- ℃ 11 تركيا
- 23 ديسمبر 2024
الفوضى العائدة: هل يتجه النظام النووي العالمي نحو التفكك؟
الفوضى العائدة: هل يتجه النظام النووي العالمي نحو التفكك؟
- 12 أبريل 2023, 5:41:19 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يعد نزع السلاح النووي من أقدم وأهم أهداف الأمم المتحدة، ونص عليه القرار الأول للجمعية العامة عام 1946، الذي أنشأ لجنة الطاقة الذرية للسيطرة على الطاقة النووية والقضاء على الأسلحة الذرية. ولكن تثير حالة التسلح النووي اليوم، وامتلاك عدة بلدان آلاف الأسلحة النووية، الانتقادات تجاه فاعلية تلك المعاهدات، وتجاه مدى التقدم على طريق تحقيق تلك الأهداف، خاصةً أن عقيدة الردع النووي لا تزال عقيدة رئيسية في السياسات الأمنية للدول النووية وحلفائها. ومع ذلك أثارت الفترة الأخيرة المزيد من الشكوك؛ ليس فقط حول فاعلية النظام النووي العالمي، بل حول مستقبله، في ظل الحديث عن احتمالات تفككه، وخصوصاً بعد تعليق موسكو مشاركتها في معاهدة نيو ستارت.
مؤشرات التفكك
ثمة عدد من المؤشرات تدفع البعض نحو القلق على النظام النووي العالمي الحالي، وترفع من توقعات انهياره أو تفككه، ومنها:
1– الفشل المتراكم لمعاهدات وجهود منع الانتشار النووي: يواجه النظام النووي العالمي وجهود منع انتشار وحظر امتلاك الأسلحة النووية انتقادات مستمرة بسبب فشلها في تحقيق أهدافها، وعدم إحراز تقدم ملموس في مجال نزع السلاح النووي وعدم الانتشار النووي، ومدى الالتزام بأحكام وأهداف معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وفشل المؤتمرات الاستعراضية الأخيرة في تحقيق تقدم ملموس في تنفيذ أهداف المعاهدة، وعدم إزالة ترسانات الدول النووية، فضلاً عن استمرار مساعي بعض الدول لحيازة الأسلحة النووية دون ردع كاف؛ الأمر الذي دفع البعض إلى التحذير من تآكل الثقة بنظام معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، ومن أن يتحول فشل مؤتمرات استعراض المعاهدة إلى عادة مع التكرار، وتتحول إلى مؤتمرات روتينية لنظام قانوني غير قادر على تحقيق التقدم نحو أهدافه.
2– تركيز حلف الناتو وروسيا على الردع النووي: يبرر حلف الناتو وروسيا سياستهما النووية بردع الآخَر؛ ففيما استندت التوجهات النووية لحلف الناتو طوال العقود الماضية إلى تحقيق التوازن بين الردع النووي ونزع السلاح، فإن تركيز روسيا على البعد النووي في سياستها الخارجية والدفاعية وتأكيد أهميته بصفته عامل ردع، فضلاً عن تزايد ذكره في الخطابات السياسية والتلويح به، يزيد من صعوبات التوفيق بين احتياجات الردع النووي لحلف الناتو وتطلعات نزع السلاح النووي أو الحد منه؛ حيث تتزايد قناعة دول الحلف بأهمية الردع النووي لمواجهة أي تهديدات نووية محتملة، في ظل التغيرات الجذرية في البيئة الأمنية.
ومن الجهة المقابلة، تعتبر روسيا سياسة الدفاع الصاروخي الأمريكية أحد العوامل الدافعة وراء التحديث النووي الروسي؛ إذ شرعت موسكو خلال السنوات الماضية في تحديث منظومتها النووية، وبررت نشاطها في مجال التسلح النووي والصاروخي بأنه يهدف إلى تحييد جهود الدفاع الصاروخي الأمريكية، وأن روسيا لم يعد بإمكانها تجاهل الترسانة النووية المشتركة للولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، والتدريبات النووية المشتركة، واقتراب البنية التحتية النووية الغربية من حدود الاتحاد الروسي.
