- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
المهدي مبروك يكتب: عندما انتقل اليسار التونسي إلى الديمقراطية
المهدي مبروك يكتب: عندما انتقل اليسار التونسي إلى الديمقراطية
- 31 يوليو 2023, 5:43:33 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
فجأة، ظهر اليسار التونسي، مباشرة بعد سقوط نظام بن علي، حارساً للديمقراطية وصيّاً عليها. حين غدت الديمقراطية "المطلب السياسي الأكثر جاذبية ومردودية"، ولو إلى حين، بدا اليسار المفتي الأعظم فيها، يوزّع الجنسية الديمقراطية وجوازات العبور إليها. وعلى الرغم من أنه يؤمن بشيوعية الفكرة والملكية، احتكر، بشكلٍ لا يخلو من عنف مادي رمزي، هذه الفكرة، سيّجها من دون وجه حقّ، وانتحل صفة الديمقراطي الأكبر في البلاد.
كيف حدث هذا، ولماذا نزع اليسار إلى هذا المنحى؟ حين كان في أوج عنفوانه الذي لم يخل من الفتوّة واستعراض القوة، على غرار جميع الفصائل السياسية في الجامعة التونسية آنذاك بما فيهم الإسلاميون، كان اليسار، في مختلف أدبياته، وما زال بعض منه، يعتبر الديمقراطية "خدعة" تلجأ إليها الطبقة البورجوازية لتعميق الملهاة وتزييف الوعي وصرف الطبقات الكادحة عن القضايا الحقيقية. لم تكتف الأدبيات الشيوعية بهذا التفسير لمعاداة الديمقراطية وكرهها، بل دعت إلى الدكتاتورية جهاراً نهاراً، وأجازت التنكيل الأكثر وحشية بخصومها، وهم يتوزّعون على قائمةٍ لا حصر لها، قابلة لأن تبتلع قسماً واسعاً من البشرية بأكملها، المتديّنون، البورجوازيون، التحريفيون، العملاء والخونة... إلخ. عادت الأحزاب الشيوعية وما زالت الديمقراطية، بما فيها التي تحكُم حالياً، وهي نحو ستة: الصيني واللاوسي (لاوس تقع في شبه جزيرة الهند الصينية) الكوري الشمالي والفيتنامي، وأخيراً الحزب الشيوعي في كوبا. كما انتقلت عدة أحزاب شيوعية، في أميركا اللاتينية وأوروبا (فرنسا، إيطاليا، اليونان،...) إلى اشتراكية، أو غيرها من صيغ تعديلية، من دون أن تُجري مراجعات فكرية عميقة في نقد الموقف من الديمقراطية والتأسيس لفكرتها داخل مرجعياتهم السياسية.
فوّت اليسار التونسي على نفسه، مثل غيره، فرصة القيام بمراجعات فكرية، مدارها الجدل الفلسفي والفكري العميق عن "نبتة" الديمقراطية
لم تبلور الأدبيات التي راكمها اليسار التونسي موقفاً من الديمقراطية. ولذلك أعطت الأولوية للنضال الوطني في شقّيه السياسي والاجتماعي، بمعنى استعادة السيادة على الثروة (ولو هزيلة) على حساب الديمقراطية. في سبيل ذلك، كان يُنظر إلى العنف في أشكاله التي تبدأ مع مشاعر الحقد الطبقي، وتنتهي إلى الإبادة الطبقية على غرار تجربة الخمير الحمر في كمبوديا. كانت هذه النماذج الشمولية والوحشية ملهمة لحركات عديدة في اليسار العربي، ولم ينج اليسار التونسي من غواية هذه النماذج المُثلى التي يقتدي بها، وكانت تيارات جامعية، تدعو إلى الالتزام الصارم بأدبيات الرفيق أنور خوجة، حين كان شعبُه يعاني عزلةً دوليةً لا نظير لها، مكتفياً بأجهزة الترانزيستور لمتابعة أخبار الكون. يعدّ هذا النظام، حسب منظمات حقوقية عالمية عديدة، من أشدّ الأنظمة دموية في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، كان هذا النظام الذي قاده الحزب الشيوعي هناك مثالاً حياً، يقتدي به رموز اليسار التونسي ومنظّروه في العشرية الأخيرة من القرن الفارط، فقد قضى الرجل على جل معارضيه، وعزل البلاد عن محيطها الخارجي، كما يحدُث حالياً في كوريا الشمالية. مع ذلك، كان نموذجاً للطهارة اليسارية والثبات على المبدأ الماركسي اللينيني، فقد اختلف خوجة مع الصين والاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا، على قاعدة التحريف من وجه نظره.
