- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
حسن مدبولي يكتب : معالم القهر
حسن مدبولي يكتب : معالم القهر
- 17 يونيو 2021, 4:32:48 ص
- 2541
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يا دنشواي على رباك سلام !
ذهبت بأنس ربوعك الأيام !
كيف الأرامل فيك بعد رجالها ؟
وبأي حال أصبح الأيتام ؟
حكمت المحكمة بإعدام إمام القرية حسن على محفوظ ، لانه تجرأ وحاول منع ( أسياده ) الإنجليز من قتل وسحق وإهدار كرامة المصريين الغلابة بقرية دنشواى في 13 يونيو 1906 وتم تنفيذ الحكم بعد ذلك فيه وفى ثلاثة آخرين من رفاقه ؟
الغريب أن لا أحد يذكر ذلك الشهيد بلقبه كإمام وخطيب لمسجد قرية دنشواى، كما لم يتوقف التاريخ كثيرا عند شجاعته النادرة ووقفته الشامخة وصموده الإعجازى وهو يواجه من يطلقون النار عليه وعلى أهل قريته العزل المسالمين، وإستقباله الحكم بالإعدام والأمر بتنفيذه، بلا تراجع او ندم أو تذلل و بإيمان كبير وثقة تامة فى عدل مولاه ؟
حتى أم صابر الفلاحة البسيطة التى لقيت ربها متأثرة برصاص القتلة ،لم تأخذ مكانتها الطبيعية فى الذاكرة المصرية،خصوصا وهى زوجة مؤذن المسجد محمد عبد النبى صاحب الجرن المحترق الذى تم الحكم عليه هو الآخر بالسجن المؤبد؟ بينما زوجته قتيلة، وهى المجنى عليها والسبب الرئيسى فى ردة فعل الناس وبداية تلك الأحداث المأساوية ؟
ولقد أخفى البعض الدور الرئيسى الذى لعبه الشهيد حسن على محفوظ، والمرحوم المؤذن محمد عبد النبى فى تلك القضية الوطنية،وجعلوهما مجرد رقمين ضمن المغدور بهم ،وكإن إمامة المسجد أو العمل به يمثل عارا قوميا يشين أصحابه؟ أو كإن هناك من يسوءه ذكر دور وطنى مشرف لإئمة المساجد ورجال الدين الإسلامى ؟
مع إنه يفترض لأى نخبة تحترم شعبها أن ترى فى الحكم بإعدام شيخ مجاهد على يد قتلة مجرمين، يعتبر أمرا جللا يستحق الإستنفار ويثير الحمية والغضب ؟
إن كل من أعدموا فى هذه القضية المشينة للتاريخ المصرى يستحقون التحية والإعتذار وأيضا الخلود،خاصة عندما يكون من بين الضحايا إماما ومؤذنا للمسجد وشهيدة من السيدات( حتى وإن اصيبت فقط كما زعمت بعض المصادر) كما أن جميع من تم التنكيل بهم فى تلك المحاكمةالبائسة، أو أثناء الأحداث التى سبقتها ،هم من الشهداء المظلومين الأبطال الذين دفعوا حياتهم ثمنا للعزة والكرامة،والذين تعرضوا للخيانة والمتاجرة بأرواحهم من بعض بنى جلدتهم من المصريين ؟
بداية الأحداث :
تبدأ تفاصيل مذبحة دنشواى بدخول بعض رجال المحتل الإنجليزى، إلى قرية دنشواى
بالتنسيق مع عمدتها وأصحاب النفوذ فيها،
لصيد الحمام عن طريق إطلاق النار عليه بالبنادق وهو يحوم حول أبراج الأجران المملوكة للفلاحين البسطاء ؟ فلما دخل هؤلاء الأجانب أحد الأجران، وحاولوا إطلاق النار تجاه الحمام ،إستغاث مؤذن القرية بإمام القرية صاحب الثمانين عاما الشيخ حسن على محفوظ،الذى أقبل مهرولا صائحاً فى الإنجليز يطالبهم بالمغادرة، كيلا يحترق التبن في الأجران وكيلا يصيبون النساء والأطفال بطلقاتهم، لكن( السادة) الإنجليز وكان معهم مترجم مصرى، لم يبالوا بتحذيرات الرجل،وقابلوا صرخاته بالسخرية ،وإستمروا فى غيهم حتى أطلق أحد الضباط عياراً أخطأ هدفه وأصاب "أم صابر" زوجة مؤذن المسجد محمد عبد النبى ، فوقعت فى الجرن وماتت في الحال (وهو الرأى المرجح) كمااشتعلت النيران في التبن الموجود بالجرن ،فهجم الإمام حسن محفوظ على يد الضابط لجذب البندقية منهُ، وإستغاث بأهل البلدة ليساعدوه هو من معه، فهرع بقية الضباط لنجدة زميلهم ،وإنهالوا على الشيخ المسن رجل الدين، ضرباوإهانة،
