- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
جواد بولس يكتب: هل ما زالت إسرائيل واحدة؟
جواد بولس يكتب: هل ما زالت إسرائيل واحدة؟
- 15 سبتمبر 2023, 12:40:35 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يعتبر البعض أن قرار قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية في الالتماسات المقدمة أمامهم ضد قانون إلغاء «حجة المعقولية» سيحسم مصير نظام الحكم في دولة إسرائيل وشكله؛ والقرار بهذا المعنى هو حدث تاريخي سيؤثر في حياة اليهود ومصيرهم. وقارن بعض المعقبين والمحللين بين الأحداث الجارية داخل المجتمعات اليهودية، في إسرائيل وفي العالم، وفترة الإعلان عن إقامة دولة إسرائيل عام 1948.
لقد تم بث مجريات المحكمة مباشرة عبر الفضائيات والإذاعات الإسرائيلية في تعبير واضح من قبل قضاة المحكمة عن أهمية الموضوع وضرورة عرضه مباشرة أمام الشعب على الملأ. من الصعب طبعا التكهن بالقرار الذي سيصدر قريبا، وعلى الأرجح فإن القضاة لن يجتمعوا، بسبب اختلافات مفاهيمهم الاجتماعية وخلفياتهم السياسية ومرجعياتهم الروحية والثقافية، على نتيجة ومخرجات واحدة.
كُتب وسيُكتب الكثير في الإعلام العبري عن مجريات المحكمة، كما شاهدها الجميع يوم الثلاثاء الفائت؛ وهي كما قلنا شكلت حدثا لافتا ومشهدا إسرائيليا مميزا، لكنه، رغم ذلك بقي مشهدا «خاصا»، بمعنى أنه يخصّ المجتمع اليهودي، ولا يعنينا، نحن الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل. فعلى الرغم من وجود قاض عربي واحد داخل هيئة المحكمة، القاضي خالد كبوب، وعددها خمسة عشر قاضيا، إلا أن روح التقاضي التي سادت في فضاء قاعة المحكمة، وطبيعة هواجس الأطراف، كما عُبّر عنها، دارت كلها في فلك «الدولة اليهودية»؛ ودار الخلاف بين المعسكرين حول أية يهودية ستتحكم في الدولة، تلك التي يسعى أقطاب الحكومة الجديدة إلى ترسيخها والعمل بهديها، أم تلك التقليدية التي صيغت هويتها في عروة الحكومات السابقة، وفي دهاليز المحكمة العليا ذاتها. وأشار بعض النقاد والمحللين إلى أن الصراع بين الرأيين يعكس في الواقع رغبة القوى اليمينية المتدينة الجديدة، تغليب دور اليهودية مع التركيز على البعد الديني للدولة، على دور الصهيونية التقليدية، وبعدها القومي، وهذا ما لن تسمح به مجموعة من القضاة، لكونه انقلابا على المفاهيم المؤسسة للدولة.
إسرائيل، التي نعتبرها وحدة عدائية واحدة، تعيش أزمة حقيقية متعددة الأوجه، إحداها هي الأزمة الدستورية، وأهمها حالة الصراع على طبيعة نظام الحكم وعلى مرجعياته
لقد وصلت أحوالنا، نحن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، إلى حالات عبثية مرهقة؛ وسنضيف إليها في هذه الأيام وضعنا إزاء ما يجري في هذه المحكمة، فبعضنا لا تهمّه المحكمة من أصلها، وبعضنا قد يعلق آمالا على قرار المحكمة المنتظر ويراهن أو يرغب، أن يزودنا القضاة بقارب نجاة وبدروع واقية كي تحمينا من مخططات هذه الحكومة أو غيرها من المقبلات التي سينتخبها شعب، تؤمن أكثريته الساحقة بأننا مواطنون غير مرغوب فينا داخل دولتهم اليهودية. من