-
℃ 11 تركيا
-
21 فبراير 2025
"بيغن السادات للدراسات": السابع من أكتوبر هو بداية المعركة فقط
"بيغن السادات للدراسات": السابع من أكتوبر هو بداية المعركة فقط
-
20 فبراير 2025, 3:36:00 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
إيرن أورطال - مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية
كان الجمهور الإسرائيلي، في أغلبيته العظمى، ينتظر إتمام صفقة استعادة الأسرى بفارغ الصبر، ويؤيد استكمالها. لكن في المقابل، برز رفض ملحوظ من شريحة غير قليلة، وبصورة خاصة من تيار اليمين السياسي، والتي ترى في الصفقة هزيمة لإسرائيل في الحرب، مشددةً على المخاطر التي تواجهها إسرائيل بعد الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين والانسحاب من غزة.
حالياً، يتركز النقاش العام على البعد القيَمي: هل نشدد على قيمة إنقاذ الأرواح وتحرير الأسرى، أم على قيمة الصمود الوطني الحازم وضمان الأمن المستقبلي؟ من الواضح أن وراء هذا النقاش القيمي تكمن أيضاً توجهات سياسية متعارضة. هناك أوساط في اليمين لم تخفِ رؤيتها، ومفادها بأن أهداف الحرب تشمل احتلال قطاع غزة وإعادة الاستيطان فيه، وحتى إسقاط حكم السلطة الفلسطينية في مناطق الضفة الغربية.
النقاش القيمي مهم بطبيعة الحال، والخلاف السياسي بشأن الرؤية الإسرائيلية ليس جديداً. ومع ذلك، فإلى جانب هذين النقاشَين، هناك بُعد آخر لم يحظَ بالاهتمام الكافي، في نظري. السؤال الأساسي الذي يؤطر هذا النقاش هو: ما هو دور حرب السابع من أكتوبر في الاستراتيجية الإسرائيلية؟
هناك مقاربتان استراتيجيتان محتملتان في هذا السياق:
مقاربة الحرب على "الإرهاب"
وفقاً لهذه المقاربة، أثبت هجوم "حماس" أن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، أو ما يُعرف بالحرب على أرض إسرائيل، لم ينتهِ. فمنذ هزيمتهم التاريخية في سنة 1948، تم دفع الفلسطينيين إلى تبنّي "الحرب الإرهابية"، بل إنهم مرّوا بموجة ثانية من التطرف، إذ تحول نضالهم من طابع قومي إلى طابع ديني. أثبت هجوم السابع من أكتوبر أن الانسحاب من المناطق لم يخفض وتيرة "الإرهاب"، بل بالعكس، لقد عزّزها إلى مستوى بات يشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل.
المحصلة المنطقية لهذا التحليل هي ضرورة استمرار السيطرة على قطاع غزة ومدن الضفة الغربية، لضمان حرية عمل الجيش الإسرائيلي في حربه ضد "الإرهاب". هذه الرؤية المبدئية تمتد أيضاً إلى الجنوب اللبناني وهضبة الجولان، والتي ترى أن الحرب ضد "الإرهاب" وحماية المواطنين لا يمكن تحقيقهما من خلال التمركز على الحدود فحسب، بل تستدعي توسّعاً إقليمياً لإسرائيل وإنشاء مناطق عازلة في لبنان وسورية، بالإضافة إلى غزة.
مقاربة الحرب الإيرانية - الإسرائيلية
وفقاً لهذا النهج، يُمثل هجوم السابع من أكتوبر لحظة استيقاظ الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه الحرب التي فرضتها عليها إيران. فبينما ركزت إسرائيل بشكل أساسي على التهديد النووي الإيراني، تأخرت في الإدراك أن الاستراتيجية الإيرانية تعتمد، وربما بشكل أكبر، على نهج حرب المحاور ضد إسرائيل.
