- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
توفيق رباحي يكتب: العلاقات الفرنسية الجزائرية وهذا القدر المشؤوم
توفيق رباحي يكتب: العلاقات الفرنسية الجزائرية وهذا القدر المشؤوم
- 30 مايو 2023, 4:18:42 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قدر العلاقات الجزائرية الفرنسية ألا تهدأ. وقدرها ألا تكون مثل علاقات أي بلدين جارين يفصلهما بحر هو في الحقيقة بحيرة. وقدرها ألا تكون طبيعية مثلما هي علاقات أيّ دولتين يجمعهما ماض استعماري كما هو حال بريطانيا والهند أو البرتغال والبرازيل أو إسبانيا والبيرو.
للحقيقة يجب القول إن علاقات فرنسا فاترة وغالبا متأزمة مع الكثير من مستعمراتها السابقة. طبيعة الاستعمار الفرنسي ودمويته قبل عشرات ومئات السنين تحكم بطريقة ما واقع حال العلاقات اليوم. لقد كان استعمارا بغضيا لا شفاء منه. وبما أن الاستعمار الفرنسي للجزائر كان من الأكثر عنفا ودموية، فمن الطبيعي أن تكون العلاقات بعد نهاية الاستعمار الأكثر تأزما ودائما على حافة الانهيار إذ لا يمر موسم أو عام دون أن تشهد هذه العلاقات رجّات شديدة تقضي بسهولة على ما يكون قد بُذل من مجهود لإصلاحها وتطبيعها.
آخر الفصول التي ستصب مزيدا من الزيت على نار العلاقات، ورقة للسفير الفرنسي السابق في الجزائر، زافييه دريانكور، ينصح فيها حكومة بلاده بالتخلي ولو من طرف واحد عن اتفاق 1968 الذي ينظم الهجرة بين الجزائر وفرنسا.
يوم 27 كانون الأول (ديسمبر) 1968 وقّعت الجزائر وفرنسا ما يُعرف اليوم بـ«الاتفاق الفرنسي الجزائري» الذي يُعتبر منعطفا رئيسيا في قضية الهجرة وتنظيم حركة الأفراد بين البلدين.
الاتفاق متعلق أكثر بالجزائريين ودخولهم إلى فرنسا واستقرارهم فيها وممارسة نشاطات مهنية أو تجارية. بنود الاتفاق، حتى بعد مراجعتها مرة أولى في كانون الأول (ديسمبر) 1985، وثانية في أيلول (سبتمبر) 1994 ثم ثالثة في تموز (يوليو) 2001، تمنح الجزائريين استثناءات وتسهيلات غير متاحة لشعوب الدول الأخرى في قضايا الهجرة والإقامة والزواج ولمِّ الشمل العائلي وكذلك ممارسة النشاطات التجارية والمهنية والطلابية داخل الأراضي الفرنسية.
لقد وجدت فرنسا آنذاك نفسها مضطرة للاتفاق، ليس حبا في الجزائريين، وإنما بسبب عمق التداخل الإنساني بين البلدين بالنظر إلى طول مدة وخصوصية الاستعمار الفرنسي الاستيطاني الذي أوجد فرنسيين متمسكين بالجزائر حدّ الدموع والدم، ومثلهم جزائريين في تمسكهم بفرنسا. هذه الطبيعة المختلفة لن تكفيها اتفاقات هجرة عادية كالتي تجمع بين أي دولتين أخريين، فكان اتفاق 1968.
يبقى أن الأرقام المتعلقة بالجزائريين الذين استفادوا من هجرة قانونية إلى فرنسا بموجب اتفاق 1968، غير معلومة بوضوح. ويبقى أيضا أن آلاف الجزائريين في فرنسا، ورغم وجود الاتفاق، يعيشون في وضع غير نظامي. حتى الذين يعيشون في وضع قانوني ويحتاجون إلى استقدام أو لمِّ شمل عائلي لهم نصيبهم من المشاكل التي تُمليها أوضاعهم.
يتميّز دريانكور بمعرفته للجزائر من وحي عمله فيها سفيرا خلال فترتين (بين 2008 و2012 ثم من 2017 إلى 2020). أيُّ سفير فرنسي في الجزائر يكون محل حظوة وتودد وحتى تملق من الجزائريين وعلى رأسهم كبار السياسيين والمثقفين ورجال الأعمال. أما إذا كان سفيرا نشطا فضوليا وكثير الحركة مثل دريانكور، فيستطيع بسهولة أن يمسك بمفاتيح جزائرية لا يحلم بها أي سفير أجنبي آخر.
