جلبير الأشقر يكتب: تأملات عسكرية في حروب العراق وسوريا وأوكرانيا

profile
  • clock 2 مارس 2022, 6:49:02 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

قبل يوم من قرار فلاديمير بوتين غزو كامل الأراضي الأوكرانية، نشرت مجلة «ذي أتلانتيك» الأمريكية مقابلة أجرتها مع الجنرال ديفيد بتريوس، الذي قاد إحدى فرق جيش الولايات المتحدة في غزوه للعراق في عام 2003، وكان آنذاك جنرالاً بنجمتين (لواء) ثم تولّى مسؤوليات متعاظمة وصولاً إلى قيادة كافة قوات الاحتلال في مرحلة «الطفرة» التي شهدت زيادة مؤقتة في عدد الجنود الأمريكيين بدءاً من عام 2007، وكان قد حصل بتريوس عندها على نجمته الرابعة. ثم غادر العراق في عام 2008 لتولّي مسؤوليات عسكرية أخرى، كانت آخرها قيادة القوات الأمريكية والحليفة في أفغانستان لمدة سنة قبل تقاعده من القوات المسلّحة في صيف عام 2011.
فبتريوس إذاً مخضرمٌ في إدارة الاحتلالات وكان خيار المجلة بإجراء مقابلة معه في شأن احتمال الاحتلال الروسي لأوكرانيا خياراً حكيماً بالتأكيد. سأله الصحافي الذي أجرى المقابلة: «حشدت روسيا قوات عسكرية حول أوكرانيا يبدو أن تعدادها 190.000. هذا لا يزيد كثيراً عن عدد قوات التحالف خلال الطفرة في العراق. لكنّ أوكرانيا بلد أكبر وشعبه أكثر عدداً. هل تستطيع روسيا السيطرة على كافة أراضي أوكرانيا؟»
طبعاً، للبلدين اليوم، العراق وأوكرانيا (بدون شبه جزيرة القرم التي ضمّتها روسيا) حجمٌ سكاني متساو تقريباً يناهز 40 مليوناً، لكنّ تعداد سكان العراق عند بدء الاجتياح قبل عشرين عاماً كان أقل بكثير من العدد الحالي، يزيد قليلاً عن 25 مليوناً. أما مساحة أوكرانيا فهي أيضاٌ تزيد عن مساحة العراق بنسبة النصف تقريباً. وتنضاف إلى هذه المعطيات جملة أمور تعقّد الحالة الأوكرانية بالمقارنة مع الحالة العراقية: منها أن نسبة سكان العراق الذين لم يكونوا مؤيدين للنظام ولا معادين للاحتلال أعلى بكثير من نسبة سكان أوكرانيا الذين ينطبق عليهم هذا الوصف، في ضوء ما كشفت عنه الحرب الدائرة حتى الآن؛ ومنها أن القوات المسلّحة الأوكرانية أقوى بكثير مما كانت عليه القوات العراقية إثر تدميرها في عام 1991 وبعد اثنتي عشرة سنة من حظر مطبق للأسلحة وقطع الغيار.
كل هذه الأمور تؤكد أن فلاديمير بوتين ارتكب خطأ جسيماً في الحساب أخطر بعد من خطأ إدارة جورج دبليو بوش التي أقنعت نفسها (وأقنعها من أرادت الاستماع إليه من العراقيين، وأولهم أحمد الجلبي) بأن الشعب العراقي سوف يستقبل قواتها بالورود. هذا ما حدا بوزير الدفاع الأمريكي آنذاك، دونالد رامسفلد، على الإصرار على اجتياح العراق بقوات لم يبلغ عددها سوى 125,000 بالرغم من تحذير جنرالات البنتاغون له بأن هذا العدد لن يكفي للسيطرة على العراق. وهذا ما عناه بتريوس في ردّه على الصحافي قائلاً:
«بصراحة، وصولنا إلى بغداد، بالرغم من أنه كان أصعب مما تصوّره الكثيرون عن بُعد، كان يسيراً إلى حد بعيد. لكن لمّا انهار النظام، لم تكن لدينا قوات كافية ولو بحد أدنى لمنع السرقات، ولم تكن لدينا لاحقاً قوات كافية للتصدّي للجماعات المسلّحة والمتطرّفة عندما زادت حدة العنف بصورة دراماتيكية في عام 2006 إلى أن وصلتنا قوات إضافية خلال الطفرة التي دامت 18 شهراً»…