كان اليسار التونسي في جله، إلى حدود قيام الثورة، يراوح تقريباً في هذا المكان الأيديولوجي الثابت، أرض صلبة من التحجّر والانغلاق ضمن قلاع موهومة يتمترس وراءها الثوريون. منحت حرية التعبير (عندهم خدعة أيضاً) التي أهدتها الثورة للتونسيين جميعاً، لهؤلاء القدرة على الكلام والحضور المشهدي، ولكن اليسار فوّت على نفسه، مثل غيره، فرصة القيام بمراجعات فكرية، مدارها الجدل الفلسفي والفكري العميق عن "نبتة" الديمقراطية، وزرعها في تربة فكرية لم تألفها. ركب اليسار شجرة الديمقراطية، وانبرى ناسُه يرمون بحطبها كل من اقترب منها، مدّعين أنها شجرتهم المقدّسة التي لا لأحد غيرهم الحقّ في الدنوّ منها. ومع ذلك، علينا ألا نُنكر محاولات نادرة سعت إلى استدراك هذا الموقف المخيّب من الديمقراطية، رغم أنها لم تنتج أدبياتٍ ذات شأن، بل كانت مواقف سياسية براغماتية أملتها الصراعات السياسية الحادّة مع نظام بن علي تحديداً، على غرار أدبيات التجمّع الاشتراكي، في بداية التسعينيات التي قادها آنذاك نجيب الشابّي، مثلاً، رغم عسرها ومآلاتها اللاحقة.
يذهب بعضٌ من منظّري اليسار التونسي إلى التفتيش عن جينات الديمقراطية في دماء من خالفهم
مع مجيء بن علي رئيساً في 1987، تحوّلت رموز عديدة من اليسار التونسي إلى الحزب الذي أعاد تدويره بن علي نفسه، التجمّع الدستوري الديمقراطي، ومسكوا بهياكله المختلفة، حيث اشتغل جلهم منظّرين للحزب ومسؤولي التكوين السياسي به، من خلال أكاديميّته وصحفه، علاوة على مؤسّسات الإعلام الوطنية التي حوّلوها إلى بروباغندا دعائية، على غرار ما جرى في جل الأنظمة الشمولية التي قادتها الأحزاب الشيوعية (صحيفة برافدا السوفييتية مثلاً) .
في خضمّ معاركهم الأيديولوجية مع حركة النهضة (الإسلام السياسي)، نصّب هؤلاء أنفسهم سادة الديمقراطية وحرّاس معبدها وابتكروا معجماً خاصاً يوحي بمنح الجنسية الديمقراطية، وهي لا تُمنح على قاعدة الأرض، بل على قاعدة الدم. يذهب بعضٌ من منظّري اليسار التونسي إلى التفتيش عن جينات الديمقراطية في دماء من خالفهم. ولذلك أخرجوا من ملّتهم الديمقراطية الإسلاميين وكل من خالفهم.
لكي نفهم أسباب فشل تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، علينا ربما أن نبحث عن عدم الاقتناع بها وغربتها عن المرجعيات الفكرية لدى النخب التي شاركت في إدارة المرحلة الفارطة. ليس الانقلاب الظاهر على الديمقراطية سوى أحد تعبيرات غربة الديمقراطية في تجربة انتقالها. لا يبتعد القوميون أو الإسلاميون في تونس كثيراً عن موقف اليسار من الديمقراطية، رغم بعض التباينات المهمة. هذه فرضيات مهمة قد تشكّل مقدّمات ضرورية لفهم الإخفاق الديمقراطي الذي أصاب التونسيين جميعاً.