- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
توفيق رباحي يكتب: انقلابات افريقيا «شر لا بد منه»!
توفيق رباحي يكتب: انقلابات افريقيا «شر لا بد منه»!
- 5 سبتمبر 2023, 3:36:16 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عادت الانقلابات العسكرية لتقضَّ مضاجع الحكام في افريقيا، وعاد معها ارتباك الغرب بين أن يُدين الانقلابات أو ينحني في انتظار مرورها ليستأنف جني غنائمه من ثروات الدول المعنية تحت حكم طغاة جدد ليسوا أفضل من الذين ذهبوا.
ستة انقلابات في أقل من ثلاث سنوات، إذا ما أضفنا السودان وتشاد للقائمة. قاسمُها المشترك أنها، باستثناء السودان، وقعت في مستعمرات فرنسية سابقة وأطاحت بأنظمة حكم عميلة لفرنسا على يد ضباط يزعمون أنهم أقل ولاءً للمستعمر السابق. حتى وإن لم يتأكد بعد أن فرنسا خسرت كل شيء في افريقيا، ما من شك أنها تتجه نحو خسارة الكثير.
الأسباب المعلنة للانقلابات تقليدية ومكررة، تتراوح بين اتهام الحاكم (المغضوب عليه) بالفشل السياسي والأمني والتنموي، وبالفساد وتفضيل العائلة على الوطن. ومع ذلك قد تبدو هذه الانقلابات للوهلة الأولى صادمة وجريئة. وفي هذا بعض الوجاهة لأسباب عدّة منها أنها تتابعت في زمن قياسي وجيز، وأيضا من حيث كون الظاهرة عادت بعد فترة غياب ساد خلالها بعض التفاؤل ببداية عهد جديد من الهدوء في قارة ابتُليت بالفقر والفساد والطغيان، بعد عقود من الاستعمار.
لكن بعيدا عن التبسيط، وبغض النظر عن الأسباب الداخلية الوجيهة، ليست هذه الانقلابات التي بدأت في مالي صيف 2020، مفاجأة كبرى إذا وُضعت في سياقها الجيو سياسي الطبيعي، وإذا نُظر إليها كجزء من تقلبات تجتاح العالم وتشجع على الاستيلاء على الحكم بأساليب غير ديمقراطية.
يتمثل هذا السياق في ما يشهده العالم، وبالخصوص الغرب، من تعثر سياسي وغموض وردَّة في الديمقراطية والحقوق والحريات. التطورات الداخلية التي تشهدها العديد من دول العالم، خصوصا في الغرب، هي أيضا نوع من الانقلابات. كثرة الفضائح السياسية والقضائية في الغرب وتمسك «أبطالها» بالكرسي كأن شيئا لم يحدث (بوريس جونسون في بريطانيا، برلسكوني في إيطاليا.. إلخ) لا يمكنها إلا أن تشجع الآخرين على فعل مثلها وأكثر.
عندما يرفض رئيس أمريكي نتائج الانتخابات ويُحرِّض أنصاره على احتلال مبنى «الكابيتول هيل» بالقوة وإراقة الدماء في أروقته يوم تسليم السلطة لخلفه، يجب أن نتوقع أسوأ من مجرد انقلابات عسكرية في افريقيا أو آسيا.
ما يشجّع الانقلابيين على المضي في انقلاباتهم، الثقة في أنهم سيجدون مَن يدعمهم داخليا، عن قناعة أو خوف أو انتهازية
وعندما يتعامل الغرب «الديمقراطي» بمكيالين فيتسامح مع الطغاة الأثرياء والمؤثرين ويجاملهم من أجل مصالحه، ثم يتشدد ويتوعد الطغاة الفقراء والهامشيين، يجب أن ننتظر أن يكتشف الآخرون هذا الأمر ويتصرفون وفقا لذلك.
