- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
الخروج من جحيم الفقد إلى المشتهى .. شريف رزق بين رحيله وديوانه "هواء العائلة"
الخروج من جحيم الفقد إلى المشتهى .. شريف رزق بين رحيله وديوانه "هواء العائلة"
- 15 يونيو 2021, 2:41:17 ص
- 1853
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الحركة الأولى: رحيل الشاعر النبيل
(1)
طليطلة تسقط من جديد
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ ... فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً ... شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بي
جرى الأمر بأسرع مما يمكن فيه ان يلتقط أحد أنفاسه، أو أن يصدق؛ فبين دخول شريف رزق (الأربعاء 20 من يناير 1965 – الأربعاء 14 من يونيه 2017م) المستشفى ورحيله عن العالم أقل من ثلاثة أيام، الشعور بالذهول الذي اجتاح الوسط الأدبي، لم يكن مرده هذا فقط بل إن شريف أحد الكتاب المعروفين بقوانين الحفاظ على الصحة الصارمة؛ فهو قليل السهر، لا يتناول إلا الشاي نادرًا، مستقر في مسقط رأسه مدينة منوف بمحافظة المنوفية. ليس هذا فحسب بل إن الفاجعة التي أطبقت على الوسط لها سبب مضافٌّ؛ فرغم أن الموت لا موعد له، فإن شريف يعد أوسط الشعراء عمرًا فلا هو ممن اقتربوا من حائط الثمانين، ولا ممن في أوائل العمر؛ ما حدا الشعراء خصوصًا، والقريبين من شريف أكثر إلى الشعور بالفجيعة والحزن والهول والعجز، وليت أدري لم استرجعت مع دعائي لشريف بالرحمة كلما ذكرته بيتي المتنبي وبيتي ابن العسال الذي طالب العرب بالرحيل عن الأندلس بعد سقوط طليطلة:
ياأَهْلَ أَنْدَلُسٍ حُثُّوا مَطِيَّكُمُ ... فما المقامُ بها إلاَّ مِنَ الغَلَطِ
الثوبُ يَنْسِلُ مِنْ أَطْرافِهِ، وأَرى ... ثَوْبَ الجزيرةِ مَنْسولاً مِنَ الوَسَطِ
لكن سببًا يرى بقليل من التدقيق، ألا وهو دور شريف النقدي والشعري الذي تجاوز جيله الشعري، وتجاوز مكانه؛ ليصبح رزق ناقدًا وشاعرًا إنسانيا بامتياز، فهو في الطليعة من نقاد قصيدة النثر العربية، وإن لم يحظ بالتقدير في مصر؛ فقد عد الناس الخليل بن أحمد مجنونا، وأحرق أبوحيان التوحيدي مؤلفاته، بل وأحرقت مؤلفات ابن رشد.. ومع هذا فإن شريف ظل أشبه بجيفارا حينًا، وجلجامش حينا، وستثبت الأيام أن شريف بانحيازه للجمال لم يخطئ، وأنه سيحتفظ بمكانته إلى جوار طرفة بن العبد وأبي تمام والشابي شعرًا، أما نقده فسيبقى ما بقي الشعر الباقي حتى تدع الإبل الحنين.
(2)
كيف مات شريف رزق؟
وكأن الموت ليس سببا في حد ذاته.
من لم يمت بالسيف مات بغيره... تعددت الأسباب والموت واحدُ
تقول التقارير الطبية إن نزيفًا داخليًّا بالمخ، صاحبه التهاب رئوي، مما دفع بمستشفى منوف العام إلى إيداعه غرفة العناية المركزة، وحين حاول إخوته نقله في حضور بعض الأصدقاء، كانت الإجابة إن حالته لا تسمح، وإنه لا شيء يمكن تقديمه في مكان آخر، وبين مكالمة الشاعر الصديق علي بدر في الثانية فجر الأربعاء ليخبرني بحالة رزق رحمه الله، ولينقل لي هاجسًا شعره من كلام الطبيب: "حاسس إن الدكتور بيقول كلها أيام او ساعات" وبين مكالمته في الحادية عشرة صباح اليوم نفسه ليخبرني برحيله أقل من تسع ساعات كانت كافية لإراحة شريف من مكابداته مع الحياة والأحياء من أجل الفن والفن والفن.