إن الاجتياح الروسي قد أدّى إلى جعل أغنى الدول الأوروبية وأكثرها تقدماً في المجال الصناعي، وهي ألمانيا بالطبع، تنفكّ عن قاعدة عدم تسليم أسلحة نارية إلى قوى محاربة

ثم أضاف بتريوس في صدد الحديث عن قوات الطفرة المساوية للقوات الروسية التي جرى حشدها على تخوم أوكرانيا: «عددٌ من القوات يبلغ 190,000 يبدو كأنه كبير، لكنّ عمليات مكافحة التمرّد تستهلك الكثير من الجنود. فإذا نظرنا في الأفراد المنتشرين فعلاً على أرض المعركة والذين هم على استعداد لخوض عمليات مكافحة تمرّد تجري 24 ساعة في اليوم وسبعة أيام في الأسبوع، فإن العدد الفعلي يصبح أقل إثارة للرهبة بكثير ويصبح عدد القوات المنتشرة قليلاً جداً في أماكن انتشارها».
بقي فارق آخر وهو الأهم: لم يكن لصدّام حسين، لا في عام 1991 ولا في عام 2003، أي سند عسكري خارجي، فخاض الحربين بعزلة تامة بلا امدادات بالسلاح والعتاد. أما في حالة أوكرانيا، فقد تعهّدت دول حلف الناتو تزويد المقاومة الأوكرانية بكافة أنواع الدعم باستثناء التدخّل المباشر في القتال. حتى أن الاجتياح الروسي قد أدّى إلى جعل أغنى الدول الأوروبية وأكثرها تقدماً في المجال الصناعي، وهي ألمانيا بالطبع، تنفكّ عن القاعدة التي التزمتها منذ نشأة دولتها الجديدة على أنقاض الحكم النازي إثر الحرب العالمية الثانية، وهي قاعدة عدم تسليم أسلحة نارية إلى قوى محاربة.
التزاماً بهذه القاعدة، فإن الحاجة العسكرية الوحيدة التي كانت ألمانيا قد سلّمتها لأوكرانيا حتى الآن تمثّلت بشحنة من الخوذات، ما جعل بعض المعلّقين يسخرون سائلين برلين إن كانت تنوي تسليم أوكرانيا مخدّات في الدفعة القادمة! وها أن برلين قرّرت تزويد الأوكرانيين بالسلاح، بل بنوعي السلاح اللذين هم بأمسّ الحاجة إليهما في تصدّيهم للاجتياح الروسي، وهما النوعان اللذان تحتاج إليهما أي قوات شعبية في تصدّيها لجيش متفوّق عليها بالطيران والآليات: صواريخ محمولة على الكتف، منها ألف صاروخ حديث مضاد للمدرّعات وخمسمئة صاروخ مضاد للطيران من نوع ستينغر.
ويجدر بالذكر في هذا الصدد أن واشنطن فرضت حظراً على تسليم هذين الصنفين من السلاح لقوات المعارضة السورية. كان هذا بالرغم من أن تركيا، سند المعارضة السورية الرئيسي، هي ذاتها صانعة لصواريخ ستينغر تحت وكالة أمريكية، وقد واجهت من قِبَل واشنطن تحريماً صارماً لتسليمها، نزولاً عند رغبة الدولة الصهيونية التي اعترضت اعتراضاً شديداً على ذلك حيث رأت أن من شأنه أن يشكّل تهديداً لطيرانها.
ولو تسلّمت المعارضة السورية صواريخ أرض-جو منذ البدء لاستطاعت أن تحرم قوات النظام من احتكاره للأجواء، بما كان يمكن أن يغيّر مصير الحرب السورية بالكامل. وفي الحقيقة، لو أبدت واشنطن استعداداً لتسليم صواريخ مضادة للطيران للمعارضة السورية، لشكّل ذلك رادعاً قوياً أمام تدخل سلاح الجوّ الروسي في الحرب السورية بدءاً من خريف 2015.
يشير ما سبق إلى الفارق العظيم الذي يشكّله العامل الإسرائيلي بين سوريا من جهة، وأفغانستان وأوكرانيا من الجهة الأخرى، إذ سلّم الغرب صواريخ ستينغر للمجاهدين الأفغان في قتالهم ضد الاحتلال السوفييتي وهو يستعد لتسليمها للقوات الأوكرانية في قتالها ضد الاحتلال الروسي، بينما احترم الفيتو الصهيوني بعدم تسليمها للمعارضة السورية.

كاتب وأكاديمي من لبنان
 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)