- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
حمدي عابدين يكتب : فؤاد حداد مؤذن الوطنية المصرية
حمدي عابدين يكتب : فؤاد حداد مؤذن الوطنية المصرية
- 11 أبريل 2021, 8:10:41 م
- 1159
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كان الآهات اللى ترج الوحش
مشى فى الجنينة اقتطفت له الزهور ...
في طريقي إلي المقهى رأيت بائعا متجولا يسحب عربة كارو يجرها حمار تتوزع عليها أصناف مختلفة من الخضراوات، كان يغني بفرح شديد كأنه يحمل سلة من الورد، في هذه اللحظة بالذات قفزت أمامي صورة والد الشعراء فؤاد حداد، وكان سؤالاً، بحجم بهجة هذا الرجل البسيط المتفائل، يضرب في أعماق كياني كله، ماذا يمكن أن يقول حداد لو أنه كان معي في هذه اللحظة؟، بأي من المعانى كان يمكنه أن يصف كل هذه القدرة علي محبة الحياة والقفز علي منغصاتها؟، ماذا كان يمكن أن يقول العبقري الذي وصف نفسه بأنه والد الشعراء، بعد، فنان فقير علي باب الله والجيب مافيهشي ولا سحتوت؟، من قال:
انا اللى زرعت البيوت والعيدان
مايمنعشى عقلي شوية جنان
حيرجع لاسمك رنين الحنان
قتيل المحبة يلبي الندا.
وُلِدَ فؤاد حداد في شهر نصر عظيم، في 28 أكتوبر 1928 كانت عيونه تطل علي دنيا الناس، وفي 1 نوفمبر 1985 فارق الحياة تشيعه دموع الشعر والمحبة والأحلام الكبيرة.
وفي هذا اليوم بالذات كنت بصحبة الشاعر الراحل الكبير كمال عبد الحليم، كان مقررا أن نزور فؤاد حداد في بيته بعدما عرف أنه مريض، لكن الخبر المشؤوم جاءنا، ولم يقدر لى أن التقى بمتنبي ومتسحراتي مصر وشاعر أيامها ولياليها، نزل الخبر كالصاعقة علي عم كمال فراح يبكي بحرقة من فقد نفسه، من فقد ترجمان أشواق بلد بكاملها، كان حداد الوحيد القادر علي التعبير عنها في زمن تحولات وانكسارات كبيرة ومحبطة، أما أنا فقد رحت في صمت عاجز كان يحلم بلقاء "من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة.
جمع والد الشعراء في روحه المحبة للإنسانية وفقرائها، وهو" يتسلى بالمزاج والقهر"، الكثير من منابع الثراء الإنسانى، فهو مسلم من أصول مسيحية، عروبي وقومي وشيوعي، مصري وشامي، ينتمى إلى مركزين هامين من مراكز الثقافة والحضارة.
نشأ حداد بين أسرته اللبنانية، أسرة مسيحية بروتستانتية في جبل الشوف، كان أبوه سليم حداد أستاذ اقتصاد بارز وفد إلى مصر قبيل الحرب العالمية الأولى، ليعمل مدرسا في كلية التجارة، ونال رتبة البكاوية.
درس فؤاد حداد في الفرير الفرنسية، وكانت إدارتها تمنع تلاميذها من الحديث باللغة العربية داخل المدرسة، وهو ما مثل انزعاجا كبيرا له، فرفض أن ينصاع لتلك التقاليد، ويتكلم بالفرنسية، رغم تفوقه فيها، كانت أسرة حداد بكاملها تتحدث بها داخل المنزل. رفض حداد الحديث بالفرنسية وحبه للعربية، كان موروثا عن والده الذي كان متعصبا للعربية، وكان حريصا علي أن ينقل لفؤاد عشق العربية والكتابة بها, كما كان لديه حرص كبير علي أن يكون خط ابنه جميلا، حتي أن المدرس الوحيد الذي دخل منزلهم كان مدرس الخط العربي، ما أورث الشاعر الكبير فيما بعد خطا جميلا بدا في مخطوطاته التي تعتبر زخائر ثمينة في حد ذاتها.
ويعد فؤاد حداد واحدا من أبرز شعراء العامية في القرن العشرين، وهو المؤسس الحقيقي لشعر العامية الحديث في مصر، وقد صدر له 33 ديوانا، منها 17 في حياته، ومنها ما أذيع كبرامج في الإذاعة المصرية، مثل ديوانه "من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة" 1989، و"المسحراتي" 1964، ومن أهم دواوينه إلي جانب هذين الديوانين العظيمين، "التسالي بالمزاج والقهر"، والحضرة الذكية" 1984، و"كلمة مصر" 1975، أما عن أول دواوينه فكان، "أحرار وراء القضبان" 1956، بعده توالت كتبه، فكان "نبنى السد" 1956"، "بقوة العمال وقوة الفلاحين" 1968، و"قال التاريخ أنا شعري أسود" ديوان فيتنام" 1968"، وبعد رحيل والد الشعراء بدأت المؤسسات الحكومية التي ظلمته كثيرا في انصافه، فأصدرت أعماله الكاملة هيئة قصور الثقافة في 5 أجزاء 1984، ثم أعادت هئية الكتاب إصدار الأعمال نفسها.