"الموت نقاد الجياد" هكذا تقول الحكمة العربية، وها نحن نتلظى بنارها؛ فمن فجيعتنا نحن إلى ذهول جيرانه وزملائه في العمل، إلى جنازة مهيبة تشيه جنازات القرى في ضخامة عددها، ومعظم حضورها من جيران شريف وزملاء عمله، وأقلهم الكتاب نظرًا لسرعة الدفن وبعد المسافات وعدم علم الكثيرين إلا بعد موته..
هل بهذا السبب مات شريف؟
هل لأنه مريض ضغط وسكر؟
هل لما تداعى عليه بشكل شخصي منذ موت أخيه عادل وما تلاه من مرض أمه وأبيه وموتهما – كما عبر عن ذلك في ديوانه هواء العائلة؟
هل تعرض لمشكلة أثارته نفسيًّا ولم يستطع تجاوزها؟
فلماذا كان الكندي يطل دائمًا كلما رأيت شريف أو حاورته؟ ربما هو هكذا.. فها هنا يقف أبو تمام منشدًا:
إقدام عمروٍ في سماحة حاتمٍ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
قال له الكندي: ما زدت على أن شبهت ابن أمير المؤمنين بصعاليك العرب وأيضا فإن شعراء دهرنا تجاوزوا بالممدوح من كان قبله ألا ترى إلى قول العكوك في أبي دلف: رجل أبرّ على شجاعة عامرٍ... بأساً وغبّر في محيّا حاتم
فأطرق أبو تمام ثم أنشأ يقول:
لا تنكروا ضربي له من دونه... مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره... مثلاً من المشكاة والنبراس
فقال الكندي إنه قصير العمر لأن ذهنه ينحت من قلبه فكان كما قال. وقد مات أبوتمام عن اثنين وأربعين عامًا تقريبًا.. الحق أن شريف كان ينحت من قلبه، وأنه ظل يكابد الحياة حتى غادرها بجسده مأسوفًا عليه، باقيًا بكتابته ومواقفه التي لا تنفصل عن كتابته.
(3)
ماذا ترك لنا شريف رزق؟
سيرة عطرة بالذكاء والنبوغ و(الأخلاق) التي حدته إلى أن يكون نفسه فلا يتخذ شعارا إلا ما يؤمن به، ولا يخلع منه شيًا رغبة في جاسزة أو خوفًا من منع، كان من ثمارها:
مئات المقالات النقدية المنشورة في عدد من المجلات والصحف العربية، تركز على الشعر في غالبها، فقد تعرض شريف رزق لنقد تجارب الشعراء المصريين والعرب المقيمين والمهاجرين، بحيث يمكن القول إنه الناقد العربي الوحيد الذي تابع نتاج الحياة الشعرية متابعة دقيقة على مستوى الدواوين أو المشروعات بشكل كامل، ويمكن متابعة كتاباته عن رفعت سلام وفريد أبوسعده وصلاح فائق كنماذج للتدليل على صحة طرحنا من عدمه.
ترك شريف سبعة دواوين مطبوعة وهي: عُزلةُ الأنقاض، طبعة أولى، 1994. لا تُطفِئ العتمةَ، طبعة أولى، 1996. مجرَّةُ النِّهايَاتِ، طبعة أولى، 1999.
الجثَّةُ الأولى، طبعة أولى، 2001. حيواتٌ مفقودةٌ، طبعة أولى، 2003، طبعة ثانية،2010. أنتَ أيُّهَا السَّهو، أنتَ يامهبَّ العائلةِ الأخِيرَةِ، طبعة أولى، 2013. هَوَاءُ العَائِلَةِ، طبعة أولى، 2016، طبعة ثانية،2016.
