- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
تحالفات متماسكة: أبعاد تأثير أزمة فاجنر على نفوذ موسكو في أمريكا اللاتينية
تحالفات متماسكة: أبعاد تأثير أزمة فاجنر على نفوذ موسكو في أمريكا اللاتينية
- 16 يوليو 2023, 4:44:07 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لتعزيز حضورها في أمريكا اللاتينية، اعتمدت روسيا على العديد من الأدوات، مثل عقد الاتفاقات ومذكرات التفاهم، وإيفاد كبار مسؤوليها لزيارة دول المنطقة، وتكثيف الاستثمارات في قطاع الطاقة والمعادن، وتصدير الأسلحة والمعدات العسكرية، بجانب إطلاق الحملات السيبرانية وحروب المعلومات. وكانت مجموعة فاجنر ركيزة أساسية لسياسة روسيا الخارجية، التي اعتمدت عليها لتحقيق عدد من أهدافها في أمريكا اللاتينية. مع ذلك، أثار تمرُّد المجموعة في يونيو 2023، بعض التساؤلات حول احتمالات تعرُّض نفوذ روسيا وحضورها في المنطقة للتهديد، ومدى إمكانية أن تعمل بعض القوى الأخرى، كالصين وإيران، على الاستفادة من هذا الوضع لتوسيع نطاق نفوذها هناك.
مهام محددة
ليس لمقاتلي فاجنر وجود كبير في منطقة أمريكا اللاتينية، وهم يتمركزون في الغالب في عدد محدود من دولها، كفنزويلا وكوبا ونيكاراجوا، ووظَّفتهم موسكو لتنفيذ مهام معينة في هذه الدول، ومن بين هذه المهام:
1- حماية النظم الحليفة: اعتمدت موسكو على مجموعة فاجنر لحماية بعض حلفائها في أمريكا اللاتينية، خاصةً نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا. في عام 2019، أشارت وكالة رويترز إلى أن مرتزقة فاجنر سافروا إلى كاراكاس لتعزيز أمن الرئيس نيكولاس مادورو في مواجهة التظاهرات المناهضة للحكومة الاشتراكية؛ وذلك عقب إعلان زعيم المعارضة الفنزويلية “خوان جوايدو”، تنصيب نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد؛ حيث حظي بدعم الولايات المتحدة وبعض البلدان الأخرى. وتقول العديد من التحقيقات التي أجرتها وسائل الإعلام المستقلة إن نحو 400 عضو في مجموعة فاجنر مسؤولون – من بين أنشطة أخرى – عن تصميم الدائرة الأمنية لنيكولاس مادورو مع عملاء كوبيين؛ إذ انخرط بعض عناصر المجموعة في تدريب وحدات قتالية فنزويلية لتوفير الحماية للرئيس مادورو، بالإضافة إلى مشاركتها في تدريب الميليشيات شبه العسكرية الموالية لمادورو بجانب الجماعات المسلحة الكولومبية في ولاية تاتشيرا الفنزويلية.
2- تأمين المصالح الاقتصادية الروسية: حتى الآن، ليست هناك أدلة موثوقة على تورط مقاتلي فاجنر في أمريكا اللاتينية، في تنفيذ مهام قتالية أو المشاركة في عمليات عسكرية كما هو الحال في أوكرانيا وسوريا وبعض البلدان الأفريقية؛ وذلك لأن أغلب دول المنطقة لا تُعاني من الصراعات المسلحة، سواء داخلها أو فيما بينها. ووفقاً لشركة الاستخبارات العسكرية البريطانية (Grey Dynamics)، تقوم مجموعة فاجنر بحماية مصافي النفط الروسية في فنزويلا، وتوفر الأمن للكيانات المحلية التابعة لشركة (Rosneft) عملاق النفط الحكومي الروسي. والجدير بالذكر أنه بين عامي 2010 و2019، ضخَّت الشركات الروسية المملوكة للدولة 9 مليارات دولار في اقتصاد فنزويلا التي تحتفظ بأكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في العالم، وهو ما عزز شركة النفط الفنزويلية المملوكة للدولة، وأدى إلى تخفيف تأثير العقوبات الأمريكية المفروضة على كاراكاس.