فتجمهرت الأهالى وهاجموا الضباط الإنجليز المجرمين،الذين ردوا بقتل شخص آخر ( شيخ الخفر) ثم حاولوا الفرار أمام هجمات الأهالى عليهم، تلك الهجمات التى كانت رد فعل طبيعى على إعتداء هؤلاء الأجانب على القرية وقتلهم لإثنين من سكانها،وإهانتهم للشيخ الكبير سنا ومقاما حسن محفوظ ؟
أرسل عمدة القرية المزيد من الخفر لحماية الجنود الانجليز وتخليصهم من الأهالى،بينما كان قائد هؤلاء الجنود قد نجح فى الفرار (مصابا) ومعه الطبيب الخاص بالكتيبة الإنجليزية،وظلا يجريان سيرا على الاقدام لمسافة ثمانية كيلومترات في الحر الشديد،حتى وصلا معا لقرية سرسنا، حيث وقع القائد على الأرض ومالبث أن قضى نحبه من تأثير ضربة شمس،ٍ بحسب تقرير الطبيب الشرعي الإنجليزي، وأما الطبيب فاستكمل طريقه الى المعسكر الإنجليزى،واستصرخ زملائه فأسرعوا إلى قائدهم فوجدوه ميتاً،ورأوا شاباً منحنياً نحوه يريد إسعافه بشربة ماءٍ، فإنهالوا عليه بالسناكى حتى قطعوه إربا وأصبح ثالث الشهداء ؟
المحاكمة :
رغم أن الجريمة واضحة، والمعتدين والمجرمين هم من اقتحموا على الأهالى بلدتهم، وقاموا بقتل ثلاثة من أهلها ، بينما القتيل الانجليزى الوحيد راح ضحية ضربة الشمس ، الا أن رد فعل المندوب السامى البريطاني اللورد كرومر جاء ً فاحشا وإجراميا، فبعد تحقيقات إستمرت إحدى عشر يوما، تم عقد محاكمة إستثنائية في يوم 24 يونيه لما يقارب المائة فلاح مصرى بتهمة القتل العمد، وتأكدت التهمة على ستة وثلاثين منهم يوم 28 يونيه، بعد أربعة أيام فقط من إجراءات المحاكمة،و التى إنتهت إلى إصدار أحكامها بالإعدام شنقا على كل من :-
حسن علي محفوظ إمام وخطيب المسجد،
يوسف حسن سليم -فلاح
السيد عيسى سليم -فلاح
محمد درويش زهران -فلاح
كما أصدرت المحكمة حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة، على كل من محمد عبد النبي مؤذن مسجد القرية، وأحمد عبد العال محفوظ فلاح،
وحكم على الباقين بالسجن ما بين خمس عشرة سنة ،وسبع سنين، وسنة واحدة ، وآخرون بالجلد خمسين جلدةً لكل منهم،
وتقرر تنفيذ الأحكام ثانيَ يوم صدورها دونما طعنٍ وفي قرية دنشواي نفسها وأمام الأهالي ؟
وكانت محكمة العار تلك قد تشكلت برئاسة بطرس غالي وزير الحقانية (العدل) ، وعضوية كل من أحمد فتحي زغلول باشا الأخ الأصغر لـ"سعد زغلول" وعضوين إنجليزيين آخرين ؟
وقام بدور وكيل النائب العام المحامى إبراهيم الهلباوي". والذى إنتخب نقيبا للمحامين فيما بعد !! بينما كان قد لعب دورا قذرا فى تلك المحاكمة،حيث إستخدم فصاحته ومواهبه ليثبت أن حريق جرن الغلال كان متعمداً من قبل الفلاحين لإخفاء معالم جريمتهم الشنعاء؟
وإعتبر الهلباوى فى مرافعته أن "الاحتلال الإنجليزي لمصر حرر المواطن المصري وجعله يترقى ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية!!"