3– نقل التكنولوجيا النووية إلى أستراليا عبر أوكوس: مثَّلت صفقة الغواصات النووية ضمن تحالف AUKUS بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، أحد المؤشرات الهامة على التوجه نحو توسيع الانتشار النووي بدلاً من الحد منه؛ حيث تضمنت نقل أطنان من اليورانيوم العالي التخصيب المستخدم في صنع الأسلحة بدرجة نقاء تزيد عن 90% من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الحائزتين للأسلحة النووية إلى أستراليا غير النووية، وهو الأمر الذي انتقدته الصين، على سبيل المثال، معتبرةً أنه يعزز مخاطر الانتشار النووي، ويتنافى مع التزامات ومساعي التوجه نحو خفض التسلح النووي وحظر انتشاره بالسماح بنقل المواد والتكنولوجيا النووية إلى الحلفاء، في إطار تحالف مُعادٍ لبكين.
4– رفض الصين الانضمام إلى محادثات الحد من التسلح النووي: ثمة توسع صيني سريع وملحوظ فيما يتعلق بالقدرات الصاروخية والنووية وزيادة المخزون من الرؤوس الحربية النووية؛ حيث تتجاوز جهود التحديث النووي الصيني الحالية الجهود السابقة من حيث الحجم. وتعمل الصين على تحديث ترسانتها النووية؛ لمواكبة الولايات المتحدة وروسيا، وكجزء من منافستها الاستراتيجية مع الهند. وتتوقع وزارة الدفاع الأمريكية أن تصل الصين إلى مخزون قدره 1500 رأس حربي نووي بحلول عام 2035.
وزادت بكين إنتاجها من البلوتونيوم للاستخدامات المدنية، مع الاشتباه في تحويلها للأغراض العسكرية وبناء منشآت لإعادة معالجة الوقود النووي، فضلاً عن نشاط برنامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات (ICBM) والصواريخ الباليستية التي تُطلَق من الغواصات (SLBM) القادرة على حمل الرؤوس الحربية النووية. وسبق أن رفضت الصين عام 2020 دعوة أمريكية للاشتراك في محادثات الحد من الأسلحة النووية، التي نتج عنها معاهدة “نيو ستارت”، واشترطت خفض واشنطن ترسانتها إلى حجم ترسانة بكين الأصغر منها.
5– نشاط نووي وصاروخي متزايد في كوريا الشمالية: يثير التنامي المتسارع للنشاط النووي والصاروخي الكوري الشمالي القلق؛ فقد شهد عام 2022 زيادة كبيرة في أنشطة إطلاق صواريخ بيونج يانج، بما في ذلك إطلاق صواريخ باليستية ذات مدى عابر للقارات في الأشهر الأخيرة. وكشفت كوريا الشمالية عن رؤوس حربية نووية جديدة وأصغر، وتعهدت بإنتاج المزيد من المواد النووية الصالحة لصنع الأسلحة لتوسيع ترسانتها.
كما أفادت تقارير أمريكية، في مارس 2023، بأن صور الأقمار الصناعية تظهر مستوى عالياً من النشاط في “يونجبيون” الذي يعد الموقع النووي الرئيسي في كوريا الشمالية؛ حيث أشارت تلك التقارير إلى أن مفاعل المياه الخفيف التجريبي (ELWR) يقترب من الاكتمال والتشغيل مع بدء أعمال بناء جديدة لتخصيب اليورانيوم لتوسيع قدرات الموقع، في ظل توجيهات الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون بزيادة إنتاج البلاد من المواد الانشطارية؛ لتوسيع ترسانتها من الأسلحة النووية، كما قدَّر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، في تقريره لعام 2022، أن كوريا الشمالية جمعت ما يصل إلى 20 رأساً نووياً، وربما تمتلك مواد انشطارية كافية لنحو 45–55 جهازاً نووياً. وقد أقرَّت بيونج يانج العام الماضي قانوناً جديداً يُصرِّح بالاستخدام الوقائي للأسلحة النووية في مجموعة واسعة من المواقف حتى بشكل استباقي.