3- استغلال الموارد الطبيعية: مثلما لفاجنر تاريخ من المشاركة المباشرة في استخراج الثروات الطبيعية في بلدان أخرى، كتعدين الذهب في السودان، هناك مؤشرات على تورط المجموعة في أنشطة التعدين غير القانوني في فنزويلا، وهي قضية أثارها بعض أعضاء البرلمان البريطاني في عام 2022. وقالت حكومة المملكة المتحدة إنها تتابع عن كثب المعلومات حول وجود المرتزقة الروس في الدولة الواقعة في أمريكا اللاتينية وحول أنشطة “الشركات العسكرية الروسية الخاصة” في منطقة قوس التعدين في أورينوكو؛ حيث يجري تعدين الذهب غير القانوني، الذي ينطوي على انتهاكات لحقوق الإنسان وأضرار بيئية واجتماعية في البلاد. بالمثل، أفاد “أميريكو دي جرازيا” – وهو نائب فنزويلي معارض – بأن الحكومة الفنزويلية منحت في يناير 2020، روسيا إمكانية الوصول إلى مناجم الثوريوم الفنزويلية في قوس التعدين، الذي يتولى رجال فاجنر المسؤولية عن حمايته.
4- تعزيز النفوذ الإقليمي: كشفت وثائق أمريكية سرية مسربة عن وجود خطط لبعض ممثلي مرتزقة فاجنر للسفر سراً في فبراير الماضي لعقد اجتماعات مع حكومة هاييتي التي تعاني من حالة من الانفلات الأمني الخطير والفوضى السياسية العارمة، ومناقشة إمكانية إبرام عقود للمساعدة في محاربة عصابات مدججة بالسلاح تسيطر على العاصمة. ولا تنظر روسيا إلى هاييتي باعتبارها مكاناً لرجال الأعمال لاستخراج الذهب أو النفط، بل بصفتها نقطة استراتيجية محورية تقع على بعد 800 ميل فقط جنوب فلوريدا، وهو الأمر الذي يمكن أن يشكل تهديداً للأمن القومي الأمريكي. ومن المرجح أن ترحب حكومة هاييتي بعرض مرتزقة فاجنر، في ظل عزوف القوى الغربية عن التدخل لإنهاء حالة العنف الدموي الذي تفاقم بشكل خطير، منذ اغتيال الرئيس “جوفينيل مويس” في يوليو 2021.
تداعيات محتملة
يمكن أن يكون لتمرد فاجنر تأثيرات مرتقبة على حضور روسيا ونفوذها في أمريكا اللاتينية، من أبرزها:
1- الحفاظ على العلاقات مع الدول الشريكة: أعلن الرؤساء “نيكولاس مادورو” في فنزويلا، و”دياز كانيل” في كوبا، و”دانيال أورتيجا” في نيكاراجوا، دعمهم الرئيس الروسي “فيلاديمير بوتين”، في مواجهة تمرد فاجنر. وبالإضافة إلى إدانة “التهديد الإرهابي” لمجموعة المرتزقة، سارعت حكومة مادورو إلى إلقاء اللوم على الغرب وحمَّلته المسؤولية عن هذا التمرد. وفي 27 يونيو الماضي، استضاف وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو” وزير القوات المسلحة الثورية الكوبية الجنرال “ألفارو لوبيز ميرا”، فيما يبدو أنه أول اجتماع علني له مع مسؤول أجنبي بعد أن قاد يفجيني بريجوجين، تمرداً طالب خلاله بإقالته. وكان الاجتماع إشارة أخرى إلى العلاقة الوثيقة بين البلدين.