لهذا لم يثمر تهديد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للانقلابيين الجدد في افريقيا أيّ نتيجة تُذكر، ولم يمنع مسلسل الانقلابات من المضي متنقلا من بلد إفريقي إلى آخر بسلاسة وسرعة. فالقاصي والداني يعرف أن التهديدات الغربية أصبحت مجرد موقف شكلي لحفظ ماء وجه القادة والحكومات، وأن العقوبات حتى وإن قُررت ونُفذت هناك أكثر من طريقة للالتفاف عليها، وأن الشركات الغربية هي أول من يتحايل عليها بينما يغض السياسيون وجهات الرقابة الطرف. والعالم مليء بالتجارب والدروس الحديثة في هذا الصدد.
وما يشجّع الانقلابيين على المضي في انقلاباتهم، الثقة في أنهم سيجدون مَن يدعمهم داخليا، عن قناعة أو خوف أو انتهازية. ولا غرابة في ذلك، فمثلما تثير الردَّة الديمقراطية ابتهاج فئات واسعة من الأوروبيين والأمريكيين، أصبحت الانقلابات العسكرية في افريقيا تثير سعادة الكثير من الافارقة فيخرجون للشوارع للتعبير عن فرحتهم بها وإعلان دعمهم لمنفذيها ولسان حالهم يقول إن الحاكم الجديد لن يكون أسوأ من الذي أُطيح به.
لنتأمل هذه الأمثلة: علي بانغو أونديمبا ووالده عمر حكما وحدهما الغابون أكثر 55 عاما! بول بيا (90 عاما) يحكم الكاميرون منذ خريف 1982. ثيودورو نغيما مباسوغو (81 عاما) يحكم غينيا الاستوائية منذ آب/أغسطس) 1979. دينيس ساسو نغيسو (80 عاما) حكم جمهورية الكونغو لفترتين مجموعهما 36 عاما، ولايزال في الحكم. يويري موسيفيني (79 عاما) يحكم أوغندا منذ كانون الثاني /يناير 1986.
هذه الأمثلة تعطي الانطباع بأننا أمام جيل من الحكام يقاوم الانقراض. وعدا عن طغيانهم وفسادهم، لم يتميز أحد من هؤلاء بجهود استثنائية لانتشال بلاده من التخلف والاستبداد.
كيف بعد هذا يُستغرب أن يخرج الناس إلى الشوارع للاحتفال بسقوط طاغية قضى أكثر من نصف عمره في الحكم وغالبا سيُورِّثه لأحد أبنائه؟
في بداية الألفية الحالية استبشر العالم خيرا بافريقيا وهلَّل ليقظتها من ظلامها، لكن سرعان ما تبين أن الحكام المدنيين الذين ابتهج بهم العالم وعاير بهم العرب، في استغلالهم للديمقراطية من أجل البقاء في الحكم، أصبحوا أسوأ من العسكر الانقلابيين. وإذا استمر هذا الحال، سيأتي يوم قريب يتآلف فيه العالم مع الانقلابات في افريقيا ويعتبرها ضرورة و«شرا لا بد منه» لولا أن مشكلتها أن الانقلابيين لا يقلُّون سوءا عن المُنقلب عليهم.
لا يمكن أيضا إغفال أن الأحداث الحالية في افريقيا هي أحد أوجه الصراع بين القوى العالمية الكبرى. فالعوامل الأمنية والاقتصادية التي يتحجج بها الانقلابيون لتبرير ما يقدمون عليه مجرد بهارات محلية لطبخة بأبعاد عالمية. ليس صدفة أن جميع الانقلابات تصب في صالح روسيا وبدرجة أقل الصين، وفي جميع الأحوال هي ضد المصالح الغربية، خصوصا فرنسا (مصدر أغلب الشرور في افريقيا) وليست بالضرورة خطرا على استقرار القارة كما يزعم القادة الأوروبيون.
تبقى مصيبة هذه الانقلابات أن لا أحد فائز فيها. حتى الذين ينفذونها، لأنهم مجرد مغفلين أجلسوا أنفسهم في غرفة انتظار الانقلاب المقبل وسلّموا رقابهم للسجن أو المقصلة مع وقف التنفيذ.