وعلى الرغم من أن هذه الحرب نوقشت داخل المنظومة الأمنية الإسرائيلية أعواماً، فإن إسرائيل فشلت في بلورة استراتيجية مناسبة وأساليب قتال ملائمة لها في الوقت المناسب. لذلك، فإن حرب السابع من أكتوبر كانت نتيجة خلل مزدوج في الاستراتيجية الإسرائيلية، امتد على مدى عقود، وأدى إلى ثغرات كبيرة في الاستعداد لمواجهة هذا التهديد.
يكمن العنصر الأول في الخلل الاستراتيجي في الافتراض الخاطئ الذي ساد أعواماً، ومفاده بأن "الإرهاب" والانتفاضات الشعبية التي واجهتها إسرائيل في لبنان وغزة والضفة الغربية كانت مجرد الأنفاس الأخيرة لاحتضار الصراع الإسرائيلي - العربي. فعمليات السلام والتسويات، من جهة، وضعف الدول العربية والتوجه نحو المصالحة مع الدول الإقليمية المعتدلة من جهة أُخرى، أمور كلها ولّدت في إسرائيل إحساساً زائفاً بالأمان. لكن في الواقع، خلال تلك العقود، ملأت إيران الفراغ الذي نشأ، بالتدريج، في البداية، ثم بقوة متزايدة، فقامت بتوحيد القوى الراديكالية-الدينية في المنطقة ضمن مسار استراتيجي تصاعدي، بلغ ذروته في هجوم السابع من أكتوبر.
أمّا العنصر الثاني في الخلل الاستراتيجي فقد كان على المستوى العسكري، إذ قامت إسرائيل خلال تسعينيات القرن الماضي وعام الألفين، بتطوير نهج عسكري فريد، مبني على القدرات الاستخباراتية التكتيكية المتقدمة وتقنيات الضربات الدقيقة لمواجهة الجيوش المدرعة. لكن جرى توسيع استخدامها بشكل إبداعي لتشكيل عقيدة عسكرية غير مكتوبة لمحاربة "الإرهاب". باختصار، اعتمدت هذه العقيدة على مستويَين، تكتيكي، يرتبط بالتركيز على تحديد قيادات "الإرهاب" وبنيته التحتية واستهدافهما، وسياسي، يرتبط بفرض معادلة ردع على الدول التي تستضيف "الإرهاب"، عبر تهديدها بتكبُّد خسائر هائلة، ولا سيما من خلال الضربات الجوية، إذا لم تعمل على كبح النشاطات "الإرهابية" داخل أراضيها.
لكن خلف هذه الكفاءة التكتيكية المغرية، أخفت هذه الاستراتيجية فشلاً استراتيجياً، إذ تطورت التنظيمات "الإرهابية"، بالتدريج، إلى جيوش شبه نظامية، قادرة على شنّ هجمات مباشرة على الحدود الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى تقويض فعالية العقيدة العسكرية السابقة وجعلها غير كافية لمواجهة التهديدات المتصاعدة.
وفقاً للمدرسة الثانية للحرب الإيرانية-الإسرائيلية، تمثل الحرب الحالية مواجهة بين رؤية قتالية أعدّها "المحور" بعناية، وبين عقيدة عسكرية إسرائيلية قائمة على مكافحة "الإرهاب"، والتي نشأت في سياق "نهاية الحروب" التي سادت خلال العقود السابقة.
هذه المقاربة لم تكن ملائمة للتحدي المطروح. فالهجوم المفاجئ في السابع من أكتوبر، على الرغم من الثروة الاستخباراتية التي سبقته، فإنه يسلط الضوء على الخطأ في النهج الإسرائيلي، إذ اعتمدت إسرائيل على نظرة غير واقعية إلى الصراع، وهو ما جعلها غير مستعدة لمواجهة طبيعة الحرب الجديدة التي فرضها المحور الإيراني.