لا تشكل أيٌّ من ردود الفعل هذه مفاجأة كبيرة. كان من المتوقع أن يحظى بوتين بدعم قوي من قبل قادة هذه الدول، في ظل المصالح القوية والتحالف الاستراتيجي بين نظام بوتين والأنظمة الثلاث. وسبق أن نشرت روسيا معدات عسكرية وأنظمة الدفاع الجوي S-300 وقدمت مئات المستشارين العسكريين إلى فنزويلا، كما أرسلت روسيا قاذفات نووية من طراز Tupolev Tu-160 إلى فنزويلا ونيكاراجوا. وفي نيكاراجوا، أذن نظام أورتيجا لـ180–230 من القوات والطائرات والسفن والأسلحة الروسية بالعمل على أراضيها. وبالمثل، جرت تدريبات مشتركة للقوات الروسية مع قوات نيكاراجوا وفنزويلا.
يدل دعم قادة البلدان الثلاثة المعلن لبوتين على أنهم يواصلون النظر إلى روسيا بصفتها لاعباً رئيسياً في حملتهم المناهضة للهيمنة الأمريكية على أمريكا اللاتينية. في الواقع، ليس لدى روسيا أو القادة الثلاثة أي مصلحة في إنهاء هذه العلاقة. لكن العديد من الأسئلة لا تزال قائمة حول من سيقود مقاتلي فاجنر المتمركزين في هذه الدول، وإذا ما كانت موسكو ستستوعب هؤلاء المقاتلين في الجيش الروسي، وموقف حكومات فنزويلا وكوبا ونيكاراجوا إذا طلبت روسيا وقف تعاونها مع فاجنر.
2- تجنيد موسكو مقاتلين من أمريكا اللاتينية: أظهر التمرد الدراماتيكي الفاشل لمجموعة فاجنر بزعامة يفجيني بريجوجين، أن موسكو ربما تسعى إلى إيجاد بدائل لتقليل الاعتماد على مقاتليها؛ وذلك عبر تجنيد مقاتلين من أمريكا اللاتينية للمشاركة في حرب أوكرانيا. يدعم هذا التوجه التقرير الصادر مؤخراً عن منظمة “المدافعون عن السجناء”، التي تركز على حقوق الإنسان الكوبية، ومقرها مدريد، الذي كشف عن توقيع الحكومتين الكوبية والروسية اتفاقاً ترسل كوبا بموجبه جنوداً للانضمام إلى الحرب في أوكرانيا. ومن المرجح أن تحقق الحكومة الكوبية مكاسب اقتصادية، في ظل توقعات التقرير بأنها ستحصل على 75%–95% من الأموال التي ستدفعها روسيا للجنود الكوبيين. في الوقت نفسه، ستسهم هذه الصفقة في تقليل اعتماد الروس على مجموعة فاجنر التي أضحت تُشكل تهديداً لنظام بوتين.
وكشفت تصريحات “كارلوس سالازار كوتو” عضو الفريق العامل المعني بالمرتزقة التابع للمفوض السامي للأمم المتحدة، لصحيفة لا فانجارديا الإسبانية عن اهتمام روسيا بتجنيد مواطنين من أمريكا اللاتينية بالنظر إلى خبرة الكولومبيين والبيروفيين والمكسيكيين – على سبيل المثال – في محاربة الجماعات المسلحة في بلدانهم، مثل الدرب المضيء وتجار المخدرات. وترجع سهولة جذبهم أيضاً إلى معاناة الكثير منهم من البطالة.
3- توسيع نطاق التعاون اللاتيني مع الصين وإيران: على الرغم من دعم كوبا للرئيس الروسي عقب انتهاء تمرد فاجنر، فإن الساعات القليلة التي مرت حتى سحب يفجيني بريجوجين قواته، أثارت المخاوف لدى قادة النظام الشيوعي الكوبي بشأن احتمال انهيار النظام الروسي بقيادة بوتين؛ لذلك التزمت الحكومة الكوبية الصمت بشأن التمرد، ولم يصدر عنها أي تصريح رسمي حتى إعلان قوات فاجنر العدول عن خططها للزحف إلى العاصمة موسكو. وبعد إعلان قبول قائدها يفجيني بريجوجين وساطة بيلاروسيا لإنهاء محاولة التمرد المسلح، أكد الرئيس الكوبي أن الوحدة والنظام الدستوري سيسودان في روسيا.