مأساة العلاقات الفرنسية الجزائرية أن في البلدين توجد لوبيات تسترزق من العداء للآخر وترعى كراهتيه وتغذيها بكل ما تملك من نفوذ. وفي البلدين مجموعات تريد إبقاء غلبة هذا على ذاك وطوائف تُبطن غير ما تُعلن
هذا ما يجعل دريانكور استثنائيا ومختلفا عن سفراء فرنسا في الجزائر.
منذ مغادرته منصبه في 2020، تحرر دريانكور من قيود الوظيفة والانتساب للمسؤولية العليا، فأطلق العنان للسانه. في البداية ألَّف كتابا عن الجزائر عنوانه «اللغز الجزائري» الذي رغم أنه لم يتضمن أسرارا خطيرة إلا أنه كان كافيا لفضح نفاق كبير وانفصام يعانيه السياسيون الجزائريون في تملقهم لفرنسا وسعيهم الحثيث للبقاء قريبين منها. ثم بدأ بنشر مقالات وآراء أغلبها في صحيفة «لوفيغارو» اليمينية المناهضة تقليديا للجزائر ولدول الهجرة.
آخر حلقات «تحرر» دريانكور من قيود الوظيفة، هذه الورقة عن الهجرة التي قدّمها لمؤسسة بحثية فرنسية تسمى «فوندابول» ويقترح فيها على باريس التخلي من طرف واحد عن اتفاق 1968، أو تهديد الجزائر بتعليق العمل به.
يرى دريانكور أن الاتفاق تجاوزه الزمن بحكم التطور السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تعرفه فرنسا ووجود اتفاقية «شنغن» التي تجعل فرنسا خاضعة لمنظومة أوروبية في موضوع الهجرة، وتعدد بؤر تصدير الهجرة واللجوء عبر العالم وغير ذلك من الأسباب.
من حيث المظهر يبدو السفير السابق قد نطق بما يؤمن به ويجول في خاطره. في الظروف الطبيعية لا يمكن الاستمرار بالعمل باتفاق وُجد قبل 55 سنة في ظروف سياسية وإنسانية وإدارية مختلفة كليا عن ظروف اليوم.
لكن ماذا لو افترضنا أن الرجل ينطق باسم السلطات الفرنسية ويقول بصوت عال ما تقوله هي بصوت منخفض أو ما لا تستطيع أصلا قوله؟
وماذا لو أن دريانكور ينطق باسم لوبيات يمينية أيديولوجيتها كراهية الآخر والجزائر على وجه الخصوص بحكم علاقاتها العميقة والمعقّدة مع فرنسا؟ ولماذا التشديد على موضوع الهجرة بالذات دون غيره من القضايا الخلافية بين البلدين؟
من السهل أن يشم المرء رائحة حسابات انتخابية في مواقف السفير المتقاعد. من السهل أيضا البناء على تحليل أن السلطات الفرنسية تريد استعماله لسحب ورقة سياسية وانتخابية أساسية من اليمين واليمين المتطرف. ولا شيء يمنع من افتراض أن هذا اليمين يريد مضايقة الرئيس ماكرون وفريقه انتخابيا، والهجرة المغاربية، خصوصا الجزائرية، أفضل ورقة لمضايقة معسكره في الاقتراع الرئاسي المقبل.
مأساة العلاقات الفرنسية الجزائرية أن في البلدين توجد لوبيات تسترزق من العداء للآخر وترعى كراهتيه وتغذيها بكل ما تملك من نفوذ. وفي البلدين مجموعات تريد إبقاء غلبة هذا على ذاك وطوائف تُبطن غير ما تُعلن، فتجاهر بالعداء للآخر فوق السقوف لكنها تتصرف عكس ذلك تحت الطاولة.
لهذا لن تُشفى العلاقات الجزائرية الفرنسية من الماضي وجراحه، ومن الريع السياسي والمادي الذي تدرّه هذه الجراح. ولا أمل في تطبيع قوي قائم على أسس موضوعية صلبة وجريئة طالما بقي في البلدين أقوياء يرفضون التوقف عن توظيف هذا الماضي ورقة سياسية وعقائدية ومصدر كسب مادي.