العبث، برأيي، أن نعوّل على قرار هذه المحكمة، وأن ننسى أنها هي المحكمة ذاتها التي أصدرت قبل عامين فقط قرارها بخصوص «قانون القومية»، الذي كتبت متنه الأساسي رئيستها في حينه والحالية، القاضية إستر حيوت. إنه القانون الذي توّج عملية جنوح المجتمع اليهودي نحو اليمينية المتعصبة والفاشية، وهي العملية التي ما كانت لتنجز لولا رعاية الجهاز القضائي الإسرائيلي لها وتسويغها من قبل محكمته العليا، بمبررات عنصرية أسهمت في تطوير فكر «الفوقية اليهودية»، وأفضت إلى إمكانية صرفها بأشكال عملية كما يطالب بها اليوم قادة الانقلاب على الجهاز القضائي، وفي طليعتهم المحكمة العليا نفسها. أنا شخصيا أشعر بالغضب الشديد على قضاة هذه المحكمة، وعلى رأسهم الرئيسة حيوت وزميلها القاضي يتسحاك عميت، الذين رفضوا مرارا وتكرارا الإصغاء إلى تحذيراتنا من أن حمايتهم المستمرة لسياسة الاضطهاد والقمع التي تمارسها حكومات إسرائيل في حق الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، وفي حقنا نحن المواطنين في إسرائيل. إن عدم إخضاعها لأحكام العدل ولحجة المعقولية وقيمة المساواة العرقية، ستفضي حتما إلى ممارسة السياسة نفسها داخل إسرائيل، إذ لا يمكن لأحد أن يوقف نيران العنصرية والقمع على عتبات بيوت العرب، فالنار ستصل حتى عتبات محكمتهم، كما يحصل في هذه الأيام. من المؤسف انهم لم يسمعونا، ومن المحزن أنهم لم يسمعوا زميلهم القاضي جورج قرّا الذي كان قراره في مسألة قانون القومية عبارة عن صوت واحد يصرخ في برية عشرة قضاة تصرفوا كحماة لمبدأ الفوقية اليهودية، التي كانت أمّ كل الموبقات التي مارستها حكومات إسرائيل المتعاقبة داخل الأراضي المحتلة وبحقنا داخل إسرائيل؛ واليوم تريد هذه الحكومة احتكارها وتطوير إنتاجها ومفعولها. لو كنت أستطيع لنصحت القضاة أن يعودوا إلى مراجعة ما كتبوا قبل عامين، حين أجازوا بقرارهم «قانون القومية»، ويقرأوا ما كتبوا وما كتب زميلهم القاضي جورج قرّا، حين استقرأ النتيجة الحتمية التي سيوصل اليها قانون القومية، وهي القضاء على القيم الديمقراطية الإسرائيلية، وتثبيت «الفوقية اليهودية» على ما سيعنيه ذلك حيال وجود المواطنين العرب في الدولة وحقوقهم. في حينه رفض القاضي جورج قرّا تبريرات زملائه العشرة، وأكد محذرا أن القانون سيؤدي عمليا إلى «إخضاع هوية الدولة الديمقراطية، التي في أساسها حقوق الإنسان وحقوق الأقليات، إلى هويتها اليهودية؛ أي خلق حالة من تفضيل القومية اليهودية وإكساب الهوية اليهودية للدولة صفة الفوقية على هويتها الديمقراطية، وهذا من خلال التغيير القانوني»؛ وأضاف قائلا، إن «المضمون الحقيقي لقانون القومية هو مضمون تمييزي وإقصائي ضد المواطنين غير اليهود، وجلّهم من المواطنين العرب. يخلق قانون القومية حالة تفضيل لقيم الدولة كدولة يهودية على قيمها كدولة ديمقراطية». قال جورج وصدق. لقد مضى عامان على ما كتبه القاضي ابن مدينة يافا، وما توقعه هو وجميع من عارضوا القانون، تحقق ببركة السيدة حيوت وزملائها الذين يحاولون اليوم إنقاذ مؤسستهم «وكرامة المواطن» على حد تعبيرها.