يبدو أن المسؤولين في هافانا، كانوا يراجعون حساباتهم بحذر، خشية انتصار فاجنر في هذه المواجهة في نهاية المطاف، واعتقدوا أن التسرع في إدانة بريجوجين يمكن أن يُعقِّد التحالف المستقبلي معه. وفي ظل الصعوبات التي تواجهها موسكو في أوكرانيا والانقسامات الداخلية التي أبرزها تمرد فاجنر، فإن العديد من دول أمريكا اللاتينية، ستميل أكثر إلى النظر للصين وليس روسيا باعتبارها موازناً موثوقاً به للولايات المتحدة في المنطقة. بالمثل، يمكن أن يكون أن التمرد ضد الكرملين بمنزلة “جرس إنذار” لبعض دول المنطقة التي تعتمد أمنياً على موسكو بشكل رئيس، وربما يشكل أي تحول غير متوقع للأحداث محلياً في روسيا تهديدات محتملة للقادة اللاتينيين الذين أصبحوا يعتمدون على مقاتليها الأجانب للبقاء في السلطة، مثل أولئك الموجودين في فنزويلا. في ظل هذا الوضع، ربما يتجه هؤلاء القادة إلى توسيع نطاق شراكاتهم الأمنية مع دول أخرى، خاصة إيران.
4- زيادة الضغط الأمريكي على دول المنطقة: خلال زيارة وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” إلى أمريكا اللاتينية في أبريل 2023، أكد أنه “لا يمكننا أن نتفق على أن العالم يجب أن يستمر في العيش بشكل دائم وفقاً لهذه القواعد الأمريكية. التوترات تتصاعد على الساحة الدولية، ومحاولات الغرب لإملاء إرادته وتجاهل المواقف الشرعية للآخرين، لا تستمر فحسب، بل تتزايد”. بعد أيام قليلة من تمرد يونيو 2023، اتهم لافروف الغرب بممارسة “ضغط وقح” على دول في أمريكا اللاتينية للامتثال للتدابير المتخذة ضد روسيا بسبب حرب أوكرانيا. سلطت مجموعة من وثائق البنتاجون السرية المسربة الضوء على مخاوف الولايات المتحدة بشأن النفوذ المتزايد لروسيا في أمريكا اللاتينية؛ لذلك من المرجح أن تضغط واشنطن بدرجة أكبر على الحكومات في المنطقة لدعم أوكرانيا، والحد من شراكاتها الاقتصادية والعسكرية مع روسيا.
من جملة ما سبق يمكن القول إنه على الرغم من أن تمرد “مجموعة فاجنر” كان دراماتيكياً، وسلط الضوء على المشكلات الداخلية التي يواجهها بوتين، فمن المرجح أن تستمر موسكو في المضي قدماً في شراكاتها مع حلفائها الإقليميين، مثل كوبا ونيكاراجوا وفنزويلا، وستعمل في الوقت نفسه على تعزيز صلاتها ببعض البلدان التي فضَّلت البقاء على الحياد في حرب أوكرانيا، كالبرازيل وكولومبيا والمكسيك. وتنظر موسكو إلى بلدان أمريكا اللاتينية باعتبار أنها تشغل موقعاً استراتيجياً حيوياً بالقرب من الأراضي الأمريكية. وباستثناء حدوث انتكاسة كبيرة في ساحة المعركة في أوكرانيا أو تمرد ناجح ضد نظام بوتين، فإن روسيا، بجانب الصين والهند وإيران وتركيا، ستظل تُقدِّم لأمريكا اللاتينية خياراً مهماً لتوسيع هامش استقلاليتها وتقليل اعتمادها التقليدي على الولايات المتحدة وأوروبا. مع ذلك، سيظل المستقبل غامض بشأن وضع مقاتلي فاجنر في بعض بلدان أمريكا اللاتينية.