الرواية السعودية (2): تراجيديون جدد ومآسٍ لا تنتهي في مدن الهزائم والجراح

profile
أحمد سراج مؤلف مسرحي وشاعر مصري
  • clock 18 يونيو 2021, 4:49:23 م
  • eye 3163
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

قراءة في رواية منابت العشق للروائي السعودي أحمد الدويحي

أربعة رفاق هم ناجي وسفر وفهد والراوي، يجوبون أربع مدن، الجراح من مدينة، والترياق في أخرى، يبدأ النص بتجمعهم للاستماع إلى عزف موسيقار كبير على الكمنجة في بيت "ناجي"  ثم يتحرك كل منهم صوب أقداره التي تجهز له الفرح والترح في آن؛ فلا تستقيم الحياة لأحدهما رغم ما يبدو من ظروف مواتية، ذلك أن كلا منهما يحمل كعب أخيل في ماضيه فيظل ينغص عليه حياته، ويظهر في الوقت غير الملائم تمامًا فيسقطه من على صهوة جواده.. ذلك بإيجاز لعله ليس مخلا ما تتناوله رواية "منابت العشق" للدويحي الصادرة دار الانتشار العربي.

أحمد الدويحي روائي وقاص ولد عام 1954م في قرية العسلة أعالي جبال السروات / منطقة الباحة / الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية.، من أعماله القصصية :(البديل) وهي أول ما نشر وكان ذلك عام 1986 ، و (قالت فجرها) ومن الروايات:(ريحانة) و(أواني الورد) و (الحدود) و)  ثلاثية المكتوب مرة أخرى) و (مدن الدخان) و (وحي الآخرة) و(غيوم امرأة استثنائية) و ( منابت العشق).

ناجي ابن عضو الإخوان المطرود من مصر أولا ومن السعودية ثانيا، والعاشق للموسيقى، والعائل المفترض لأسرة تتكون من أم عجوز وأخت في ميعة الصبا، يطارده نزق أبيه رغم انقطاع أخباره تقريبًا عنه، يعيش في كنف عائلة أمه العريقة، وتمنحه جرأة ورثها عن أبيه، وموهبة الموسيقى، وتفتُّح الدولة المؤقت؛ فيوفد لدراسة الموسيقى في القاهرة ثم يصير صحفيا مرموقًا، وزوجا لابنة قاض كبير.. وينجب من زوجته نوره بنتين؛ ليليان وعهود، ويبدو أنه ينطلق كالصاروخ ليصبح أحد نجوم العالم العربي.. لكن

سفر الصديق الثاني يلتحق بكلية الطب في القاهرة، ويختار له أبوه عيشة ابنة عمه زوجة، ويهبط معهما أم الدنيا بحجة الفحوصات الطبية، وبهدف أعمق وهو  ترتيب معيشة ابنه وزوجته، وتمر الحياة سعيدة وينجب الزوجان ابنة جميلة؛ جنين. ويتحرك في دراسته ليعود إلى بلاده بشهادة رفيعة في تخصص مرموق يدعمه ثراء أبيه.. لكن

في حادث عبثي يطلق ناجي النار على حماه وابنه؛ إذ يدخلان شقته لإحضار احتياجات لابنتيه وزوجته؛ فيفاجآن به نصف عارٍ وبجواره جيتاره؛ فيتسرع حموه بالظن أنه سكران؛ فيكسر الجيتار ويخرج ناجي مسدسه ويطلق عليهما النار وهو يتلوى من ألم المرض وإرهاق المسكنات التي لم تجد سوى تخديره تقريبا.. وهكذا يمتد خيط الأسى عن آخره فينفصل الزوجان، ويذهب ناجي إلى حرب الخليج ثم يعود إلى القاهرة وهناك يموت بمرض خبيثٍ، تاركا زوجة وثلاثة أبناء، يكون الثالث أحمد جنينًا لحظة الانفصال.

وفي مأساة أشبه بالنكتة السخيفة تقر عجوز جنوبية أنها ألقمت ثديها لسفر وعيشة ويكون الحكم هو التفريق بينهما؛ فيعاني فهد الأمرين، ويترك الطب ويهرب إلى الفن التشكيلي، لكن كل نهاية هي بداية جديدة؛ فيقرر فهد أن يخفف عن صديقه حين يعلم أنه ذاهب للبنان؛ فيطلب منه الوصول إلى أمه، وهناك يقابل سفر المهندسة ندى فيقعان في الحب ويتزوجان في الرياض.

فهد يتسلم موقعه كأمير، من أب كثير الزيجات، ويكون حظ فهد أن يأتي من الجارية اللبنانية التي لا تظل طويلا على ذمة أبيه فتذهب إلى لبنان، ويبقى فهد وأخته حصة في رغد العيش وأمامهما المستقبل الواسع بعمل فهد في التشريفات، وعمل حصة في احد البنوك ثم امتلاكها مشروعًا تعليميًّا ببخس الثمن.

الراوي الذي لا يفصح عن اسمه ويظل حياديا كالرمادي، لا يتورط في علاقة، ولا يقترب من الحياة إلا لينعزل، مكتفيا بألا يغادر الرياض، وأن يعمل قارئا لرسائل الصحيفة التي يحتل فيها ناجي مكانه المرموق، وحين تأتيه خديجة أخت ناجي مهيأة للقنص، لا يفعلها.. 