بطبيعة الحال، الواقع أكثر تعقيداً، فهاتان المقاربتان ليستا متناقضتين، أو أن إحداهما بديلة من الأُخرى. فالحرب الحالية تعكس استمرار الاتجاهات التاريخية للصراع بين الحركتين القوميتين في فلسطين، حيث تحولت إحداهما إلى حركة دينية راديكالية، وفي الوقت ذاته، تجسّد اتجاهاً تاريخياً جديداً نسبياً، يتمثل في الحرب التي تشنّها إيران ضد إسرائيل.
لكن لا يمكن للاستراتيجية الإسرائيلية الاكتفاء بمجرد الاعتراف بهذا التعقيد، بل عليها الحسم بشأن الاتجاه الذي يمثل التهديد الأكثر هيمنةً، من وجهة نظرها. لأن التداعيات العملية لكلٍّ من المقاربتين تتعارض بشكل جوهري، وهو ما يجعل تبنّيهما معاً مستحيلاً، من دون تناقُض في السياسات والاستراتيجيا العسكرية.
إن تحليل الحرب، من منظور الحرب الإيرانية - الإسرائيلية، يتيح التوصل إلى الاستنتاجات التالية:
يمكن فهم إنجازات الحرب وإخفاقاتها من خلال التوتر القائم بين مقاربة الحرب على "الإرهاب" والنظرية العسكرية الحربية.
إن إخفاق السابع من أكتوبر هو نتيجة قناعة عميقة ترسخت في المنظومة الإسرائيلية، مفادها بأن عمليات الردع في غزة وحملة "المعركة بين الحروب" في الشمال، يمكن أن تشكلا بديلاً من نهج حربي شامل، سواء على المستوى الدفاعي، أو الهجومي.
كان الاحتلال السريع ذو الخسائر المحدودة نسبياً لقطاع غزة ممكناً من الناحية المهنية، بفضل التوظيف الإبداعي والناجح لنموذج الحرب على "الإرهاب" في سياق حربي غير متوقع، لقد تم استغلال القدرات الاستخباراتية والهجمات الجوية بمهارة لتعويض نقص جاهزية القوات البرية لهذا السيناريو، إذ كان يُنظر إلى المناورة البرية على أنها جزء من "عصر الحروب التقليدية".
ومع ذلك، فإن امتداد الحرب على مدار خمسة عشر شهراً، وتأجيل دخول رفح إلى المرحلة الأخيرة، والفشل في تدمير شبكة أنفاق "المترو" التابعة لـ"حماس" بالكامل، إلى جانب حقيقة أن الحرب تحولت إلى معركة استنزاف بنيوية، إذ أصبح معدل ترميم قدرات "حماس" يفوق معدل تدميرها، أمور كلها تشير إلى أن توظيف تكتيكات مكافحة "الإرهاب" في سياق حربي واسع، من دون استراتيجية متكاملة، ليس كافياً لتحقيق الحسم المطلوب.
في لبنان، اكتفى الجيش الإسرائيلي، لمدة تقارب العام، بإدارة معادلات ردع رسمها العدو، إلى جانب تبنّي سياسة "صفر أهداف" على الحدود. هذه كانت سلسلة من النجاحات التكتيكية ضمن إطار "الحرب على الإرهاب"، ابتداءً من هجمات استخباراتية دقيقة واعتراض الاتصالات، وصولاً إلى عمليات اغتيال محددة الأهداف، الأمر الذي أدى إلى تغيير الوضع بحلول نهاية صيف 2024. هذه العمليات أعادت زمام المبادرة إلى إسرائيل، وأدخلت العدو في دوامة من الأخطاء التي أضعفت قوته العسكرية بشكل كبير.