كما ترك عددًا من الأعمال النقدية المطبوعة منها: شِعرُ النَّثر العربيِّ في القرنِ العشرين، طبعة أولى، 2010. قصيدَةُ النَّثرِ في مشهدِ الشِّعرِ العربيِّ، طبعة أولى، 2010. آفاقُ الشِّعريَّةِ العربيَّةِ الجديدَةِ في قصيدَةِ النَّثرِ، طبعة أولى، 2011، طبعة ثانية، 2015. قصيدَةُ النَّثرِ المصْريَّةِ : شِعريَّاتُ المشهَدِ الجديدِ، طبعة أولى، 2015. الأشكالُ النَّثرشِعريَّةُ في الأدبِ العربيِّ، طبعة أولى، 2014. شعريَّاتُ مَا بَعْدَ " شِعْر" : قصيدَةُ النَّثرِ العربيَّةِ في السَّبعينيَّاتِ والثَّمانينيَّاتِ. تحوُّلاتُ القصيدَةِ العربيَّةِ عَبْرَ العصورِ.
اللافت في قراءة دواوين شريف رزق وكتبه النقدية إحساسه المتمكن من (خوف) ومن (واجب) أما الخوف فيتركز في خوف الشاعر من الإهمال والضياع والرحيل يقابله واجب المدافعة بالكتابة شعرًا ونثرًا؛ وعلى الرغم من موسوعية شريف رزق ومن إتقانه العروض الشعري فإن جل نتاجه الشعري ينتمي لقصيدة النثر، وكل كتبه النقدية تدافع وتؤرخ وتؤسس وتعرض لقصيدة النثر فكأنه نذر نفسه للدفاع عن هذه القضية الجمالية ببسالة وإصرار يحسد عليهما.
الحركة الثانية: هواء العائلة المرثية الأخيرة
(4)
عرف الشعر العربي رثاء النفس ولعل من أعرف قصائده ما قاله مالك بن الريب في يائيته:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً ... بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا
تذكرت من يبكي علي فلم أجد ... سوى السيف والرمح الرديني باكيا
ويبدو أن ديوان "هواء العائلة" ينتظم – على طريقته – في هذه النصوص؛ فالشاعر الذي لا يتخطى دوره المراقبة والحلم والبكاء يضفر ديوانه من العنوان نبوءة بموته.
ومنذ العنوان "هواء العائلة يتنسم شريف هواء الراحلين الأحبة، فعائلته الحقيقة عادل المجند الذي مات وبموته بدأت الكوارث، وأمه وأبوه اللذين مرضا نتيجة لهذا ولم يغادرا مرضهما إلا للقبر، وجدته التي ربته وكانت بمثابة أم رؤوم في مواجهة أمه الحقيقية التي لم تكن تؤمن ببراءة ابنها الصغير الشقي، وتتسع العائلة لتشمل صديقه الذي مات وهو صغير، إلى ذلك الدرويش الذي حول موته إلى عرس كبير. هناك عائلة أخرى عائلة لا تموت.. عائلة يود الشاعر أن يقابلها في نزهة خلوية ويلحقه أحدهم على جناح غيمة.
