي إلى أوروبا. حيث إنها المحرك الأساسي للصناعة في أوروبا عموما أنها حرب حقيقة على حدود أوروبا الآمنة منذ الحرب العالمية الثانية لكنها حرب جيوش واقتصاد لم يكن لدى الأوربيين استراتيجية سريعة لمواجهة الضغط الروسي بسلاح الغاز أنه موسم المفاجآت للأوربيين.

ولفهم تلك الحرب أهدافها والمتغير والثابت.

الثابت الوحيد هي المصالح، وعليه قامت هذه الحرب على المصالح، ودائما ما يقال في السياسة في أي حرب أو نزاع (أنظر إلى المستفيد) من المستفيد من هذه الحرب، وعلي ماذا اعتمدت في استمرارها. 

بعد أربعة أشهر من هذه الحرب، قدمت  الإدارة الأميركية عرض لضخ  الغاز الأمريكي لالمانيا و اوروبا عموما بديلا عن الغاز الروسي. كانت هناك جلسات كبيرة بين تلك الدول والادراة الأمريكية لبدء التوريد بشكل عاجل قبل بداية الشتاء القاسي على أوروبا. 

كان سعر توريد الغاز الأميركي ثلاثة أضعاف سعر نظيره الروسي. رغم ذلك اتفق الطرفان على توريد بعض الشحنات لسد حاجة السوق في الوقت الحالي.  كان الأوروبي مجبرًا لا بطلًا قبول تلك الصفقة، لكنه توجه إلى منتجي الغاز حول العالم لتوريد الغاز بأسعار عادلة. فاتجهوا إلي قطر التي تعد أكبر منتج للغاز، لكنها لم تسطيع إلا توريد عدة شحنات بسيطة، بسبب التدخلات الأميريكية التي اعتبرت أن صفقة الغاز أمريكية خالصة ولا يسع ل قطر عقد أي صفقات مع الأوربيين بهذا الشأن.

امتثلت قطر للطلب الأميركي بعدم توريد الغاز لأوروبا تحت ذرائع مختلفة منها  عدم وجود خط بحري أو بري للتوريد، وهذا يحتاج وقت لإنشاء الخط بين أوروبا وقطر.  كوفئت  قطر من الإدارة الأميركية بأن منحتها عضوية حلف الناتو عضو (عابرا للقارات).

 اتجهت أوروبا إلى أكثر من بلد منتج للغاز كالجزائر وأفغانستان التي اعتبرته عدو قديماً. هنا علينا إيضاح أولا بأن الولايات المتحدة الأميريكية لم تقم باحتلال أفغانستان من أجل الملا عمر،  والحرب على القاعدة وأسامه بن لادن وهجمات 11سبتمبر كما تتدعي، ولكن السبب الرئيسي والأكثر أهمية  هو من أجل السيطرة علي حقول الغاز الافغاني،  وإنشاء خط غاز أمريكي بعيدًا عن الصين و روسيا. أي  بمعنى أدق كانت أمريكا في عام 1993  تسعى إلى إنشاء شراكة مع أفغانستان في إنتاج حقول النفط والغاز، علي أن يكون تحت إشراف الشركات الامريكية، وتكون توريدات ذلك الغاز الأفغاني لصالح الحكومة الأمريكية عن طريق إنشاء خط يمر عبر باكستان، الحليف الاستراتيجي لأميركا في المنطقة. لتحرم بذلك روسيا والصين من هذه الثروة الكبيرة. وكي تحول دون تكوين أي كتله قوية  اقتصاديًا في تلك المنطقة. فروسيا تعتبر أكبر منتج للغاز، والصين تعد أكبر اقتصاد سريع النمو في بداية التسعينات، لذا كان علي أمريكا أن توقف ذلك النمو وتسيطر بدورها علي تلك المنطقة فكان لابد من حرب كبيرة هناك، وكانت الحجة الكبرى هي أحداث 11 سبتمبر التي تشوبها الشوائب، لتصبح أفغانستان أمريكية بإمتياز.

بالعودة إلى الضغوط الأمريكية علي الأوروبين، واستمرار مخطط السياسية الجديدة الأوروبية،  كان لابد من العبث ببعض الاقتصادات الأوربية،  وأهمها فرنسا ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا، ويعتبر حامي حماة القارة الأوروبية. 

