- ℃ 11 تركيا
- 27 ديسمبر 2024
نصر القفاص يكتب : بوابات الأموال القذرة!! (14).. جنازة تاريخية!!
نصر القفاص يكتب : بوابات الأموال القذرة!! (14).. جنازة تاريخية!!
- 15 يونيو 2021, 2:28:31 ص
- 996
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
مطلع القرن الجديد – عام 2002 – مات رجل المافيا الأمريكى من أصل إيطالى فى السجن.. إسمه كانت تحفظه وسائل الإعلام, وتناولته كثيرا.. مرات كان اسمه مرتبطا بجرائم قتل خلال الثمانينات.. نظرتها المحاكم وتابعتها الصحف وقنوات التليفزيون.. ثلاث مرات تتم محاكمته ليفوز بالبراءة.. عاما بعد عام كانت ثروته تتضخم ونفوذه يتعاظم, وشهرته تملأ الآفاق داخل الولايات المتحدة وخارجها.. ذاع صيته فى اوروبا, وخاصة فى إيطاليا بملايين ينفقها على سهرات وحفلات يدعو لها نجوم هوليوود وعارضات الأزياء.. كان يحيطه عشرات الصحفيين الفاسدين, وتقرب إليه ساسة يستثمرون مواقعهم ومناصبهم!!
إستمر "جوتى" – وهذا اسمه – مركز دائرة اهتمام الإعلام ورجال القانون والمحققين.. كذلك كان يهتم به فقراء كثر كان يشملهم برعايته.. فقد كان ينفق بسخاء على أعمال خيرية ومستشفيات ويتبرع لنشاطات تستحوذ على اهتمام جماهيرى كبير.. أصبح اقتراب سلطات الدولة منه عملا محفوفا بالمخاطر.. كان يدرك ذلك لأنه صنع هذه الحالة بأمواله التى يصعب حصرها أو رصدها, لأنها كانت ترقد بسلام فى بنوك وشركات "أوف شور" باسمه وأسماء أولاده الذين أصبحوا شركاء فيما أسموه, لتجميل الفساد, "فاميلى بيزنس" وهى الأعمال التى تتحول إلى أسرار وألغاز لا يمكن حلها!
كان "جوتى" مولعا بكل نشاط رياضى تتم الرهانات عليه.. ذلك جعله واحدا من أشهر الذين يرتادون حلبات سباقات الخيول.. وبلغ به الغرور إلى حد السخرية من السلطات الأمنية والقضائية.. بل والسياسية أيضا.. ثم وصل إلى حالة تحدى لكل هؤلاء علانية بتصريحات تنشرها وسائل الإعلام.. إستفزت حالته الدولة العميقة فى أمريكا.. نصبوا له مصيدة وأسقطوه بالصوت والصورة.. كان قد وصل إلى درجة شرح جرائمه.. كيف ارتكبها.. وأساليب خروجه منها كما "السكين فى الجاتوه"!!
تم القبض على "جوتى" وكانت محاكمته تأخذ فى اعتبارها ما تحدث عنه حول الرشوة التى كان يدفعها لتدمير القضايا التى تتم محاكمته بها.. وصدر ضده حكم بالسجن المشدد, وتم وضعه فى سجن شديد الحراسة والخصوصية.. فترة سجنه كانت لا تسمح له بمغادرة زنزانته سوى ساعة واحدة فى اليوم.. حتى مات.
كل هذه التفاصيل مهمة لكى تفهم مشهد مراسم دفنه.. فقد سبق جثته عشرات من السيارات الفخمة حاملة أغلى الزهور, كذلك سيارات أخرى خلف نعشه.. ونقلت قنوات التليفزيون مراسم الجنازة التى لم يسبق أن كانت لنجم أو سياسى, بما فيهم الرئيس الأمريكى "كينيدى" سليل العائلة الثرية.. حرص أولاده على أن تكون لحظات نهاية "جوتى" الأب على هذا النحو, حتى تستمر إمبراطوريته مهابة الجانب.. وتعظيما لهذا الهدف خرج المئات من الذين كان يرعاهم, واستمر أولاده فى رعايتهم, بمظاهرات تندد بالحكومة الظالمة التى اضطهدت "جوتى" وسجنته رغم أنه كان رجل البر والإحسان!!
مات "جوتى" وبقى منهجه وورثته.
