"النوارس"... امتزاج الواقعي بالأسطوري وشخصيات مغلوبة على أمرها

profile
  • clock 22 مارس 2021, 2:27:22 م
  • eye 1258
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تدور أحداثها في أحياء الاسكندرية الشعبية

بين أحياء بحري والسيالة والأنفوشي، أشهر المناطق الشعبية بالاسكندرية، تدور أحداث رواية "النوارس" أحدث أعمال الكاتب المصري محمد جبريل، وعبر جمل قصيرة متدفقة أشبه بدوامات البحر يصور جبريل حياة الناس اليومية، يمزج ما هو واقعي مرتبط بعالم البحر ورحلات الصيد، بما هو أسطوري غزلته حكايات الجنيات والعرائس التي تختطف المراكبية، وتغرق المراكب. كما يخلط هموم أبطاله اليومية، ونزواتهم النسائية، وشهوانيتهم، بتساميهم في الموالد وتعلقهم بساحات الذكر والأولياء الذي لا يحده حد.

وخلال أمواج السرد التي تمتزج بروائح البخور ودعوات المحتاجين، والمنكسرين في المساجد والأضرحة، والحارات يبسط جبريل أمام القارئ حياة شخصيات مغلوبة على أمرها مثل والدة مرعي رزة "الشخصية الرئيسية في الرواية"، التي أزعنت لرغبة ابنها، ورهنت بيتها من أجل تدبير تكاليف سفره إلى أيطاليا، ليعود بعد غربة يعلم الله مداها ليستعيده ويتزوج حبيبته ابنة رئيس الصيادين. ومثل تهامي غنيم، الصوفي المتعبد، الذي انغمس بكليته في صحبة أرباب الفرق والطرق، وما عاد لديه رغبة في النساء، ورضي بالعيش في فقر وصوم وتوكل على الله. كما تبرز شخصية المتوكل السروجي وحياته في البحر التي أتاحت له الكثير من الذكريات، والصداقات المؤقتة. يحكي المؤلف عن رحلات السروجي لأوروبا، والتي استمرت على مدى سنوات مضت، وعاد منها دون أن يحقق شيئا يضمن به مستقبله، ثم في النهاية يستحضره في مشهد مأساوي ليلقى مصيره، غرقا، مع صديقه رزة وآخرين، على مركب في عرض البحر، كسرتها الأمواج، وقد كانوا يأملون في حياة أفضل من حياتهم في "بحري" فضاعت كلها هدرا في البحر.

وفي مواجهة هؤلاء يقدم جبريل شخصيات أشبه بقراصنة البحر مثل الريس مغاوري وشوقي، ومقاولي الأنفار وتجار الهجرة غير الشرعية، ومعهم الأوسطى عبد الواحد حجاج والريس قباري الحصري الذي يفرض سيطرته مع غيره من شيوخ الصيادين على البحر، ويحدد أوقات الصيد، ويمنع الدخول إلى الشاطئ بدون تصريح.

ويطرح المؤلف بين هؤلاء وهؤلاء نماذج شخصيات مغلوبة على أمرها، ضاعت أو ضُيعت، مثل "منى" ابنة الريس قباري التي استسلمت لرغبة أبيها وقبلت أن يغامر خطيبها "مرعي رزة" بحياته في سبيل الزواج منها، فساقته إلى حتفه غرقا، وحٌرمت هي من العيش مع من تحب. وهناك "هنية" وهي فتاة لا عمل لها سوى الوقوف مع والدتها في كشك صغير على ناصية الحي، ومواعدة الشباب، تختار منهم كل يوم من ترضاه، حسب مزاجها، فصارت سيرتها على كل لسان، وهانت في أعين الجميع، بعد أن أدركوا انها تمنح نفسها لأي شخص يدفع الثمن. أما الشباب مرعي وتهامي والمتوكل، فلم يفلح في انقاذهم ولا انقاذ سواهم الشيخ عبد المجيد زيدان، وحفظي أبو السعد اللذين حاولا إثناءهم عن السفر، وراحا ينذرانهم بأن حياتهم مهددة، لكن كلماتهم لم تجد صدى أمام الطموحات التي اصطدمت بالأمواج العاتية وغرقت معهم.

وهكذا يقدم محمد جبريل حياة بشر يعرفهم، تابعهم وتابع أمثالهم على مدى 46 رواية و15 مجموعة قصصية، قدمها على مدى 47 عاما، وبدأها برواية "الأسوار" عام 1973 في هيئة الكتاب المصرية، أما روايته الأخيرة "النوارس" فقد طبعتها دار المفكر العربي للنشر والتوزيع، وخلالها راح يرصد أحلام الصيادين وانكسارتهم، ويتابع مشاعرهم في خوفهم من البحر، وغدر أمواجه، وفي أقبالهم عليه لأنهم يرونه الحل السحري للدخول في سعة من العيش.

وقد سيطر على الأحداث وأجوائها مرعي رزة والمتوكل وتهامي، وهم من شباب الصيادين، الذين أضرتهم قرارات منع الصيد، فقرروا ترك الحي بالكامل، وراحوا يبررون قرار سفرهم بالبحث عن الرزق بعيدا عن الصيد، ما دام هناك من يضيق عليهم حياتهم. لم تردعهم النصائح ولا التوسلات ولا حكايات الشيخ عبد المجيد زيدان عن العوالم السحرية في البحار، وكيف تتحول الأجساد إلى طعام لمخلوقاتها، والبشر إلى قرابين للجنيات ومخلوقات الأعماق.

