- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
محمد دوير يكتب : النيل.. دلالة فلسفية
محمد دوير يكتب : النيل.. دلالة فلسفية
- 11 أبريل 2021, 8:10:45 م
- 812
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
النيل .. كدلالة فلسفية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
.. احد مسوغات النيل كحالة ابداع طبيعية، أنه نهر مكافح شق طريقه بنفسه، وتحول من حالات الشتات المائي بين الوديان والهضاب بعد أن قصفت السماء الأرض بالأمطار الغزيرة، ليستقر وينضبط في مسار واحد كلما اقترب من مصر، بمعدلات انحدار شديدة في بداياته وبطيئة في نهاياته، وكأنه يعبر عن عقل واع، يدرك كيف يسير وإلي أي جهة يتجه، فيخالف العرف الطبيعي وينطلق من الجنوب الي الشمال.
... النيل – في ذاته – حالة طبيعية، نسجت حوله الأساطير والتصورات، ولعب دورا خطيرا في كافة نواحي حياة البشر المحيطين به، لدرجة أنه أحد المؤسسين لسرديات الأديان.. فاتخذ صفة شبه مقدسة، وصار روحا تسري في جسد التاريخ، وربما ما قبل التاريخ أيضا.
.. ويبدو لي – بمعني جزئي – أن النيل سابق الوجود ( لو فهمنا الوجود علي أنه الوجود البشري ) ، وهو ما يعني أنه حالة طبيعية، تشبه المحيطات والجبال والوديان.لقد وجد النيل أولا ثم رسم الناس عمرانهم البشري بناء عليه.
.. وما يحدث يشبه حالة البتر، حيث تقرر جماعة من البشر ( دعنا نتحدث بتلك اللغة، جماعة من البشر وليس دولة كذا أو كذا ) أن تبتر جزءا من المسار الطبيعي، من أجل البحث – تلك الجماعة بمفردها أو بمساعدة غيرها – عن مزيد من التقدم والنمو، وهو دافع يمكن قبوله بشروط، أهمها عدم التجرؤ علي ما هو طبيعي في النهر، أي عدم التجرؤ علي مساره التاريخي السابق حتي علي الدولة المصرية ذاتها.
.. وما يحدث – بمعناه الفلسفي – هو محاولة لاعادة تشكيل الطبيعة، وتغيير الدور الوظيفي للنيل، بوصفه شريانا يسري بتلقائية، من مناطق متفرقة الي منطقة محددة، واعادة التشكيل تقرر أن النهر ليس مسارا، بل بحيرة ضلت طريقها فسارت نحو الشمال، وعلينا أن نحاصر سلوك الطبيعة لكي يتحول الامتداد المكاني للنهر الي بؤرة عميقة تسمح بالاستحواذ، استحواذ لا يكتفي بالمياه فقط، بل واعادة توزيعها وفقا لشروط جديدة ( غالبا سيتم معاملتها بمنطق البترول ).
.. ومن وجهة نظري أن هذا التصور يتوافق للأسف مع النظرية الفلسفية المعاصرة والتي تسود الثقافة العالمية الآن..وهي مشروعية اعادة تأويل كل شيء، وتفكيك كل السرديات التاريخية والمقدسة، واسقاط الفهم العقلاني لكل شيء حولنا..إن مقولة ( النيل ليس نهرا بل بحيرة ) هي نفسها مقولة ( النص ملك القاريء وليس ملك المؤلف ) هي نفسها مقولة فييرابند ( كل شيء يجوز Anything Goes ).
.. النيل يخضع لعملية تجريب ما بعد حداثي، فحينما يسخر البعض من مقولة ( الحقوق التاريخية ) فإنه في الحقيقة لا يقول أكثر أو أفضل مما يقوله أنصار التفكيك، بضرورة اسقاط السلطة التاريخية للعقل وكافة مقولاته. فما يحدث للنيل من السعي لبتر مساره أو تشويهه – علي الأقل – حدث عشرات المرات من قبل بصورة لا تقل قسوة عندما قام بتدمير حضارة الهنود الحمر بعد "اكتشاف" الامريكيتين..(لاحظوا دلالة كلمة اكتشاف")
.. إن تشويه الطبيعة وتدمير التاريخ وقتل المفاهيم الكبري هو أهم سمات مرحلة ما بعد الحداثة، مرحلة العقل المبتسر، والمنطق متعدد القيم، والنسبية المعرفية، والسفسطة الكلامية، وتهشيم أفق التوقعات، ورفض كل سلطة حتي لو كانت من صنع الطبيعة..وعندما قامت الرأسمالية بتوظيف رجال العلم من أجل دعم شهوتها في تراكم الثروة، لم تخجل من نفسها، بل سعيت الي ترويض العالم وتوجيه اهتمامه نحو البحث عن شراء منتجاتها.. وهي الآن تفعل ما هو أفدح وأسوأ حينما تحاول نحت نمط جديد – النيل تجربة حية – يتم بموجبه وضع المياة العذبة تحت مقصلة التجارة الدولية، تحت عجلات قطار ما بعد الحداثة، تحت الوصاية النخبوية للعالم..
.. ما يحدث مع النيل، شرود نحو اللا منطق... وليس مجرد تعنت أثيوبي أو سلطوية مصرية، إنه منطق العالم الجديد، عالم يبحث عن اسقاط التاريخ في فخ موازين القوي السياسية.