د. أيمن منصور ندا يكتب : إنجازات الرئيس السيسي وإخفاقاته .. رؤية موضوعية لثماني سنوات في حكم مصر (3 - 5)

profile
د.أيمن منصور ندأ رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة
  • clock 1 سبتمبر 2022, 10:51:39 ص
  • eye 1001
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

إخفاقات الرئيس السيسي


لا سمعاً ولا طاعة!

في أصول الحكم في الإسلام، لا عصمة لقائد أو لخليفة في إدارة شئون الدولة؛ والأمر شورى.. أشار إليها "الحبّاب بن منذر" في سؤاله للنبي الأعظم في "معركة بدر" أثناء انعقاد "مجلس الحرب" Council of War: أهو وحي السماء؟ "أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟" وكانت إجابة الرسول الأكرم القاطعة: "بل هي الحرب والمكيدة".... أشار إليها "خير الورى" مرة أخرى في حادثة تأبير النخل: "أنتم أدرى بشئون دنياكم".. وأشار إليها "الصديق أبو بكر" حين طلب من الناس في خطاب التنصيب Inauguration Speech "إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوموني".... وأشار إليها "الفاروق عمر" حين راجعته سيدة في قرار أصدره بشأن "قانون الأحوال الشخصية"؛ ووصفت قراره بعدم الدستورية، فأقر بالخطأ أمام الناس "أخطأ عمر، وأصابت المرأة"!

تحكي كتب التراث أيضاً أن "الفاروق عمر" قام يخطب في الناس عن حال الخلافة The State of the Caliphate Address  فقال: "أيها الناس اسمعوا وأطيعوا".. فقال له "سلمان الفارسي": "لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة"! (عصيان مدني، تمرد، إضراب ......) "حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد (الثوب) الذي ائتزرت به، وقد نالك برد واحد كبقية المسلمين، وأنت رجل طوال لا يكفيك برد واحد؟" (سؤال يحمل معنى التشكيك في الذمة المالية، ويشير إلى غياب الشفافية، واستغلال النفوذ، والتعدي على المال العام، وغيرها من اتهامات الفساد بمصطلحات هذه الأيام).. لم يغضب عمر، وإنما نادى: "يا عبد الله بن عمر"(ابنه): قال لبيك، يا أمير المؤمنين، قال: نشدتك الله، هذا البرد الذي ائتزرت به، أهو بردك؟ قال: نعم.. والتفت إلى المسلمين فقال: "إن أبي قد ناله برد واحد كما نال بقية المسلمين وهو رجل طوال لا يكفيه برد واحد، فأعطيته بردي ليأتزر به". فقال سلمان: "الآن مر؛ نسمع ونطع"!! 

وفي تاريخنا الحديث، وقف الرئيس جمال عبد الناصر معتذراً للشعب، معلناً تحمله المسئولية كاملة عن هزيمة يونيو 1967: "نصل الآن إلى نقطة هامة في هذه المكاشفة بسؤال أنفسنا: هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية في تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق - وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة- فإنني على استعداد لتحمل المسئولية كلها"..

وفي الدستور المصري الحالي (2014- المادة 161) "يجوز لمجلس النواب اقتراح سحب الثقة من رئيس الجمهورية، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، بناءً على طلب مسبب وموقع من أغلبية أعضاء مجلس النواب على الأقل، وموافقة ثلثي أعضائه."

المفهوم واحد، والفكرة واحدة: العصمة غير قائمة، والمساءلة واجبة، والحساب مطلوب، والاعتراف بالخطأ لا يقلل من شأن صاحبه، و"الوطن باق ونحن زائلون".

"بلاش هري"

سيدي الرئيس: أمرتنا كثيراً "ما تسمعوش كلام حد غيري.... لو بتحبوا مصر صحيح اسمعوا كلامي أنا بس"(فبراير 2016).. وعند مناقشة قضية "اتفاقية تيران وصنافير" قلتم لنا: "أرجو أن الموضوع دة منتكلمش فيه تاني"(إبريل 2016).. ونصحتنا يوم تحدثنا في موضوع سد النهضة "بلاش هري"(يوليو 2021).. وأرشدتنا مؤخراً (مايو 2022) إلى " أوعى تحط رجل على رجل وتتكلم عن موضوع وأنت متعرفوش".. ووجهتنا في غير ذات مرة إلى الإنصات لكم وحدكم، ولكم فقط.. وفي كلّ المواقف لم يكن ردنا "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون"، بل كان جوابنا: "السمع والطاعة لك سيدي الرئيس.. إنا معكم مقاتلون، وخلفكم مصْطَّفون".. فنحن نثق بكم، ونصدقكم، وقبل ذلك كله نحبكم.. غير أن غياب الشفافية، وعدم توفر المعلومات، وحجب المواقف الحقيقية إزاء كثير من السياسات الحالية، أوقعنا في حيرة عميقة.. نحن جميعاً على شفا حفرة من نار عدم اليقين.. أضحت الأمور غامضة، وأصبحنا نهباً لكثير من الشائعات.. وحقٌّ لنا أن نسأل، وجديرٌّ بنا أن نستفسر، ولزامٌّ علينا أن نعرض عليكم بعض هواجسنا وهمومنا وتساؤلاتنا؛ فلا خير فينا إن لم نبح بها، والخير كلُّ الخير أن يتسع صدركم لها.

