الداعية الشيخ خالد سعد يكتب: كان بنو صهيون يظنون

profile
خالد سعد داعية إسلامي مصري
  • clock 26 يناير 2025, 12:54:44 م
  • eye 111
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
تعبيرية

عندما قرع بني صهيون طبول الحرب، ظنوا أن المعركة القادمة ستكون مجرد نزهة عسكرية، وأنهم أمام خصم ضعيف لن يصمد أمام عواصف الحديد والنار التي جهزوها. فقد حشدوا سبعة ألوية من نخبة جيشهم، يتقدمها لواءا "جفعاتي" و"غولاني"، اللذان طالما تباهوا بعدم هزيمتهما في أي مواجهة مع العرب. دفعوا بأسطولهم الجوي، الذي يعد من بين الأقوى عالميًا، وسلاحهم البحري الذي طوق غزة، وأرسلوا كتيبة دبابات "ميركافا 4"، فخر صناعتهم العسكرية، ليشكلوا طوقاً حديدياً يعتقدون أنه لن يُخترق.


كانوا يظنون أن حماس ستنكسر سريعاً، وأن المقاومين لن يملكوا سوى خيار الاستسلام، فمن يجرؤ على مواجهة هذه القوة الجبارة؟ وكيف لغزة المحاصرة، التي تعاني الجوع والفقر وانقطاع الرواتب، أن تصمد أمام هذه العاصفة؟


لكن ما غاب عنهم هو أن غزة لا تُقاس بالمنطق المادي ولا بميزان القوى الأرضية. ما غاب عنهم أن القتال ليس سلاحاً وحديداً فقط، وإنما هو عقيدة وإيمان، هو توكل على الله وإعداد ما استُطِيعَ من قوة.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111].


لقد غفل المحتل عن حقيقة أن هؤلاء الرجال ليسوا كغيرهم، فهم يقتدون بجيل الصحابة الذين تركوا الدنيا خلف ظهورهم وأقبلوا على الله، يسعون للشهادة كما يسعى أعداؤهم إلى الحياة. تربى هؤلاء المقاتلون في المساجد على يد أئمة وقادة زرعوا فيهم حب الجهاد في سبيل الله، وأيقظوا في قلوبهم معاني العزة والكرامة.

 

(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60].


لقد أعدت غزة رجالاً لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، رجالاً يعرفون أن الحياة الحقيقية تبدأ بالموت في سبيل الله. لقد تلقوا التربية التي تجعلهم ينظرون إلى العدو نظرة استعلاء، نظرة من أيقن أن الله معه، وأن النصر وعد إلهي لا يتخلف، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].


فجاءت المفاجأة التي لم يحسب لها بني صهيون حسابًا، فقد صمد المقاومون رغم القصف المتواصل. استمرت صواريخهم تنطلق كأنها سهام الحق تخترق سماء الباطل، تهز كيان العدو وتزرع الرعب في قلوب جنوده ومستوطنيه.


وعندما قرر الاحتلال دخول غزة برياً، ظناً منه أن النصر بات قاب قوسين أو أدنى، كان المشهد أشبه بصفحة من التاريخ الإسلامي المجيد. رأينا رجالاً يحملون أرواحهم على أكفهم، يقتحمون الدبابات التي كانوا يظنون أنها وحوش فولاذية لا تُقهر. رأينا مجاهدين يواجهون ألوية الاحتلال بثبات وإيمان، فارتبك جيشهم، واهتزت صورة "الجيش الذي لا يُهزم"، وأصبحت "الميركافا 4" التي تباهوا بها هدفاً سهلاً لصواريخ المقاومين وعبواتهم.


إن صمود غزة لم يكن مجرد حدث عسكري، بل كان مشهداً إيمانيا يعيد إلى الأذهان معارك الإسلام الأولى، حيث خرج الصحابة بأعداد قليلة، لكنهم حملوا في قلوبهم عقيدة راسخة وأرواحاً زكية. {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249].


لقد ظن المحتل أن الموت هو نهاية الحياة، لكن المقاومين أدركوا أن الموت في سبيل الله هو الحياة الحقيقية، وأن النصر وعد إلهي متى صدقت النوايا وأُخذت بالأسباب. قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].


ظن بنو صهيون أن الحرب على غزة ستكون ضربة قاضية، وأنه بمجرد حشد ألوية النخبة والطائرات والدبابات، ستنهار المقاومة وترفع الرايات البيضاء، لكن الله خيب ظنونهم. لقد خرجوا بحقدهم وعدوانهم ليكسروا عزيمة أهل غزة، لكنهم هم من عادوا منكسرين، يجرّون أذيال الهزيمة والخذلان.