ومنذ الصفحة الأولى في "النوارس" وحتى نهاية أحداثها، يمكن ملاحظة أن هناك خلطًا مقصودا بين الأماكن والأزمنة، يعتمده الكاتب، حيث يدمج بين الوقائع والأيام في الأسكندرية، وبين ما يُصاب به مرعي وزملاؤه في البحر أثناء رحلتهم الأخيرة.

وفيما يصف الراوي البلانس ويصور أهوال تكسره تحت ضربات الأمواج، يستدعي جلسات الشيخ عبد المجيد زيدان ونصائحه للمتوكل وتحذيره له بعدم السفر، وأحاديث مرعي رزة مع حبيبته منى، وسبحات تهامي غنيم الصوفية في الجنة ونعيمها وما ينتظره في رحابها على يد الحور العين. راح المؤلف يربط بين الواقع ومأساويته والخيال الشعبي والتصورات المتوارثة عن جنيات البحر وهيئتها المخيفة، وقد ظهرت بـ"شعرها الأشعث، المهوش، وأنيابها الحادة، وأظافرها الطويلة، المعقوفة وهي تنفذ بها في الصدر، وتغرسها في لحم الجسد، وتقتلع الشعر، وتلتهم الأذنين والأنف والشفتين وتخمش الوجوه وتشوهها".

ويتابع جبريل حركة شخصياته، من خلال مقاطع سردية مكثفة، تتدفق عبر مخيلة راو عليم، يعرف الشوارع والحارات والميادين، ومداخل البيوت ونقوشها وألوانها، وأمزجة سكانها، ويجعل الملابس التي يرتدونها رهينة بمشاعرهم، تضيق وتتسع حسب تحولاتهم النفسية، وقناعاتهم الفكرية، ولعل نموذج شخصية المتوكل أبلغ دليل على ذلك، حيث يتابعه المؤلف في تقلباته كفتوه يضع حزاما جلديا حول معصمه، ويسعى لإثارة المشكلات ويجري في طريقها، ثم يراقبه وهو يهيم في ساحات ومقامات الأولياء، مرتديا جلبابا أبيض قصيرا على رصيف البوصيري، ومولد أبي العباس، ثم يضعه الرواي في قلب مشهد متأزم، لم يفلح خلاله شيخه في إقناعه بعدم السفر، كان يرتدي الجينز وقميصا مشجرا. وحين تعطل البلانس بدا صامتا، تتلبسه مشاعر الهلع والخوف من الغرق بعد تسرب المياه إليه.

ويلفت الراوي النظر إلى أن البحر يكشف طبائع وشخصيات الناس الحقيقة، يقول من خلال عين "رزة" وهو يتجول بين وجوه ركاب البلانس "لم يكن هذا هو المتوكل الذي يعرفه، غابت الجرأة، والميل إلى المناكفة، حل عليه هدوء متوتر، يحركه الشرود، والصمت، وتقلص الملامح، والتلفت بين الأمواج العالية والجالسين في القارب هو مثل الجميع محاصر، وضعيف، لا يقوى على فعل شيء"، أما تهامي غنيم فبدا في حالة من السكينة، راح يتذكر الأوراد التي حفظها عن شيخه، ويهيئ نفسه لملاقاة الحور العين، فقد كان لديه حلم واحد وحيد ظل يلازمه طوال حياته وهو أن يتزوج بواحدة منهن في الجنة جزاء إخلاصه في العبادة وبعده عن النساء.

الملفت للنظر في استراتيجية السرد التي يعتمدها محمد جبريل، في روايته للأحداث، أنه لا يحكي قصص شخصياته دفعة واحدة، لا يقدمها في متون صلبة يسهل وضع عنوان لها، لكنه يقطرها نقطة نقطة عبر مقاطع الرواية، فلا عناوين هناك ولا فصول، وقد راح جبريل يفعل ذلك وهو يحكي قصة عشق مرعي رزة ومنى ابنة الشيخ قباري، منذ أن رآها لأول مرة في ناصية شارع السيالة، ولمحها تسير على رصيف شارع الحجاري، ثم صبره الطويل على ملاحظات أبيها وتحذيراته وتوبيخاته، وشتائمه أحيانًا، حتى مشهد وداعه لها دون أن يلمس كفها أو ينظر في عيونها، وأخيرا وفي لقطة مكثفة بالغة الرهافة يضبطه المتوكل وهو ينظر في مظروف ورقي صغير، وحين يسأله عما فيه، يداري ارتباكه ويقول "ظفرها تقصَّف باصطدامها في سور الكورنيش، شيء منها أصحبه معي".

يذكر أن محمد جبريل يعمل صحفيا، وكان مسؤولا عن الصفحة الثقافية بجريدة المساء القاهرية، وقد قدم للمكتبة العربية 46 رواية و15 مجموعة قصصية، و4 سير ذاتية، و16 دراسة ناقش خلالها الكثير من القضايا الابداعية والثقافية. أما الكتب التي دارت حول رواياته وقصصه فزادت على 15 مؤلفا و12 رسالة جامعية، وقد حصل حديثا على جائزة الدولة التقديرية للآدب عن جدارة، وهي جائزة غابت كثيرا عن إصابة أصحابها ومستحقيها.



كلمات دليلية
التعليقات (0)