الكل استوعب الدرس.. سواء من أسرة "جوتى" أو أقرانه الذين يمارسون العمل فى "صناعة المال".. لكنهم قرروا تطوير المنهج.. البداية بضرورة اهتمام أكثر بالإنفاق على المريدين فى مجال الإعلام.. إنفاق أكثر على المقربين من السلطة وأصحاب النفوذ السياسى.. إنفاق أكثر نسبيا على الأعمال الخيرية والأنشطة الجماهيرية.. ثم ضرورة اقتحام عالم السينما وإنتاج الدراما!!
يعتقد البعض أن نظام "الأوف شور" هو مجرد سراديب سرية لغسل الأموال, والحفاظ عليها فى "ملاذات آمنة" وذلك ما يتم ترويجه ليبقى هذا العالم غامضا.. سحريا.. ثم كانت الخطوة التالية, لجعله مقدسا ونظام حياة!
إذا كان نظام "الأوف شور" قد ظهر, واستمر منبوذا ولقيطا طوال فترات الاستعمار القديم للدول والسيطرة على مقدراتها العسكرية.. فقد حدث أن الدول الاستعمارية قررت الالتفاف على موجات التحرر الوطنى, والتى اقترنت باسم مصر وزعيمها "جمال عبد الناصر" خاصة بعد ضربة تأميم "شركة قناة السويس".. التى كانت أكبر شركة متعددة الجنسيات فى الكرة الأرضية وقتها.. أدركت بريطانيا بسرعة أن نظام "الأوف شور" سيكون رافعتها المالية والاقتصادية, لكى تحاول أن تستعيد قوتها وهيبتها.. تحركت بسرعة على هذا الطريق, وكلما كانت تحقق نجاحا.. دخلت معها حلبة السباق دول أخرى من التى نسميها "عظمى" أو "كبرى" لتتم عمليات تجميل "الأوف شور" كنظام مالى ومصرفى واقتصادى.. وما إن دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على الخط, حتى تحول الأمر إلى صراع استلزم العمل بسرعة على خلق "مجتمع أوف شور" بكل ما يميز أى مجتمع من صفات وما يجعله نموذجا مغريا لدول فقيرة تتمنى وتحلم بأن تصل إلى ما وصلت إليه تلك الدول التى يقولون عنها متقدمة.
دارت العجلة.. نجح نموذج "المجتمع الأوف شور" فى الحضانات التى تمت رعايته فيها.. بدأت مرحلة ترويجه ونشره عبر دول صغيرة مثل: "سنغافورة" أو ما يشبه الدول مثل: "هونج كونج" وانتقل النموذج إلى قلب الشرق الأوسط.. كانت "الفاترينة" هى إمارى "دبى" التى جعلوها الحلم.. وبسرعة انتشار السرطان فى جسد العالم, تم الزحف إلى إفريقيا فكانت تجربة "موريشيوس" و"رواندا" وغيرها.. إلى أن وصلنا إلى المرحلة الحاسمة.
الحسم بأن تتحول دول كبيرة وعريقة إلى "مجتمعات أوف شور"!
مخطىء من يعتقد أن كل ذلك يحدث صدفة أو فجأة.. نحن نتابع عملا دقيقا وصارما.. خطواته منظمة.. تعكف على إبداعه وتطويره "مطابخ" تضم عقولا.. سمها بما شئت.. قل أشرار.. صفهم بأنهم "مصاصو دماء الشعوب".. إعتبرهم الاستعمار الجديد.. كل هذا لا يهم.. المهم أن تبقى كلمة "أوف شور" غامضة.. ساحرة.. والأهم إستيعاب مفردات مثل "الملاذات الآمنة".. ونتمسك بممارسة "إعلام الأوف شور" و"ديمقراطية الأوف شور" وهى فى الأصل إتفاقات سرية لتقسيم مقاعد البرلمان.. أى برلمان فى المجتمع المستهدف!!
تحرص الدول الكبرى.. العظمى.. الاستعمارية.. على الوقاية من "سرطان الأوف شور" وحماية نفسها منه, لأنها تعلم أنه الخطر الذى صنعته.. لذلك ستجد أن الولايات المتحدة أسقطت "جوتى" والأمر نفسه يتكرر فى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا.. كذلك الصين وروسيا اللتان تصارعان لعلمهما أنهما الأكثر استهدافا, لتحويلهما إلى مجتعات "أوف شور" وتبقى "الهند" بعيدة بعد أن حصنت نفسها باحترام تاريخها وثقافتها!!