أرادت أمريكا أن تخنق فرنسا من خلال إضعافها اقتصاديًا وعسكريًا والحد من نفوذها حول العالم لتبدا المرحلة الثانية من الضغط الامريكي على فرنسا  وخصوصًا في أفريقيا.  المعروف أن أفريقيا هي سلة الاقتصاد الرئيسة لفرنسا من اليورانيوم، و الكربون، ذهب والماس التي كانت تقوم بسرقته لسنوات طويلة، بجانب ادارة فرنسا للصناديق السيادية  الاقتصادية الخاصة لدول كثيرة في افريقيا.

كانت الضربة القاضية للفرنسيين تلك التي قام بها الأمريكيون لدعم الانقلابات العسكرية في دول الأفريقية ذات النفوذ فرنسي خاصة تلك التي تملك بها قواعد عسكرية  واستثمارات فرنسية ضخمة. وما هي إلا أيام معدودة وحدث الانهيار الفرنسي السريع في أفريقيا، وفقدت سيطرتها الكاملة على أفريقيا خلال عدة أسابيع. وللأمانة التاريخية أي تحرك فرنسي لاستعادة النفوذ في أفريقيا عن طريق انقلابات أو تحرك عسكري فرنسي مباشر سيعود بالنفع على روسيا بمعنى التحرك الفرنسي هو نفسه تحرك روسي بقواعد عسكرية  روسية في أفريقيا على اعتبار أن الموجود في الحكم سوف يطلب حماية روسية من المستعمر القديم "فرنسا". 

 ليس خافيا علي أحد أن تلك الانقلابات الأفريقية حدثت عقب القمة الافريقية- الروسية التي عقدت قبل شهر من انقلاب بوركينا فاسو الأخير. مما لا يدعو للشك بأنها سياسة أمريكية وأن كانت التواجد روسي  في أفريقيا هو الضاهر وهنا يكمن  نهج سياسي   جديد حتى في أفريقيا. 

يبدو أن الادراة الأميركية توزع المهام بشكل احترافي بينها وبين روسيا، يبدأ هنا الدور الروسي في استراتيجية الجديد في نهج السياسة الجديد للعالم.  ويكمن في توزيع وتبادل الأدوار بين الأمريكان والروس للضغط على أوروبا، حيث أن روسيا كانت ولا تزال التهديد الأكبر للأوروبين.  

تهدف سياسة الولايات المتحدة نحو العالم الجديد إلى ربط جميع الخيوط بيدها فقط، وهذا ما تجلى عندما زار هنري كسينجر الصين منذ شهرين وكان الحديث حينها أنه ذهب للتصعيد وكبح جماح التهديد بين أمريكية والصين بعد أزمة المنطاد التجسس الصيني فوق العاصمة واشنطن لكن على العكس كان مهندس السياسة الأمريكية قد ذهب للتهدئة كما فعلها منذ أربعين عاما، واجتمع مع الرئيس الصيني وطمأنته بعدم  وجود  تهديد من أي طرف حتى مع توجيه بعض الشركات الأمريكية للهند.

علينا أدراك أن الصين تملك سندات خزانة أمريكية ثلاثة أضعاف ما تملكه الحكومة الأميريكية نفسها برقم يصل إلى ترليون و١٠٠ مليار مليون دولار، وهذا يعتبر دين صيني على أمريكي نفسها.

الخيوط بيد الأمريكان اولها  حفض التوازن مع الصين و إنشاء تحالف مصالح مع الروس ربط بريطانيا في حلف جديد والاوربيين ليس لهم دور في تحريك السياسة الدولية مع استمرار الحرب على حدودها وازمة الطاقة .. الخيوط تتحرك من خلال يد واحد هي اليد الأمريكية بكل ثقة.

لنفهم طريقة الإدارة الأمريكية في وضع سياستها الكبيرة، وغير المسبوقة، عليك إدراك القواعد الأساسية، أهمها أن أمريكا إذا أرادت أي تغيير كبير يجب عليها إيجاد حجة كبيرة لذلك، وأي حرب كبيرة تحتاج إلى حدث كبير، القاعدة الثانية لا أعداء إلى الأبد ولا أصدقاء إلى الأبد، والثابت الوحيد هي المصالح والسياسة بالنسبة للأميريكيين هي فن الممكن واللعب على المتغيرات، وعليه لم تأت الخطة الأميريكية لعالم جديد وليدة اللحظة، لكنها كانت مدروسة وتم العمل عليها منذ سنوات، وانظر إلى تسلسل الأحداث منذ أحداث 11 سبتمبر حتى يومنا هذا.

فكما قال هنري كسينجر منذ سنوات (من لم يسمع طبول الحرب فهو أصم)، على ما يبدو أن العالم كان وما زال أصم والقادم أسوء...


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)