6– تقدم لافت للبرنامج النووي الإيراني: بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، استأنفت الأخيرة تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% في البداية وصولاً إلى نسبة 60%، فيما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في فبراير 2023، أنها عثرت في مفاعل فوردو النووي تحت الأرض في إيران على جزيئات من اليورانيوم خُصِّبت إلى درجة 83.7%، وهي درجة قريبة جداً من التخصيب اللازم لصناعة أسلحة نووية، فيما تؤكد وزارة الدفاع الأمريكية أن إيران أحرزت تقدماً لافتاً في برنامجها النووي منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في عام 2018، وبعدما كانت إيران تحتاج إلى 12 شهراً لإنتاج قنبلة نووية في 2018، أصبحت تحتاج 12 يوماً فقط.
توابع الحرب
أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى نتائج كبيرة ومؤثرة على حالة التسلح في العالم وعسكرة العلاقات الدولية، ولم يكن السلاح النووي استثناءً من تلك الحالة؛ وذلك على النحو التالي:
1– تصاعد مخاطر استخدام السلاح النووي في الحرب الأوكرانية: رفعت الحرب الأوكرانية بدرجة كبيرة من مخاطر استخدام السلاح النووي ومن مخاوف العديد من الخبراء والمؤسسات الدولية من بلوغ تلك المرحلة من التوتر الدولي؛ فعلى سبيل المثال، حذرت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والممثلة السامية لشؤون نزع السلاح إيزومي ناكاميتسو، من أن خطر استخدام سلاح نووي، عن قصد أو عن طريق الخطأ، هو الآن أعلى مما كان عليه في أي وقت منذ الحرب الباردة، مؤكدةً أن الزيادة في التلويح باستخدام السلاح النووي في سياق الحرب الأوكرانية بمنزلة تذكير بأن المخاطر النووية حقيقية للغاية.
2– تحفيز الحرب زيادة الإنفاق الدفاعي وسباقات التسلح: فاقمت الحرب في أوكرانيا من مخاطر تفكك الهيكل الدولي للحد من التسلح؛ ما قد يؤدي إلى سباق تسلح جديد. وحفَّزت الحرب تزايد معدلات الإنفاق الدفاعي في أوروبا بوجه خاص وفي العالم بوجه عام؛ حيث بات واضحاً أن العلاقات الدولية تتجه نحو المزيد من العسكرة. وتتجه معظم الدول نحو تحديث قواتها المسلحة وترساناتها العسكرية لضمان القدرة على مواجهة أي عدوان محتمل، ولتعزيز قدرات الدفاع عن النفس. وفي هذا الإطار، من الممكن أن يكون الردع النووي من مجالات سباق التسلح والإنفاق الدفاعي بالشكل الذي يدفع الدول النووية بعيداً عن توجهات الحد من التسلح النووي، فيما يحفز ذلك الدول غير النووية على امتلاك نصيبها من القدرات النووية الضامنة لتحقيق الردع.
3– تهديدات روسية باللجوء إلى الأسلحة النووية: عقب بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومع التعثرات المتتالية التي واجهتها تلك العملية، وعجز موسكو خلال ما يزيد على عام عن تحقيق أهدافها؛ تتصاعد بين الحين والآخر الأصوات القومية في المعسكر الروسي الداعية لضربات نووية تدعم القوات الروسية. وعلى سبيل المثال، دعا الزعيم الشيشاني رمضان قديروف، الكرملين إلى النظر ملياً في استخدام سلاح نووي تكتيكي في أوكرانيا رداً على الهزيمة التي مُنيت بها القوات الروسية في ليمان.
كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في فبراير الماضي، إن بلاده ستولي اهتماماً متزايداً لتعزيز قواتها النووية من خلال نشر صاروخ باليستي عابر للقارات تأخَّر نشره كثيراً، وصواريخ أسرع من الصوت، وغواصات نووية جديدة، فضلاً عن العديد من التصريحات الرسمية وغير الرسمية في روسيا التي دعت إلى استخدام السلاح النووي أو لوَّحت به. وقد نُظر إلى تلك التهديدات المتكررة على أنها تقوض نظام عدم الانتشار النووي بأكمله وحظر استخدام الأسلحة النووية.
4– تعليق روسيا مشاركتها في معاهدة “ستارت 3”: سبق أن أعلنت الولايات المتحدة في أغسطس 2019 انسحابها من معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، متهمةً روسيا بأنها خرقت تلك المعاهدة. وفيما نُظر إلى تمديد معاهدة “ستارت 3” المعنية بالحد من الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة وروسيا، عام 2021، على أنه اتجاه إيجابي لتقييد عدد الرؤوس النووية الاستراتيجية والصواريخ والقاذفات التي يمكن للبلدين نشرها؛ شهدت العلاقات بين البلدين توترات فيما يخص تنفيذ بنود المعاهدة، انتهت إلى تعليق روسيا في فبراير الماضي المشاركة فيها؛ وذلك في ظل اتهامات غربية لموسكو بأنها انتهكت التزاماتها بأحكام المعاهدة حتى قبل تعليق المشاركة بها، فيما أكد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أنه يجب على الغرب أن يغير منهجه تجاه المخاوف الأمنية لروسيا؛ حتى تستأنف موسكو مشاركتها في معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية والحد منها.
5– تعديل دستوري لاستضافة بيلاروسيا أسلحة نووية روسية: بعدما أرسلت بيلاروسيا أسلحتها النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي إلى روسيا عام 1996، بعد انضمامها إلى معاهدة حظر الأسلحة النووية عام 1993، فإنها تنحو مؤخراً نحو إلغاء وضعها دولة غير نووية، واستعادة قدراتها النووية. وفي هذا الصدد، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، في مارس 2023، أن بلاده ستنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا المجاورة، موضحاً أنه تم بالفعل إرسال عشر مقاتلات إلى مينسك تستطيع حمل أسلحة نووية تكتيكية، مؤكداً أن موسكو لن تنقل السيطرة على أسلحتها إلى مينسك، وهو الأمر الذي بات ممكناً بعدما وافق الناخبون في بيلاروسيا، خلال الاستفتاء الذي جرى في فبراير الماضي، على تعديلات دستورية تسمح باستضافة القوات الروسية والأسلحة النووية بشكل دائم.
6– احتياج كييف إلى تطوير الردع النووي بعد صدمة الحرب: كان جزء رئيسي من اتجاه أوكرانيا نحو نزع السلاح النووي والتخلي عن نصيبها من الترسانة النووية للاتحاد السوفييتي وانضمامها إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، مرتبطاً بالحصول على ضمانات أمنية من روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة باحترام سيادتها وحرمة حدودها والامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد أوكرانيا، فضلاً عن الثقة بالمظلة الأمنية الأمريكية، إلا أن الانتهاكات الروسية المتكررة لحدود وسيادة أوكرانيا، والاستيلاء على شبه جزيرة القرم عام 2014، والعملية العسكرية الخاصة عام 2022، حتى لو نجحت كييف في صد القوات الروسية، شكَّلت صدمةً لها ستترك تأثيرات عميقة من الممكن أن تدفعها نحو التفكير في الحاجة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية، ومنها قدرات الردع النووي.
فالحروب تعد من دوافع تعزيز القدرات الدفاعية وقوة الردع النووي؛ فكثيراً ما يرتبط الانتشار النووي بالهزائم والخسائر الفعلية أو المتصورة؛ فعلى سبيل المثال، أدركت المملكة المتحدة وفرنسا طموحاتهما النووية بعد فترة وجيزة من خسارة ممتلكاتهما الاستعمارية، وبدأت الصين تطور أسلحة ذرية عقب حربها الأهلية وتأسيس تايوان، فيما اتبعت الهند الخيار النووي بعد خسارة أراضيها في الاشتباكات الحدودية مع الصين، وفي ضوء التهديدات المتصورة من باكستان التي استقلت عنها، فيما جاء البرنامج النووي الباكستاني بدوره بعد استقلال بنجلاديش عن باكستان.