اعتقل فؤاد حداد عام 1950 لأسباب سياسية، ثم عاد واعتقل مرة أخرى عام 1953، وقام بنشر ديوانه الأول "حنبني السد" بعد خروجه من السجن عام 1956، واعتقل مرة أخرى عام 1959 لمدة خمس سنوات، وخرج ليكتب في شكل جديد لم يكن موجودًا في الشعر العربي.
كتب "المسحراتي" 1964، وكتب البرنامج الإذاعي "من نور الخيال وصنع الأجيال" 30 حلقة عام 1969 والذي كان يبدا بسلام فريد من نوعه ما عرفناه إلا مع والد الشعراء:
أول كلامي سلام
وتزققيني الكلام
أيام في حضنك أنام
القلب الأبيض هنا
يا مصر يا أمنا
وأطلع في نور الأدان
إذا دعا الوالدان
المدرسة.. والميدان
الأنسانية هنا
ولعل واحدة من أهم الأغنيات التي كانت في هذا البرنامج، ومازالت تسكن في روح المصريين والعرب حتي الآن هي " الأرض بتتكلم عربي".
المدهش في أمر هذا الشاعر المذهل أننا حين نقرأ منجزه الشعري، لا يمكن إلا نفصله عن الواقع الذي نعيشه هذه الأيام، فما أحوجنا له ولأشعاره، وتأملوا معني هذا المعني الشديد العمق في ديوانه "من نور الهلال..." ريحة مورد وجنة القاهرة" كيف استطاع أن يشرب روح مدينة كاملة بناسها وشوارعها ودروبها، وصنائعها, وبيوتها، وعماراتها ومساجدها، وتاريخها، ويحشد كل ذلك في قصائد تقطر عذوبة وجمال.
ريحة ما ورد وجنّه يا قاهره
غاوى القمر واللي غوى يشفيه
صوتِك يلاغى والغوايش فيه
طمني قلبك انى عايش فيه
وشكرت آياتك
فى مشربياتك
ريحة ماورد وجنّه يا قاهره
شباك فى بيت مؤمن وقلبه دليل
نوّر لي بالسهريه والقنديل
أمشى القيراط اللى سقاه النيل
واسمع حكاياتك
فى مشربياتك
ريحة ماورد وجنه يا قاهره
غمضت عيني وعشت ألف ميعاد
وفتحت عيني وزاد معاي الزاد
كنت الولد وصبحت ابو الأولاد
ما دريتش وحياتك
فى مشربياتك
ريحة ماورد وجنه يا قاهره
***
حبيتك الحب اللى عمره سنين
متّعت عينى وما انتهيتش حنين
كل اللى عاشوا فى حضرتك حلوين
والأحلى جاياتك
فى مشربياتك
ريحة ماورد وجنه يا قاهره.
ويدرك فؤاد حداد قيمة ودور الفن في المجتمع، ولعل ما قاله في (من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة" أبلغ دليل على ذلك، فهو لم يتاجر بفنه ولم يضن به علي بلده رغم ما عاني في السجون والمعتقلات.
يا مصر يا مصريه كتر خيرك
طالقه على جناح الأمل طيرك
يا مصر راضيه وربنا أعطاها
شوقي وبيرم والأديب طه
فيه ناس طوت أشجانها جوه الصدور
حافظ يناجى فى الخيال والطيف
وبين عيونه زى ضربة سيف
وفى سكوته آهه المقهور
هاتى الآهات اللى ما تتأوهش
هاتى الآهات اللى ترج الوحش
وفى سجن الاستعمار تهد السور
على رقبتك زى جيش منصور
صبى علينا زى شمس الظهر
فى الأرض ما تخليش خيال مكسور
يا مصر يا أول كتاب العصور
أنا ابوس ايديك الشريفة كل ما تولّد
سنين ورجاله تحيى الأرض وتخلد
أبوس ايديك لتسعتاشر وشيخ سيد
عرب التفت فى هيئة الفنان
فى عروته الوردة اللى بتفتح
قال كان بودى ألحن الجرنان
أخبار تجينا الصبح وتفرح
عرب اللى دايب من أمل وحنان
كل الشوارع تعرفه والدور
ألفين سلام مطرح ما عينه تدور
مشى فى الجنينه اتقطفت له الزهور
قال كلنا نحب الوطن يا ولادي
أنا كنت باحلم بالنهاردا الليلة دي
صبحت بلادي بلادي
وانتوا المغنيين وانا الجمهور.
هنا يمكننا أن ندرك الفرق بين المصري الفنان الذي يذوب في وطنيته، وعشق بلاده، وبين ما نشاهده هذه الايام من مجموعة من المدعين الذين يعيثون فساد هنا وهناك متشدقين بالفن، وهم أبعد الناس عنه.