وياتي التصدير: " العَالمُ على وَشَكِ أنْ يتخلَّصَ منْ كُلِّ نورِهِ وَبَهَائِهِ| لِيَحْشرَنَا في حُفَرِ عَتْمَتِهِ الخَانِقَةِ." هارولد بنتر. إن ما نستطيع قراءته من هذا التصدير يتفرع إلى اتجاهين – وفق قراءتي – الأول، وتأتي بقراءة التصدير فقط، هو أن الكاتب يقرأ ذبول مقومات حياته شيئًا فشيئًا حتى إذا حانت لحظة الموت، حشر في حفرة العتمة الخانقة، والمعنى الثاني، ويتراءى بعد قراءة الديوان، تجعل المعنى (المحتمل) هكذا: يسحب العالم منا كل من نحب حتى تصبح الحياة مقبرة كئيبة، ولفرط حيرة الإنسان فهو لا يدرك أين هو؟ بل وما هو؟
ثمة متاهة إذن تبدأ من العنوان فالتصدير ثم تتسع كُرتَها بوجود صفحة بيضاء بين القصائد، ثم تخلو القصائد من العناوين، ثم تأتي القصائد بحسها الحزين وقد أخذ الفقد والحيرة بأقطارها؛ لتنتهي بغربة الشاعر عن نفسه وجهله بها، ثم يأتي عدد القصائد بوصفه عتبة مقصودة بالغة الأهمية.
هكذا إذن نحن في حيرة.. لماذا عدد القصائد عشرة؟ ويبدو أن السؤال الذي سيطرحه القارئ: ولماذا نفترض أن للعدد معنى؟ والحق إن إجابة سؤالنا ستكشف الأمر؛ إن حار شريف رزق مع تراثه في هذا النص يتخطى مساءلة التراث أو التناص معه، ويصل إلى وضع الشاعر منه أي.. ماذا لو كان الشاعر يمرر أحادث التاريخ ويضع نفسه في اختبارها.. وعدد القصائد أولى هذه الاختبارات إن هذا الرقم وهو رقم اكتمال تبدو ذروة استعماله في الوصايا؛ وصايا موسى لقومه، ووصايا كليب للمهلهل بعد أن طعنه جساس، وهذا يدفعنا إلى محاولة فهم "وصايا" صاحب هواء العائلة، ويتسع رقم عشرة التاريخ العربي والإنساني وباتساعه يأخذ عدد القصائد دلالات جديدة، بل إن عدد القصائد هو عدد أصابع اليد؛ فماذا لو كان ذلك؟ أتتحول القصائد التي تبين العجز إلى أصابع اليد العشرة العاجزة عن الحياة؟ أتكون عشر القصائد صورة من التعبير الشعبي: "بصمت لك بالعشر" وه تعبير الإقرار وعدم وجود حيلة في وجه من الوجوه؟
في المحتويات آخر الديوان يجعل الشاعر لقصائده عناوين، هذه العناوين غير موجودة قبل القصائد، ولا يكتفي الشاعر بهذا فالعناوين التي وضعها الشاعر هي أرقام لاتينية (رومانية) فلماذا هي أرقام؟ ولماذا هي لاتينية؟ ولماذا اختفت العناوين من المتن؟
لنبدأ بالسؤال الأخير.. إن عدم وجود العناوين قبل القصائد وترك بياض غالبا قبلها دال على أن البياض هو الفاصل والبياض في التراث العربي هو لبس الحداد، والبياض موازٍ للفراغ والعدم، لكن يطرأ أمامنا طارئ: لماذا لم يسبق القصيدة الأولى هذا البياض؟ هل هو خطا طباعي غير مقصود أو أنه متناص مع طريقة تلقيب الملوك أو القادة فلا أحد يتبع القائد بصفة الأول، وإنما تظهر الصفة مع الثاني.. ولماذا لا يكون هذا الفراغ تالٍ للقصائد فكأن هذه الفراغات "برزخ أبيض يعقب الحياة، أو أنها استراحة بعد معركة، ولعل هذا ما يفسر عدم وجود صفحات بيضاء بين القصيدة الثامنة والتاسعة فالشاعر لا يريد أن يستريح من هزيمته السابقة بل يحاول أن يكمل.. إنها بوجه آخر رحلات الفقد الموازية لرحلات السندباد لكن السندباد يعود كل مرة بحزن جديد.