تتخلل النص الأحداث الكبرى التي قصمت ظهر العروبة وعلى رأسها احتلال العراق للكويت، وما جرى لمن يعيشون في عالمنا العربي جراء هذه الحماقة؛ فاليمنيون صار عليهم إيجاد كفيل لهم ليستمروا في السعودية؛ ردًّا على مساندة علي عبدالله صالح للغزو العراقي، وحين يذهب الراوي إلى اليمن يكتشف أن كل هذه العداوة غبار زائل تخفي تحتها محبة عربية وامتنان متبادل.

يتوغل النص إلى لحمة النظام الاجتماعي السعودي وما يعتوره من تغيرات لا تتوقف؛ بناء على التغيرات الضاغطة خارجًا، وعلى هشاشة الأنظمة السلطوية الفرعية؛ فعلى حين يجوب رجال الهية كل الشوارع، تشرب الخمور وتمارس (الموبقات) بتعبير الراوي، بل وتوجد مجلات الشواذ، والشواذ أنفسهم.. كل ما في الأمر أن هذه الأمور تدور في الخفاء.

لا يميل الكاتب إلى النهايات المحببة للقراء بل يكمل الطريق التراجيدي؛ فبطله الأوفر مساحة في الرواية، هو الأسوأ حظًّا بامتياز؛ فابنه الذي ولد ولم يره تتلقفه الجماعات الإرهابية وتظل تغذيه بالتطرف حتى يقبض عليه، وحين يخرج يمد له خاله يد المساعدة لكنه يخدعه وبدلا من أن يسافر لأداء العمرة يذهب للانضمام إلى المتطرفين في سوريا.

"المدن وكأنها الوجوه في خياله، فظهرت القاهرة بنيلها وصخبها وزحمة وشوارعها وديعة لينة شفافة في عيني عم سعيد، وظل قلقه وخوفه وهواجسه في مدينة أخرى، يعرف عنه ابنه سفر ذلك بانه مهما طال سفره والبعاد عنها ففكره فيها، فلا بد من عودة إليها.." ما أصعب أن تحب مدينة وتجبر على العيش في مدينة أخرى!  لكنها الحياة التي تدفع المرء إلى التكيف فلا يعود سفر إلى الرياض ليتزوج منها، بل يتزوج من بلد غير التي ولد فيه، وغير التي عاش وزوجتها فيها؛ فتكون لبنان، وتكون ندى.. وقريب من هذا ما فعله ناجي، لكن فهد يختار الانصياع ويتزوج ابنة رئيسه، ويترك أخته لأطماعها، وأطماع "خوية" البدوي الطامع.

ثمة مقارنات بين المدن العربية الواردة في الرواية؛ فالقاهرة رمز للتحرر، فيما تعيش مدن اليمن في فقر وخوف، أما بيروت في رمز للجمال، وتبقى الرياض مدينة تسبح على بحر من القبليات والعلاقات السائرة على نهج المدنية ظاهرًا؛ فصحفٌ وقضاء وسيارات حديثة، لكنها محكومة بقواعد صارمة تنتمي إلى العشائرية والعلاقات الأسرية أكثر من أي شيء آخر.

يختار الدويحي شكلا شعريا في سرد أحداثه؛ فهو لا ينتقل بشكل زمني، وإنما يتحرك في دون قاعدة، وهو في الوقت نفسه يقوم بقفزات زمنية حينًا مثلما جرى مع أحمد ناجي، فيما يحرك الزمن ببطء حينًا مثلما جرى في المشهد الافتتاحي، أو في ذهاب الراوي إلى اليمن أو سفر إلى بيروت، فهو يعتمد الهدف من استخدام الزمن في النص معيارا لعرضه.

الشخصيات النسائية في النص مثيرة للانتباه؛ فنوره المصرية وندى اللبنانية تحاولان التكيف مع المجتمع السعودي، فالأولى وإن أعطاها زوجها الحرية في كل شيء تعيش بقواعد المجتمع، والثانية يعجبها التنقل بين القصور، أما فتيات السعودية: خديجة وحصة فإنهما تندفعان بقوة، واحدة إلى التجربة والانطلاق، والثانية إلى بناء الأعمال واختيار الزوج وانتهاز الفرص.

تبقى سمة أصيلة في إبداع الدويحي أن نصوصه لا تجري في بلد واحدن، وإن حدث هذا كما في رواية غيوم امرأة استثنائية فإنه يستجلب ما يجري خارجًا ليصبح مؤثرًا وفاعلا بقوة وهيمنة فكأنه شديد الحضور رغم غيابه، ويرجع ذلك إلى خبرة الدويحي المعيشية بعدد كبير من البلاد العربية التي زارها، وانخرط في ثقافتها، ويرجع أيضًا إلى قيامه بدور مستمر في جمع الكتاب العرب، وربطهم بكتاب المملكة، سواء أكان هذا عبر صفحته على الفيس بوك أو مقالاته في عدد من كبريات الصحف السعودية.

هذه رواية جديرة بالدرس والقراءة فهي لا تقدم صورة نمطية عن المجتمع السعودي، وفي الوقت نفسه لا تقدم صورة غير واقعية، إن أربعين عامًا تقريبا من عمر المملكة وتطورها، يكمن في هذه الرواية صغيرة الحجم نسبيا فهي لا تتجاوز 190 صفحة، لكنها مليئة بشبكة من العلاقات والأحداث المعقدة؛ إنها أشبه بالسير في أرض صحراوية ممتلئة بالوهاد والنجاد، لا تستطيع سبر غورها إلا إن كنت ابنها، أو سرت فيها مرة بعد مرة.

التعليقات (0)