عدوى التسلح
تهدد مؤشرات تفكك النظام النووي العالمي وتداعيات الحرب الأوكرانية، حالة التسلح النووي في العالم، وتطرح احتمالات قائمة لما يمكن تسميتها “عدوى التسلح النووي”، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1– تفكير الدول العربية في الردع النووي تجاه دول الإقليم: في الوقت الذي تولي فيه المؤسسات الدولية ومؤتمرات الدول الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لمنطقة الشرق الأوسط أهمية خاصة من أجل جعلها منطقة خالية من الأسلحة النووية، فإن ذلك الأمر يواجه تحديات مستمرة قد تدفع بعض الدول العربية، في نهاية المطاف، إلى التفكير في التخلي عن تلك الطموحات، واعتماد نهج بديل للتسلح النووي لتحقيق الردع النووي المتبادل.
فقد فشلت حتى الآن الجهود الدولية لدفع إسرائيل نحو الانضمام إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، فيما تستمر إيران في برنامجها النووي الذي يثير المخاوف من نجاحها في الوصول إلى القدرات النووية العسكرية، في الوقت الذي تلتزم فيه الدول العربية بالمعاهدة وتُخضِع منشآتها النووية لنظام ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. علاوة على ذلك فإن ثمة حديث يثار عن تفكير تركيا في امتلاك أسلحة نووية.
2– تفكير حلفاء الولايات المتحدة في الردع النووي المستقل: دفعت المظلة الأمنية الأمريكية والردع الأمريكي حلفاء واشنطن في أوروبا وحلف الناتو ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، العديد من الدول إلى التخلي عن فكرة التسلح النووي والاكتفاء بالردع النووي الأمريكي، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، إلا أن خرق روسيا نظام الردع بحربها على أوكرانيا، وكذلك التوجه الأمريكي للانسحاب من بعض المناطق الجغرافية وتقليل أعباء الدفاع عنها، من المحتمل أن يدفع بعض الدول إلى التفكير في كيفية تحقيق أقصى قدر ممكن من الاستقلال الدفاعي دون الاعتماد على الحليف الأمريكي، وإلى تفسير إقدام موسكو على احتلال شبه جزيرة القرم والحرب على أوكرانيا بأنه استغلال لكونها دولة غير محتمية بالردع النووي، خاصةً مقابل التهديدات النووية الروسية. وقد بدأت الدول الأوروبية بالفعل تفكر في آليات تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية، وقدرات الردع.
3– خلق سباق تسلح نووي بين الخصوم الإقليميين: تخلق الطموحات النووية للدول مخاوف لدى دول الجوار والخصوم الإقليميين والدوليين، بما يدفعهم إلى السعي نحو امتلاك قدرات نووية رادعة؛ الأمر الذي يعزز سباقات التسلح النووي؛ فعلى سبيل المثال، يؤدي تفاقم الصراع الأمريكي الروسي إلى اهتمام الطرفين بتعزيز قدراتهما النووية بدرجة أكبر بدلاً من الحد من التسلح النووي.
والأمر ذاته ينطبق على الصين الساعية نحو دور عالمي كبير وزيادة استثماراتها الدفاعية وقدراتها النووية والصاروخية، وهو ما يمكن أن يدفع اليابان والهند إلى التفكير في آليات تحقيق الردع النووي تجاه الصين. وإذا ما شرعت الهند في استئناف تجاربها النووية فإن ذلك سيخلق سباقاً نووياً آخر مع باكستان، كما أن التجارب النووية والصاروخية الكورية الشمالية يمكن أن تدفع كوريا الجنوبية واليابان نحو السعي إلى تحقيق الردع النووي، سواء عن طريق الولايات المتحدة، أو بالاعتماد على القدرات الذاتية. ويمكن ملاحظة أن التنافس الإقليمي بين تلك الدول انعكس على حالة التنافس والتسابق بينها على تطوير الصواريخ، خاصةً الباليستية والقادرة على حمل رؤوس نووية.