نحن في مأزق كبير ولا نعرف ماذا نعمل وكيف يجب أن نتصرف؛ فوضعنا القانوني داخل إسرائيل يزداد تعقيدا، ومكانتنا كمواطنين محميين جزئيا بمظلة مواطنية، تتراجع وتفقد معظم دروعها وكوابحها الحامية. تتصرف الأغلبية بيننا وفق حكمة أجدادنا الذين روضتهم، عبر مئات السنين، سياط الحكام الأجانب وقصص «أيام السفربلك» وأهازيج «حيّد عن الجيشي يا غبيشي»، وصاروا يكتفون بالعيش بعقيدة «امشي الحيط الحيط وقول يا ربي السترة» أو «نفسي وبعدها الطوفان». أما الآخرون فقد فقدوا الثقة بمؤسسات الدولة ويتهمون إسرائيل كمسؤولة عن جميع مصائبنا، ولا يهتدون ولا يهدون شعبهم إلى البدائل الكفيلة لحماية مجتمعاتنا من سطوة الحكومة وأذرعها، أو من تفشي الجريمة والرذيلة في مواقعنا، أو من سقوط حامياتنا الأخلاقية وحواضنها الاجتماعية والسياسية وغيرها. لن يأتينا الفرج من المحكمة العليا الإسرائيلية؛ لكنني اتمنى ألا تسحقها القوى الظلامية والميليشيات العنصرية والكتائب الفاشية. فنحن على أعتاب حقبة خطيرة للغاية أتوقع أن نشهد فيها جملة تصعيدات على عدة جبهات؛ فالأوضاع في الأراضي المحتلة على حافة الانفجار والأيام المقبلة حبلى باليأس وبالديناميت. إن ازدياد منسوب الجريمة والعنف بيننا في تصاعد حتى بتنا نواجه حالة من «حلة الحكم» والعيش بحالة من الخوف وفقدان مشاعر الأمن الشخصي والمجتمعي. وتتراجع أوضاع المجالس البلدية والمحلية بوتيرة متسارعة، حتى باتت مؤسسة الحكم المحلي كلها تواجه خطرا على وجودها وخللا جوهريا في إمكانيات تأدية مهامها وواجباتها في حماية وخدمة مواطنيها. أما الأحزاب السياسية التقليدية فدخلت إلى غرف الإنعاش ولا أمل في أن تخرج منها سالمة، ومثلها تعاني معظم مؤسساتنا السياسية والمدنية القيادية؛ وأخيرا أتوقع أننا سنشهد حملة من ملاحقة القطاعات المنتجة للفكر وللتعليم والاقتصاد داخل مجتمعاتنا، فلن يكون المعلم أو الموظف محصنا من ملاحقة «الأخ الأكبر» أو عيون السلطان، أما الشركات العربية الكبيرة فلن تُترك لتعمل كمملكات عربية مستقلة، إذ يجب إخضاعها للسيد اليهودي. باختصار سوف نواجه حالة سنطالب فيها أن نقبل العيش تحت مظلة وعصا يهوديتين ترفعهما حكومة تؤمن بفوقية يهودية ربانية، أو إذا رفضنا فإننا سنعاقب. فهل في هذه الحالة سيكفي أن نقول ونردد في كل مناسبة وبعد كل مصيبة «نحمل إسرائيل المسؤولية»؟ هل هذا كاف؟ وهل هذا الشعار لوحده في المشهد الإسرائيلي الحالي صحيح؟ هل إسرائيل اليوم هي فعلا واحدة؟ ألا يتوجب علينا أن نفتش عن إسرائيل الأخرى؟ أو ربما علينا أن نوجدها مهما كانت المهمة صعبة، أو حتى قريبة من المستحيلة.
لن يأتينا الفرج من المحكمة العليا؛ ولا يبدو أن مصيرنا، كمواطنين وأصحاب أرض يشغل، لغاية الآن، بال معظم المتظاهرين ضد حكومة نتنياهو وحلفائه، وعلى الرغم من ذلك لا يجوز لنا ألا نفرق بين المعسكرات الإسرائيلية وأطيافها الواضحة؛ فإسرائيل، التي نعتبرها وحدة عدائية واحدة، تعيش أزمة حقيقية متعددة الأوجه، إحداها هي الأزمة الدستورية، وأهمها حالة الصراع على طبيعة نظام الحكم وعلى مرجعياته، فهل هي التوراة أم وثيقة الاستقلال مثلا؟ والصراع على قيم الدولة الاجتماعية والأخلاقية الأساسية، هل هي الفوقية اليهودية، أم ضرورة تحقيق مساواة المواطنين العرب؟ والصراع على قدسية الخدمة العسكرية في ظل استمرار الاحتلال واضطهاد شعب آخر، هل ستواصل قطاعات يهودية متدينة واسعة، الامتناع عن تأدية تلك الخدمة، أو هل ستستمر الشرائح التي تخدم في جيش الاحتلال تأدية خدمتها؟ إنها في الواقع أكثر من إسرائيل حتى لو ظهرت ضدنا كأنها إسرائيل واحدة..
كاتب فلسطيني