لقد فرضت حماس وأهل غزة، بصمودهم وثباتهم، معادلة جديدة على الأرض، وأجبروا الكيان المحتل على القبول بشروطهم لوقف إطلاق النار. كيف لا، وقد أظهرت المقاومة بأساً لا يُكسر، وقوة لا تُقهر، رغم الفارق الهائل في الإمكانات المادية والعسكرية؟


عندما انتهت المعركة، وخرج الكيان الإسرائيلي يلهث وراء وقف إطلاق النار، لم يكن ذلك رحمة منه ولا عطفًا، بل خوفًا من أن تتحول المعركة إلى كارثة لا يمكن احتواؤها. لقد فرضت المقاومة إرادتها، وخرج قادة العدو على شاشات الإعلام يعترفون، ولو ضمنيًا، بفشلهم في تحقيق أهدافهم، بل ورضخوا لتسليم الأسرى، وهو ما جعلهم يعيشون لحظات الذل والهوان أمام عزة غزة وصمودها.
مشهد السيارات الجديدة والفرحة العارمة:


ولم يكن المشهد الذي تلا وقف إطلاق النار إلا درساً إلهياً لكل متكبر ومتغطرس. خرجت السيارات الجديدة في شوارع غزة رغم الحصار، كأنها رسالة تقول: "لن نُكسر ولن نُهزم، وكلما زادت ضرباتكم، زادت قوتنا". لبس أهل غزة أجمل الثياب وخرجوا يحتفلون بنصرهم الذي لم يكن مجرد نصر عسكري، بل كان نصراً لعقيدة أبت أن تنحني إلا لله.

"وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ" [التوبة: 14].


وأما استعراض مقاتلي حماس، فقد كان لوحة إيمانية بهية، تغلبت على كل الصور التي أراد العدو أن يرسمها. خرج هؤلاء الأبطال في كامل عدتهم وعتادهم، يمشون برؤوس مرفوعة، يُغيظون الكفار ومن عاونهم. وكأنهم يقولون: "ها نحن هنا، ثابتون على أرضنا، لم تنالوا منا شيئًا. وإن عدتم عدنا، ومعنا الله الذي وعدنا بالنصر والتمكين". قال تعالى "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم: 47]. وهو القائل سبحانه "لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ" [الأنفال: 59].


عزة وصمود لا مثيل لهما


كانت ثورة غزة ثورة بهية بكل تفاصيلها، عنوانها العزة والصمود. لم يكن ذلك مجرد صمود مادي، بل كان صموداً نفسياً وروحياً، أظهر للأمة الإسلامية بأسرها أن العودة إلى الله، وحمل لواء الجهاد، هو طريق العزة الوحيد. لقد أثبتوا أن الأمة التي ترتبط بربها وتأخذ بأسباب القوة، لا يمكن أن تُهزم مهما تكالب عليها الأعداء.


اليوم، يقر العدو بفشله رغم تفوقه المادي والتقني، ويعترف قادته بأن هذه الأيديولوجيا التي يحملها المقاومون هي أخطر ما يهدد وجودهم. أيديولوجيا تجعلهم يعملون ليلاً ونهاراً، يقدمون أرواحهم بلا تردد، ويسعون للشهادة كما يسعى غيرهم للدنيا.


إنهم أتباع مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين تعلموا أن الموت بعزة خير من الحياة بذل، وأن الشهادة في سبيل الله أسمى أماني المؤمن.


خرجت غزة منتصرة، وخرج معها شعور الأمة بالكرامة والعزة. لقد علموا العالم أجمع درساً لن يُنسى، أن القلة المؤمنة بالله تغلب الكثرة الكافرة، وأن من يحمل عقيدة الجهاد لا يهاب الموت، بل يسعى إليه.
"إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" [محمد: 7].


وبينما كانت غزة تحتفل بنصرها، كان العدو يلعق جراحه، يتساءل: كيف استطاعت هذه الأرض الصغيرة المحاصرة أن تهزم أكبر جيش في المنطقة؟ الجواب بسيط، لكنه مؤلم لهم: إنها العقيدة، إنها الإيمان، إنها الروح التي لا تعرف الاستسلام.


فليعلم بنو صهيون أن غزة، وإن كانت محاصرة، فإنها تمتلك ما لا يمتلكونه. تمتلك رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، رجالاً كتبوا بدمائهم ملحمة جديدة في تاريخ الأمة، وأثبتوا أن الحق مهما بدا ضعيفاً أمام الباطل، فإنه الغالب في النهاية. {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173].


وإن كانوا يظنون أن المعركة انتهت، فإن القادم أعظم، وإنهم سيرون أن جند الله إذا انتفضوا، لن توقفهم حصون ولا أسلحة. فما النصر إلا صبر ساعة، وإن موعدهم يوم يرفع فيه الأذان في تل أبيب، ويزول هذا الكيان إلى الأبد. {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:


وها هي غزة تقول للعالم: نحن أهل الرباط، باقون على عهدنا، لن نترك سلاحنا، ولن نفرط في أرضنا. فمن شاء أن يقف معنا في طريق النصر، فليأتي، ومن خذلنا، فإن الله مولانا ولا مولى لهم. "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحج: 40].

 

إنها رسالة واضحة، لكل متخاذل ولكل محتل: غزة لن تُكسر، وأمتنا، وإن طال ليلها، ستعود لتنهض من جديد. "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف: 21].
فاللهم ثبنهم وسدد رميهم ورائيهم وارزقنا اللهم شهادة في سبيلك لا رياء فيها ولا سمعة يارب العالمين واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .

التعليقات (0)