ومع ذلك، فإن قرار إسرائيل بشأن عدم استغلال ضعف القدرات العسكرية لحزب الله من أجل شنّ هجوم حاسم يعكس غياب رؤية حربية متكاملة في استراتيجيتها. بدلاً من ذلك، اختارت إسرائيل الاكتفاء بتطهير البنية التحتية المادية في القرى الحدودية التي كان حزب الله أخلاها فعلاً، وحتى مع التميز الإسرائيلي في التكتيكات القتالية ضد "الإرهاب" والإنجازات الميدانية المهمة في الشمال، لم يكن هذا كافياً لتعويض غياب استراتيجية عسكرية حربية متماسكة، أو القدرة على فرض حسم نهائي في المواجهة.
تكشف المواجهة المباشرة، التي تطورت خلال الحرب في الدوائر البعيدة، عن فجوة مشابهة، لقد أظهر سلاح الجو الإسرائيلي قدرات استثنائية، مدعوماً بالمنظومة الاستخباراتية الإسرائيلية المتقدمة، فتمكن من الوصول إلى أهداف في إيران واليمن، وحتى اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية.
ومع ذلك، من الواضح أن الحرب اندلعت بينما كانت إسرائيل تفتقر إلى رؤية استراتيجية متكاملة ونهج عملي واضح. فعلى سبيل المثال، لم يكن للهجمات الإسرائيلية على الموانئ ومنشآت الطاقة في اليمن تأثير يُذكر في دوائر صُنع القرار لدى الحوثيين، ولم تؤدِّ إلى ردعهم، بل ربما ساهمت في تعزيز قوتهم ونفوذهم، وربما حتى عائداتهم المالية.
أمّا قرار إيران بشأن مهاجمة إسرائيل بشكل مباشر مرتين، فيمكن تفسيره بأنه استعراض للثقة بالنفس، والتي ازدادت بسبب حالة الجمود والارتباك التي ميزت إدارة الحرب حتى سبتمبر 2024. حتى بعد تدمير رادار S-300 الإيراني في أبريل، وسلسلة الضربات القاسية التي تلقاها حزب الله في سبتمبر، ظنت إيران أنها قادرة على ردع إسرائيل ومنعها من شنّ هجوم على لبنان خلال أكتوبر.
في الواقع، تجاوزت إيران استراتيجيتها التقليدية التي تقوم على إبقاء الحرب بعيدة عن أراضيها، عبر استغلال قوى الوكلاء، واتجهت إلى المواجهة المباشرة، وهو أمر لم يكن متوقعاً في الحسابات الإسرائيلية. في المقابل، كانت الاستراتيجية الإسرائيلية إزاء الهجمات التي انطلقت من العراق هي التجاهل التام، وهو ما يعكس غياب خطة واضحة للتعامل مع تصاعُد التهديدات من هذه الجبهة.
ما هو التقييم الاستراتيجي الحالي لإسرائيل؟ هل أدّت إنجازات الحرب، فضلاً عن سقوط نظام الأسد في سورية، وصعود إدارة ترامب في الولايات المتحدة، إلى إزالة تهديد استراتيجية "الخنق" الإيرانية من إسرائيل؟
إذا كانت الإجابة نعم، فقد يكون في الإمكان العودة إلى اعتبار التنظيمات "الإرهابية" المحيطة بإسرائيل مجرد بقايا ضعيفة ومعزولة من الصراع العربي - الإسرائيلي، ونظراً إلى أن هذه التنظيمات تكبدت خسائر فادحة خلال الحرب، فإن إسرائيل استعادت مكانتها كقوة قادرة على خوض حرب استنزاف طويلة ضد حركات "التمرد" في غزة ولبنان.
ستركز هذه الاستراتيجية في السنوات القادمة على إنشاء مناطق عازلة على طول الحدود، إلى جانب حرب استنزاف مستمرة في المناطق الحدودية، أمّا في غزة، فسيتم استئناف العمليات العسكرية في أقرب وقت ممكن لاستكمال أهداف الحرب، حسبما تم تحديدها مسبقاً.
