- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
الدرويشة تُعيد صياغة الذات
الدرويشة تُعيد صياغة الذات
- 7 مايو 2021, 9:11:15 م
- 1039
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الوعي، التحرر، التسامح، تشكيل حرية الذات وحرية الواقع، هذا ما قدمته الدرويشة في المجموعة القصصية الجديدة للكاتبة صفاء النجار.
"يوميات السندريلا في القصر" هي أولى قصص المجموعة، وفيها أعادت صياغة الذات والمجتمع بمفاهيم جديدة، ارتبطت بالحقيقة، والسؤال،
والشك، والرغبة في تغيير حركة التاريخ، وبواسطة نمط مختلف لعلاقات البنية النصية للخطاب قدمت تصورًا موسعًا عن سيرورة التحديث
يستند إلى تطوير وتحسين تسويغ أدائي حُدِّدت للفعال فيه مكانة استراتيجية منتظمة بهدف الحصول إلى نتائج ذات فعالية للتغيير،
وبواسطة نطق خطابية منتظمة عن طريق عمق تفاصيل تداخل الأزمنة والضمائر والاستفهامات والزمان والمكان جثم صوت الواقع الاجتماعي
على الأحداث والشخصيات حتى ظلّل الصراع النفسي الولوج إلى عمق الذات والرغبات المتجددة التي لعب الوعي الفلسفي فيها دورًا كبيرًا،
فأسهمت الأحداث في نمو الشخصية حتى جعلتها شخصية متحررة ذات وعي متفتح، فكانت تجمع كل الزوايا المختلفة من وجودها داخل القصر،
ومن حوارها مع الأمير، أو الوزير، أو الحكيم، وأيضًا من صدى عقلها، في تدرج ملحوظ وبنَّاء، بدءًا من تسامحها مع زوجة أبيها وابنتيها،
فهي تدرك أن العالم يتغير وقد تنقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب، ومن هذا الإدراك يُستنبط كل ما هو جديد، وتأتي الأسئلة التشكيكية التي تهدف إلى بثِّ الزعزعة،
وهزِّ الثوابت؛ هل أحبت سندريلا الأمير؟ وهل خُلق الأمراء إلا لكي تقع الفتيات في حبهم؟! حتى جاء أسلوب السرد متسقًا مع الصورة السريعة وبراعة التكوين
للرؤية الفنية، فلم تعد سندريلا التي تخدم نفسها بل وخدمة الآخرين، فحينما انتقلت إلى قصر الملك الممتلئ بالخدم،
أرادت التغيير وتمنت رفضه معلنة ذلك، ولأنها عاشت وانغمست في وضع ظالم واعتادت الحياة على الهامش،
وأن تعيش على ما تبقى من طعام بنتي زوجة أبيها، لم تتحمل كمّ البذخ الكبير في إضاءة القصر، فقررت أن تسهم في التغيير فاستدعت
مشرف القصر لتطلب منه تخفيف الإضاءة، وهنا يعلو صوتها متسائلة: هل سيعجب الأمير بالأميرة المتقشفة؟ أم أن وزير الملك
سيحذره من نزعة اشتراكية بدأت تسري همهماتها بين الشعب، ومؤازرة شعبية للسندريلا تتخلق في الأمسيات بين الساهرين على المقاهي؟
ومن منطلق أن الثوابت أيضا نسبية وقابلة للتحول يتردد صوت السندريلا في إدراكها أن المساواة كلمة خادعة،
وأن المساواة القانونية ليست كافية لتحقيق العدالة، فكم تمنت أن يتحدد أجر للخادمات، ووجهت ملاحظاتها للأمير قائلة:
ماذا عمَّن ليس لديها عمل وتقوم برعاية والديها وأشقائها دون أن يكون لها أجر؟ وماذا عمَّن لا يعرفن كلمة ادخار لأن الرزق
الذي يأتي لا يُشبع الأفواه الجائعة؟ فاتخذت من السؤالين إعادة لصياغة تشكيل الواقع.
حقائق كثيرة لحقيقة واحدة
ما زالت تائهة داخل هذا العالم الكبير وما زال الصراع أيضًا قائمًا بينها وبين أصحاب القرار، وما زالت تشكك في ضمانات سلامة النتائج على الرغم من فوزها،
إذ توجه سؤالها مباشرة للوزير قائلة: هل وفرت حكومة جلالة الملك وسيلة نقل مناسبة لكل الفتيات.. كيف يتوقع وزيرنا الأكبر أن تحضر
الفتيات المقيمات في ضواحي المدينة وفي الأرياف.. أم تركهن يركبن الميكروباص أو التوكتوك؟ حتى أفصح الوزير عن غضبه قائلاً:
"سيدتي الأميرة المستقبلية.. الميكروباص والتوكتوك هذه الحشرات المعدنية لا تستطيع أن تقترب من العاصمة الجديدة"؛
وهذا هو الخيط الذي أرادت التقاطه: حتى خطوط النقل العام: الأتوبيسات، والميني باص، والمترو، لا تصل للعاصمة الجديدة.