ما الأرقام في مواجهة الكلمات؟ إنها التشيؤ في مواجهة البشرية، تحويل الذات إلى موضوع، ومتى يحدث هذا إلا في السجن او الموت، كأنا هنا أمام حفار القبور في هملت وهو يشير لكل الرؤوس متحديًا أن نعرف الفرق بين الملك والمهرج والفلاح الفقير، وكأننا هنا أمام إمعان في التغريب فها هو الشاعر يتغرب عن نفسه، ولا يميز أسماء بل أرقامًا، وتتجمع الأرقام في النهاية وكأنها سلسلة مفاتيح في يد سجانٍ، أو قبضة من التراب في يد مهاجر يسأل في نهاية نصه:
لماذَا أُحِسُّ - بينَ وقتٍ وَآخَرٍ-
وأنَا أتطلَّعُ إليكُمَا معًا
أنَّني غريبٌ عنْ هذِهِ العَائلَةِ
وأنَّني في الحقيقَةِ لسْتُ مِنْكُمَا أصْلاً
وأنَّني أعيشُ تمثيليَّةً كئيبةً
فكَّرْتُ أنْ أكتبَهَا يومًا مَا في قصَّةٍ بعنوانِ: المجهولْ.
(5)
يبدأ الديوان بمشهد يتكرر كثيرًا فيما يشبه الإطناب في البلاغة العربية القديمة:
بِصَدْرِه العَاري
على الشَّاطِئِ، وَحْدَهُ
يَسْتقبِلُ قذائفَ المَوْجِ
مقعَدٌ شَاغِرٌ، في الغرُوبْ.
ويبلغ هذا التكرار مداه في: لِمَاذَا يَمُوتُ الَّذينَ أحِبُّهُمْ فَجْأةً؟.
إن قراءة هذه المقاطع وغيرها يضعنا أمام شخص غريب يفقد أحبته ومًا فيوما ولا يستطيع إلا أن يعجز ويتوحد ويغترب، ويشعر أنه شئا فشيئًا يفقد جزءًا منه.. فكأنه في حالة نزيف مستمر.
يهيمن الموت على النص لفظًا ومعنى: فقد وردة لفظة موت 17 عشر مرة، فيما وردت جثة مفردًا خمس مرات: " على مَقرُبَةٍ مِنِّي جُثَّتِي. جُثَّتِي تُلوِّحُ في العَرَاءِ. الحَرَائقُ تنهشُ جُثَّتي. مِثْلَ أيِّ جُثَّةٍ لِي. وَأنْ أتَلاشَى في جُثَّتِي." وجثث مرة واحدة: " صَعْبٌ أنْ تُدْرِكَ الآنَ كَمْ أحْمِلُ منْ الجُثثِ في جَسَدِي"
إن اللافت هنا أن حضور الموت أثناء حياة الشاعر هو المهيمن؛ فهو يرى مصيره إلى جثة، ويرى أن الحل دائما هو تحوله إلى جثة، ويرى أنه يحمل ما لا يعد من الجثث/ الخيبات / الهزائم في جسده، ونجد أنفسنا في مواجهة جدلية الهزيمة بالانتصار، والانتصار بالهزيمة؛ فالجسد يستطيع التحرك رغم موته المتعدد موت أحبائه، والجثث قادرة على احتلال الجسد الحي وجعله يقر بهذا الاحتلال.
هل يمثل الموت للشاعر في نصه نوعًا من الهروب الميتافيزيقي؟ ربما يواجهنا هذا الدفع بما عرف عن سوريالية شريف رزق، لكن المعيش الذي يقدمه لنا في هذا النص تجعلنا نفاجأ بأن شريف يريد أن يواجه هذا الموت:
أُريْدُ أنْ أُنظِّفَ قدمَيَّ مِنْ الشَّوَارِعِ
عَيْنَيَّ مِنْ الرُّؤى
دَمِي مِنْ العَنَاصِرِ المَوْرُوثَةِ
ذَاكِرَتِي مِنْ الأصْدِقَاءِ.