4– تزايد التوجه نحو آليات المشاركة النووية بين الدول: تزداد احتمالية التوجه الدولي نحو خيار “المشاركة النووية” في تصاعد التوترات الإقليمية في بعض مناطق العالم، خاصةً في أوروبا وآسيا؛ بحيث تستضيف دولة أسلحة حلفائها النووية على أراضيها مع التدرب على استخدامها وتشغيلها. وبخلاف أطر المشاركة النووية داخل حلف الناتو، فإن التوترات في أوروبا قد تدفع الولايات المتحدة نحو التفكير في خيار المشاركة النووية مع دول أوروبية داخل وخارج الحلف. ومع توجهها نحو آسيا لاحتواء النفوذ الصيني، قد تلجأ إلى تنفيذ ذلك الخيار مع دول آسيوية لتحقيق الردع تجاه بكين.
وتبرز في هذا الإطار بعض الدول المرشحة لترتيبات المشاركة النووية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورا وأستراليا. وفيما نُظر إلى أستراليا على أنها المرشح الرئيسي الذي سيتم تجهيزه بأسلحة نووية أمريكية بموجب اتفاقية مشاركة نووية بعد الإعلان عن تحالف أوكوس؛ دعا رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي، في فبراير 2022، بلاده إلى التفكير في اتفاقية مشاركة نووية مع الولايات المتحدة والسعي إلى ذلك. بل تذهب بعض التقديرات إلى تفسير الدعوات المتزايدة في كوريا الجنوبية إلى تطوير ترسانتها النووية على أنها دعوات تهدف إلى الضغط على واشنطن لعرض اتفاقية للمشاركة النووية، فيما سعت روسيا أيضاً إلى تحقيق المشاركة النووية مع بعض الدول الحليفة، وبدأت ببيلاروسيا. ويدفع تزايد التفكير في آلية المشاركة النووية نحو التحذير من تأثيراتها السلبية على نظام عدم الانتشار النووي في العالم.
تحديث النظام
ختاماً: في حين لم تمنع معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية محاولات الانتشار النووي، ولم تنجح في القضاء على الأسلحة النووية وتصفية مخزونها لدى الدول الحائزة لها، فإن ذلك لا ينفي الحاجة إلى استمرار تلك المعاهدات، وزيادة الالتزامات القانونية للدول في المجال القانوني؛ فرغم الانتقادات الموجهة إلى تلك المعاهدات فإن الوضع بدونها كان من الممكن أن يصبح أكثر سوءاً، فيجب الحفاظ عليها مع تطويرها.
وبينما برزت آلية المعاهدات الثنائية للتنسيق والرقابة المتبادلة بين الولايات المتحدة وروسيا بوصفهما أكبر دولتين والقطبين النوويين الرئيسيين، وتم النظر إلى تلك الجهود الثنائية باعتبارها وسيلة فعالة للحيلولة دون خطر اندلاع حرب نووية بين القوتين العظمتين، وتقييد المنافسة النووية، وتعزيز نظام منع الانتشار النووي؛ بات واضحاً أهمية توسيع تلك المعاهدات التي لا زالت تتعامل مع العالم بمنظور ثنائي القطبية للتكيف مع التحولات العالمية نحو نظام دولي متعدد القطبية؛ ما يستدعي ضم الصين على الأقل إلى تلك الجهود. وعلى مستوى الرقابة يمكن الاستعانة بتقنيات المراقبة التي طورتها اليابان لمنع تحويل الاستخدام السلمي للطاقة النووية إلى تطوير الأسلحة النووية، بالإضافة إلى أهمية معالجة العلاقة المتزايدة بين القدرات النووية والمجالات الناشئة، مثل الفضاءين السيبراني والخارجي.