قد تكون هناك حقائق كثيرة لحقيقة واحدة، هذا ما أدركته سندريلا، وفي الوقت الذي أرادت فيه الوصول إلى الحقيقة استعانت
بحكيم القصر ليخبرها أن: "الحقيقة غامضة وملتبسة"، ما زالت في حيرتها حيث الشك واللا يقين ماذا عمَّا نعرفه؟ عن رأينا في العالم..
في الأشياء؟ وكيف نعرف الصواب من الخطأ؟ فيُعلمها بإجابات تجعلها تدرك حقيقة أن الرأي هو أول عائق عليها تخطيه للوصول للحقيقة،
وأن الشيء يقيم من خلال تبعاته، وأن كل إجابة بعد ذلك قد تكون أيضًا نسبية، وتقود لمزيد من التساؤل، وأن السؤال يؤدي إلى المعرفة،
وإذا لم يكن هناك سؤال فلا تكون هناك معرفة، وحينئذ لا يحدث شيء تلقائيًّا.
الاسم وجود وهوية
من الهوية تتولد طاقة الحياة.. اسمي هو أنا، تاريخي، عمري، لغتي، شخصيتي، وعنواني، ومن هنا كان السؤال
"أنتَ تعرف كيف جئت. فهل تعرف لماذا؟" وتكون الحقيقة: "جئتِ كي تكوني أرضي، عصاي التي أتكئ عليها،
كي تمنحيني اسمًا"، فسندريلا هي الوحيدة من بين كل المدعوات التي سألت الأمير عن اسمه، استخدمته الذات حتى تبلور موقع الشخصية الخاص بها داخل منظومة الفعال.
الحلم والواقع
تأخذنا الكاتبة في الدرويشة لمتعة فنية متميزة، تطلق طاقاتها المتميزة لتتعمق العلاقة بينها وبين القارئ بتوظيف الحلم في السرد،
فللحلم حضور قوي وأهم ما يميزه هو الصدق، وجاء كاشفًا عن خبايا الواقع، وكان حين انفصلت الذات عن ذاتها،
فقد شكلت به الكاتبة عالمًا وقائعيًّا، انطلقت فيه من ترتيبها لحقائق معينة ذات مرتكزات نصية دلالية، وقد تعددت أنماطه
وأشكاله المختلفة حتى كشف التفاعل النصي لبنيته عن سلسلة أحداث خبرية وقائعية ترسم الكاتبة من خلالها صورة لواقع الحال.
أنا وأمي وأبي
أنا جميلة لأني أشبه أمي، وأنا كاتبة لأني أشبه أبي، وأمي وأبي، هكذا كان نوع من الترتيب الذي أعاد صياغة تكوين الذات داخليًّا وخارجيًّا،
وخاصة جمال الأم ذات الشعر المنسدل على كتفها اليمنى وهو الأمر الذي لا تتشكك الذات فيه، الأم التي لا تعرف الانكسار،
وقد تعلمت منها وضع وحدّ الحدود مع العالم. وأورثها الأب الحيرة والتيه، الأب الذي يهتم بطبقة المهمشين، لم يكن الأب موظفًا كبيرًا،
ارتدى هذا الأب صورًا متعددة للفلسفة، كان كل العالم، فجاء حطابًا.. قاطع أشجار، وكان قاطع طريق، يوقف العابرين ليسألهم عن الأنفاق
التي خلخلت خلايا النحل، والكباري التي غضَّنت من مدخل المدن، وكان راعيًا للأغنام، وكان عاملاً في القصر، وفي بعض الوقت كان
بوابًا للقصر يسمح ويمنع، عينٌ للداخل وعينٌ للخارج، هذه الرؤية الثنائية مكنت الأب أن يساعد الناس الواقفين بباب الملك على قضاء حوائجهم،
وكان أيضًا رسامًا في بلاط الملك، ارتدى الأب أيضًا أثوابًا عديدة، أحينانًا يكون شاعر بلاط، وأحيانًا لقمان الحكيم، يريد أن يقول كل شيء بالتورية،
والتحلية، والمباغتة، ظل قابضًا على القصر الكبير حتى بعد موت الملك، بقيت الروح وصمت الأب فظل يلتفت ويتألم ويَحِنُّ، وظلت الابنة كذلك تحن له.