إن هذا التنظيف الذي يبدو نوعًا من الإنكار ليس إلا محاولة على الحقيقة من إيقاف نزيف الموت المستمر الذي يقطع الشاعر أشلاء.
كَأنَّهُ يَتَعَثَّرُ في كابوسٍ، في زِحَامِ الشَّارعِ الجَدِيدِ
حِيْنَمَا اسْتَوقفتْهُ سَيَّارَةٌ عَسْكريَّةٌ كَبِيرَةٌ
نَادَوهُ باسْمِهِ، وَأصْعَدُوه إلى السَّيارَةِ، مُضطربًا
قَالُوا: أأنْتَ أبو عادل شفيق رزق؟
وَمُنقبِضًا نَقَّلَ عَيْنيْهِ بينَهُمْ أبِي:
- مَالَهُ ؟
رَبَّتُوا على كتِفِهِ، وَاجِمِيْنَ:
- شِدّْ حِيلَكَ..
لمْ يُصَدِّقْ أبِي، انْتَفَضَ
كَشَفوا لَهُ عَنْ وَجْهِهِ وَرَآهُ
إن الحديث عن الموت المركزي في النص وما جره من المصائب، يجعلنا نواجه نوعًا صورة من الجدلية التي يقوم عليها النص، فهو ينقل الأسرة من السير بهدوء في الشارع إلى البكاء على القبر والمرض، ومن علاقة قوية بين الأم والأب إلى العزلة الاضطرارية ومن حيوية الحياة إلى سكون الموت:
موتُ عادل، في الجيشِ، لم يكُنْ إلاَّ بدايةَ الكَوَارِثِ
فأبي سَاءَتْ حالتُهُ، ولمْ تُفلِحْ معَهُ شتَّى المحاولاتِ
كانَ لا يفعَلُ شيئًا سِوَى البُكَاءِ.
قُلتُ لهُ مَرَّةً: حَرَامٌ عليكَ يا أبي، كفَى مَا كَانَ!
كانَ لا يفعَلُ شيئًا سِوَى البُكَاءِ
ومَا أوْقفَهُ عنْ البُكَاءِ سِوَى نَزْفٍ بالمُخِّ؛ عَزَلَهُ عنْ العَالمَِ.
كانَتْ أمِّي تقومُ على خدمتِهِ، حتَّى سَقَطَتْ، ذاتَ مَسَاءٍ
ولمْ تقِفْ بعدَهَا
؛ نتيجةً لهشَاشَةِ العِظَامِ.
مَوْتُ عادل لمْ يكُنْ إلاَّ بدايةَ الكَوَارِثِ.
(6)
ما هو خفي هنا ليس السرد المدهش، ولا الحوار الساخن، ولا بالطبع تداخل الأجناس، وإنما هو موقع الشاعر الذي يتحول إلى بطل في النص، وربما حاول الشاعر إخفاءه عبر استخدام تقنية الراوي العليم، لكنه كان يتراجع عن هذا الإخفاء بعدة طرق، منها مخاطبة أحد الشخصيات له أو بحثها عنه، أو استخدامه لضمير المتكلم:
جَمِيْلٌ أنَّكَ مُنْقَطِعٌ عَنْ هَذَا العَالمِ يَا أبي
جَمِيْلٌ أنَّكَ لا تُدْرِكُ مَا نَحْنُ فيْهِ على وَجْهِ الدِّقةِ حَاليًا
جَمِيْلٌ أنَّكَ تتبسَّمُ حِيْنَمَا تَصْحُو وَأسْألُكَ عَنْ حَالِكَ
، جَمِيْلٌ أنْ تُكرِّرَ في كُلِّ مَرَّةٍ: الحَمْدُ
للهِ، أيْنَ شَريف؟.