بعد أحداث 11 سبتمبر تم إدخال تعديلات طفيفة على نظام "أوف شور" تحمى الحيتان الكبار, وتسمح باصطياد الأسماك الصغيرة التى تحاول دخول هذا العالم.. أصبحنا بموجب هذا التعديل نسمع عن قيام أحد البنوك بضبط حالة غسيل أموال.. يحدث ذلك دون فضح من يتم ضبطه أو هدم كيان مالى يملكه.. فكل القائمين على بنوك "الأوف شور" تربطهم سلسلة واحدة.. تحدثت عن ذلك واحدة من الذين عملوا بتلك البنوك فى عدة جزر.. ذكرت تفاصيل مروعة ومعلومات تصيب العقل بالدوار.. نشرت بعض الصحف والمجلات الأمريكية ما ذكرته.. رفضت أن تذكر أسماء لتحمى نفسها.. وحين سألوها عن إذا ما كانت تشعر بالخطر بعد ما قالته.. ردت بضحكة مجلجلة وقالت: "هم يعلمون أن ما ذكرته حقيقة, ويخشون مما لم أذكره لأنهم لا يعرفون مكانه"!! وهم يملكون أدوات تجعلهم ينجحون فى القفز للأمام.. لأنهم فى عالم "الأوف شور" يدركون أن حرية يتم إدارتها بمهارة, أفضل كثيرا من مصادرة الحرية.. فهم يدركون أن حماية نظام سرى لا تتحقق بفرض الصمت.. فالأفضل إدارة هذا الصمت وترويضه!!
زمن احتلال الدول بالمدفع والدبابة والطائرة, مازال ممتد المفعول.. لكن زمن استعمار الدول القومية إنطلق عبر "رجال المال" الذين تمت تربيتهم "أوف شور" ولما كان هؤلاء قادرين على تحقيق الهدف بالمال.. فلن يحدث التدخل بالقوة.. لأن صناعة الأسلحة تزدهر والتجارة فى السلاح "أوف شور" تضمن ازدهارها.. لا مانع من حروب إقليمية محددة وطويلة الأمد.. لا مانع من حماية إسرائيل لاستنزاف من حولها, وأفضل أن تنجح فى إخضاعهم واستيعابهم.. لا مانع من لعب ورقة إيران مع من حولها.. ولا مانع من لعب ورقة "هونج كونج" مع الصين.. أما روسيا التى فشلت عملية تدميرها من الداخل, فأمرها تتولاه بنوك "الأوف شور" المهم أن تبقى راية الفساد خفاقة!!
المهم أن تستمر رعاية رجال المافيا وتجار السلاح والمخدرات والدعارة, بقدر رعاية النخبة الفاسدة التى تحكم دولا تغط فى جهل وفقر عميقين.. وكل الآثار الجانبية يمكن التعامل معها وعلاجها.. وعالم هذا شكله لا يجب أن يتم السماح فيه بظهور زعامات وطنية أو قادة يؤمنون ويقدرون على صناعة المستقبل.. يضمن ذلك تزوير وتشويه التاريخ.. تلك عمليات يتم إنفاق المليارات عليها, لتفقد الأمم والشعوب الثقة فى ماضيها.. يجب أن يرتبط الحاضر بالمال ورجاله.. هؤلاء لابد أن تكون كلمتهم نافذة.. ضرورى أن يتم تمكين كل من يتبعهم, وأن يظهر أولئك بصورة تخلق الحلم داخل كل من يؤمن بأنه لا يوجد شىء غير قابل للبيع والشراء.. بداية من الكلمة.. وليس انتهاء بالآثار!!
إذا أردت الإسراع بخطوات مجتمع لكى يصبح "أوف شور" يجب أن تعطى اقتصاده للمصرفيين, ومفاتيح رسم وتنفيذ سياساته لرجال المال.. هنا يصبح قليل من الديمقراطية مقبول.. قليل من حقوق الإنسان مطلوب.. طالما أن المصرفيين ورجال المال يتمتعون بالحرية, فهذا كفيل بضمان استقرار النظام السياسى.. وتنقل ماكينات الإعلام ما يؤكد ذلك ساعة بساعة.. وأصبح مقبولا أن تكون تلك هى "الدوحة" للنجاح والتفوق والازدهار نموذجا يجب أن يحتذى!!.. يتبع