لكن اعتبار إيران أن الحرب ضد إسرائيل انتهت، هو طرح متفائل للغاية. من الأدق التقدير أن إيران وحلفاءها سيأخذون فترة توقُّف استراتيجية لاستيعاب دروس الحرب، وتحسين قدراتهم، والتكيف مع الواقع الجديد، بما في ذلك سقوط النظام السوري، وانتظار انحسار تأثير إدارة ترامب. ومن الجدير بالذكر أن الإدارة الأميركية قد تضعف، فعلاً، خلال انتخابات منتصف الولاية، وهو ما قد يؤثر في توجهاتها وسياساتها الخارجية.
علاوةً على ذلك، إن التطورات في سورية قرّبت إلى حدود إسرائيل نفوذ القوة النيو-إمبريالية الأُخرى في المنطقة: تركيا. فهي أيضاً قوة إقليمية تتبنى الإسلام السياسي، لكن في نسخته السّنية، وتُبدي عداءً تجاه إسرائيل. من المتوقع أن تنافس إيران وتركيا بعضهما البعض، وربما يصل الأمر إلى احتكاك استراتيجي حقيقي بينهما، لكن من غير المستبعد أن تتراكم التهديدات التي تشكلها كلٌّ منهما تجاه إسرائيل، بدلاً من أن تلغي إحداهما الأُخرى.
يجب أن تنظر إسرائيل في تقييمها الاستراتيجي إلى حرب "السيوف الحديدية" على أنها المرحلة الأولى في المواجهة مع التحالف الشيعي. كذلك، تغيرت البيئة الاستراتيجية في إسرائيل بشكل جذري، وينبغي أن تأخذ في الاعتبار تهديداً مزدوجاً يتمثل في كلٍّ من إيران وتركيا. من المحتمل أن يكون الشرق الأوسط مجرد انعكاس للنيو - إمبريالية العالمية، في سياق ما يمكن تسميته بالحرب الباردة الثانية. وقد يؤدي الصراع المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين وروسيا إلى تأجيج التوترات في المنطقة، وليس بالضرورة بطريقة إيجابية، فقد يساهم في زعزعة استقرار التوازنات الإقليمية وتحفيز تحولات جيو استراتيجية غير متوقعة.
إذا تبنّينا هذا التصور للصورة الاستراتيجية، يمكننا الإقرار بإنجازات الحرب: تمكّنا من صدّ الهجوم، ونعمل على استعادة المناطق التي أُخليت وإعادة تأهيلها، واستعدنا أسرانا، وأيضاً زعزعنا ثقة العدو الإيراني بنفسه، وقوّضنا معظم القدرات العسكرية لحركة "حماس" وحزب الله على حدودنا. وفقاً للعقيدة العسكرية، فإن الهدف من الدفاع هو وقف المبادرة الهجومية للعدو، وكسب الوقت، وتهيئة الظروف للجولة المقبلة، وهي الهجوم.
لقد فاجأتنا حرب "السيوف الحديدية" لأنها اندلعت عندما كنا لا نزال نتصور أن المواجهة هي مجرد حرب ضد "الإرهاب"، في حين أن ما كان يُبنى خلف الحدود هو جيوش هجومية، بدعم من قوة إقليمية كبرى. تحولت الحرب إلى معركة استنزاف بنيوية، بسبب قصور في الجاهزية الفكرية والعملية، وهو ما أدى إلى الحد من إنجازاتها في كلٍّ من الجنوب والشمال.
ومع ذلك، بفضل الشجاعة، والقدرة على الصمود، والتماسك الإسرائيلي الأساسي، وكذلك بفضل الاستخدام الإبداعي لتكتيكات مكافحة "الإرهاب" ضمن سياق حربي أوسع، يمكن اعتبار هذه الحرب مرحلة دفاعية تاريخية ناجحة.