(7)
يتحول العالم إلى (جحيم أرضي) ولا يتوقف الشاعر عن محاولاته لمواجهة هذا الجحيم الذي تكون ناره الكبرى بإفقاد الشاعر من يحب؛ لذلك يتحدى الشاعر هذا الجحيم بأكثر من طريقة منها الحلم، ولما كانت أحلامه اللاإرادية هي كوابيس تحوله لجثة فإنه يصنع لنفسه حلمًا إراديا:
سَيأتِي الموْتُ، في يَوْمٍ مَا، في الهَزيْعِ الأخيْرِ منْ الليْلِ، سَاعَتُهَا سَأكونُ مُسْتغرِقًا في روايَةِ: انقِطَاعَات الموْتِ، لجوزيه سَاراماجو، سَيتأمَّلُ أشيائي وَأوْرَاقي، سَيَتَعَثَّرُ أمَامَ صُورتِي، سَيَسْعَلُ، سَيَتَمَدَّدُ على الأريْكَةِ، في انتظَارِ أنْ أعُودَ منْ الرِّوايَةِ، سَوْفَ ينتظِرُ طويْلاً، وَسَوْفَ يَمُوتُ، في النِّهايَةِ، في سَريرِي، سَأكونُ مُنْهَمِكًا في حَيَاةٍ بلا انقِطَاعٍ، هُنَاكَ، في روايَةِ: انقِطَاعَات الموْتِ، لجوزيه سَاراماجو.
حين يأتي الموت فسيجد الشاعر في مكان لا يصل إليه؛ في رواية ساراماجو حيث لا موت، يقفز الشاعر في الرواية فيما يتعثر الموت ويعجز ويموت مكانه، ولعل لدينا هنا تناصا خفيا يكاد يحجبه ذكر سارماجو وروايته، إنه عن موت الموت في قول المتنبي: تمرستُ بالآفاتِ حتى تركتها ... تقولُ أماتَ الموتُ، أم ذعرَ الذعرُ.
يتحدى الشاعر الجحيم بانتظار موت عظيم:
أحْتَسِي دَمِي
وَأشْعُرُ برَغْبَةٍ عَارمَةٍ في الانْفِجَارِ
أُريدُهُ انْفِجَارًا كَوْنيًّا شَامِلاً
تَشَقَّقُ الأرْضُ مِنْهُ
وَتَخِرُّ لَهُ الجِبَالُ صَرْعَى
وَتَتَشَظَّى السَّمَاءُ
باكِيَةً
على حُطَامِ المَشْهَدِ.
أريدُهَا لقْطَةً
بَانُورَامِيَّةً
هَائِلةً
لِلْجَحِيْمِ الأرْضِي.
يتحدى الشاعر الموت بالخلود، بالذهاب إلى الأصدقاء الذن لا يموتون، أهل البحث والترحال؛ الفلاسفة والفنانون والشعراء والمتصوفة، نزهة خلوية لا يقطعها موت ولا يعكرها فقد:
أشْتَهِي الخُروجَ في نزهَةٍ خَلويَّةٍ
مَعَ نيتشَه، وَرَامبو، وَشَاجَال.
تَصْحَبُنَا فِيَلَةٌ، وَيَنَابيعُ، وَغِزْلانٌ، وَمَنَازلُ، وَقِيَانٌ.
نلتقِي، في الطَّريقِ، بامْرئ القيسِ، وَبيسوَّا، وَابْنِ عَرَبِيِّ.
نَخْلَعُ أقدامَنَا في الصَّحَاري، وَنَمْضِي
فيُدْركُنَا النَّفَّريُّ، على ظَهْرِ غَيْمَةٍ
نَمْضِي إلى حَانَةِ الكَلْبِ
؛ حَيْثُ في انْتِظَارِنَا سركون بولص.
وَعِنْدَ مَطْلَعِ الفَجْرِ نَدْخُلُ بَيْضَةً صَغِيْرَةً
على شَاطِئِ تُرْعَةٍ مَهْجُورَةٍ.