وقال أيضاً: "هؤلاء الضباط الإنجليز كانوا يصيدون الحمام في دنشواي ليس طمعاً في لحمٍ أو دجاج، ولو فعل الجيش الإنجليزي ذلك لكنت خجلاً من أن أقف الآن أدافع عنهم!!"
ثم وصف أهالى دنشواى قائلا : "هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصي والنبابيت، وأساؤوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز بيننا خمسةٌ وعشرون عاماً، ونحن معهم في إخلاص واستقامة "
ولا عجب فى أن يصبح ذلك الخائن شخصية عامة منتخبة فيما بعد، ومعه سعد باشا زغلول(رئيس الوزراء) وشقيقه فتحى باشا زغلول، وبطرس باشا غالى رئيس الوزراء أيضا فيما بعد ؟؟
تنفيذ الأحكام :
كان تنفيذ الأحكام في اليوم التالي مباشرة لصدور الحكم، و في نفس المكان الذي مات فيه القائد الإنجليزى ، وفي مثل الساعة التي وقعت فيها الحادثة، حيث سيق المحكوم عليهم بالإعدام والمحكوم عليهم بالجلد إلى نقطة مركز الشهداء، على مسافة نحو عشرين كيلو متراً من شبين الكوم، وأربعة كيلومترات من قرية دنشواي، وأنزلوا بها بحراسة الجنود البريطانيين والمصريين، حتى إذا اقتربت الساعة الأولى بعد الظهر جيئ بهم إلى دنشواي، وهناك نصبت المشنقة وآلة الجلد، ونفذ الحكم بقسوة وفظاعة، فبدأ التنفيذ في منتصف الساعة الثانية بعد الظهر، ونفذ الحكم في المشنوق الأول حسن محفوظ إمام القرية علناً على مرأى ومسمع من أهله وذويه وسط صياح النساء ونواحهن، وبقى الشهيد معلقاً لإذلاله ميتا ،حتى تم الإنتهاء من تنفيذ أحكام الجلد والإعدام الأخرى،ثم تركت الجثامين معلقة لعدة ساعات ؟؟
وفى رثاء ونعى ما حدث بدنشواى، كتب امير الشعراء احمد شوقى أبياتا تقطر حزنا وتفيض دما :-
يا دنشواي على رباك سلام
ذهبت بأنس ربوعك الأيام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها
وبأي حال أصبح الأيتام؟
عشرون بيتاً أقفرت، وانتابها
بعد البشاشة، وحشةٌ وظلام!
نوحي حمائم دنشواي وروّعي
شعباً بوادي النيل،، نيام !!!
السوط يعمل والمشانق أربع!
متوحدات ،والجنود قيام !
والمستشار إلى الفظائع ناظر !!
تدمى جلود حوله،،، وعظام
وعلى وجوه الثاكلين ، كآبة
وعلى وجوه الثاكلات رغام !!