صوغ الاستراتيجية للمرحلة المقبلة
يجب على إسرائيل الحفاظ على إنجازات الحرب، بقدر الإمكان، من خلال فرض نزع السلاح والالتزام بالاتفاقيات في الشمال، وكذلك في الجنوب، عندما يتم التوصل إليها. إن فرض هذه الإجراءات لن يبطّئ فقط إعادة بناء التهديدات، بل سيوفر أيضاً مبرراً لتجديد العمليات العسكرية متى اختارت إسرائيل ذلك.
كلما نجحت إسرائيل في إبطاء تعاظُم قوة أعدائها - مع الإدراك التام أنه لا يمكن منع ذلك بالكامل - كلما زاد عزل إيران، وأجبرها على استثمار موارد أكبر وأثمن في إعادة بناء نفوذها الإقليمي.
إن فرض إجراءات صارمة وحازمة يخدم الاستراتيجية الإسرائيلية، إذا كنا نتعامل مع حرب تاريخية بين إيران وإسرائيل. لكن، يجب تجنُّب الانجرار إلى حرب استنزاف ضد حركات "التمرد" في غزة ولبنان، وربما حتى في سورية، إذ إن مثل هذه الحرب سيستنزف الطاقة الإسرائيلية، ويبطّئ عملية إعادة تأهيل الجيش الإسرائيلي وتطوير قدراته، ويمنح "محور المقاومة" زخماً متجدداً.
يجب استغلال فترة الهدوء الاستراتيجي والزخم الذي توفره الإدارة الأميركية الجديدة لإعادة إحياء الحملة المناهضة لإيران في المنطقة، وتشجيع القوى الإقليمية والغربية على دعم استئناف الحرب ضد الحوثيين في اليمن، بهدف إضعافهم وإسقاطهم.
خلال العام المقبل، أو العامين المقبلين، يجب على إسرائيل تطوير نظرية عسكرية وقدرات قتالية مناسبة للحرب الإيرانية - الإسرائيلية. بمعنى أدق، يجب على الجيش الإسرائيلي بناء قوة قادرة على إزالة التهديدات العسكرية في غزة ولبنان، من دون الانجرار إلى حرب استنزاف طويلة. لقد تمت مناقشة المتطلبات اللازمة لذلك في مناسبات عديدة سابقاً.
فيما يتعلق بالدوائر البعيدة، يجب أن تركز القوات الجوية والاستخبارات العسكرية والبحرية الإسرائيلية على تعطيل منظومات الإطلاق والهجمات الصاروخية المعادية، بالإضافة إلى القدرات السيبرانية والفضائية. إن استهداف منشآت الطاقة والبنية التحتية وحده لا يكفي، لأن ضرب قدرات الإطلاق سيترك إيران ووكلاءها مكشوفين وضعفاء.
من المبكر تحديد مدى تأثير التوغل التركي المتزايد في المنطقة، لكن من المرجح أن يكون بعض الاتجاهات المذكورة أعلاه ذا صلة أيضاً في هذا السياق.
لقد أخطأت إسرائيل عندما اعتبرت نفسها قوة إقليمية آمنة لا تهددها مخاطر وجودية، إذ كشف هجوم السابع من أكتوبر أنها ليست منيعة، ولا تملك قوة مطلقة. والاتجاه المعاكس الحالي الذي يرى في الحرب فرصة "يجب الاستفادة منها بلا قيود"، هو انعكاس للخطأ الأساسي نفسه. إسرائيل منخرطة في صراع طويل الأمد مع إيران، والاستنزاف الذاتي لا يشكل استراتيجية ناجحة في هذا السياق.
لطالما استندت العقيدة الأمنية الإسرائيلية إلى القوة الساحقة، وتجنّبت سباقات القدرة على التحمل الطويل. بغض النظر عن كيفية تعريف الوضع الاستراتيجي الحالي، يجب على إسرائيل صقل استراتيجيتها وتركيزها بعناية.