سيدي الرئيس: مقام الرئاسة أسمى من أن يتشابك مع أفراد، وأعلى وأجل من أن يرد عليهم.. غير أنه لا يوجد أحد في مصر الآن يمكننا التحدث معه بصراحة، ومناقشته بوضوح، حتى في ظل الحوار الوطني الحالي! لا أحد يعرف سواكم، ولا أحد مسموح له بالتصريح غيركم.. ولا أحد يستطيع أن يدلنا على خارطة الطريق إلاكم.. سيدي الرئيس.. الحوار لا يكون إلا معكم.. والخطاب لا يكون إلا لكم.. وإلى غيركم لا يفيد!

المسكوت عنه في الحوار الوطني

لعلَّ القضية الأهم التي يجب طرحها مبدئياً على لجان الحوار الوطني هي "تقييم تجربة السنوات الثمانية للرئيس السيسي سلباً وإيجاباً".. وتحديداً الإجابة عن السؤال التالي: "كما كانت للرئيس السيسي إنجازات ضخمة لا ينكرها إلا غافل أو جاهل، ولا يتعامى عنها إلا حاقد أو جاحد، فهل له إخفاقات موازية؟ هل كان الرئيس السيسي موفقاً أم غير موفق في إدارة الملفات الرئيسة للدولة؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراء عدم التوفيق، إن وُجِد، حتى يمكن تجنبها مستقبلاً؟"

الملفات التي يمكن تناولها في هذا الإطار عديدة ومتنوعة.. كلُّ ملفٍ منها يستحق الوقوف أمامه طويلاً بالفحص والدرس والتحليل.. ودون تقديم إجابات شافية وكافية ووافية نصبح وكأننا "نحرث في بحر"، وكأننا نقوم بجهود "سيزيفية" صرفة، وهي مشكلتنا التاريخية: البدايات الصفرية.. في مثل هذه الأحوال، الصراحة مطلوبة، والشفافية ضرورية..

المناقشة الموضوعية لهذه الملفات لا تحمل اتهامات مسبقة، وإنما تحمل تساؤلات مشروعة.. السؤال لا يعني التشكيك، ولا يحمل إجابة مسبقة قائدة أو موحية وإن بدا كذلك، وإنما يعني دعوة للبحث، وبداية خيط للتحري، ونقطة تحرك للاستقصاء.. نحن نتحقق ولا نحقق.. السؤال هو مجرد "فرض بحثي" في مرحلته الأولى، وقد يصدق وقد لا يصدق، ويمكن قبوله أو يتم رفضه.. وقد يكون "الفرض العدمي" هو الإجابة الصحيحة في كثير من المواقف.

أسئلة مشروعة عن قضايا ممنوعة

شئنا أم أبينا، دخل الرئيس السيسي التاريخ باعتباره القائد الذي منع اختطاف مصر، وحافظ على هويتها، ومنع انزلاقها في حروب داخلية أو خارجية.. "الشرعية الثورية" لا جدال عليها بالنسبة للرئيس السيسي.. و"شرعيته الدستورية والقانونية" لا شك فيها.. حديثنا الآن عن "الشرعية الأدائية" للرئيس السيسي.. حديثنا عن "شرعية الإنجاز"، وهي شرعية بطبيعتها جدلية، ولا يوجد اتفاق عليها، وتُثار حولها عديد من الأسئلة، نعرض لبعض منها في هذا المقال.. (في المقال السابق (2- 5) عرضنا لإنجازات الرئيس السيسي.. واليوم نعرض بعض الإخفاقات.. باعتبار أنه من يتم نسبة الإنجازات له وحده، يتحمل وحده أيضاً مسئولية الإخفاقات.. توزيع المسئوليات كما هو مطبق في الإنجازات، يجب أن يكون مطبقاً في الإخفاقات).

1. يزعم البعض أن الرئيس السيسي لم يكن موفقاً في إدارته لملف سد النهضة، وأنه أضر بمصالح مصر المائية بتوقيعه على إعلان المبادئ (مارس 2015).. النتائج على الأرض قد تؤيد هذا الزعم! إلصاق الفشل في الملف بالمصريين (بثورتهم المجيدة والفريدة في 25 يناير) غير مقبول، وتحميل المسئولية لجماعة الإخوان (ومدة حكمهم لم تزد عن عام) غير معقول.. ضيَّع الرئيس السيسي فرصاً عديدة كانت أمام مصر لحسم هذا الموضوع.. الملء الثالث للسد قد تم بنجاح، وأخرج "آبي أحمد" لسانه لنا جميعاً.. وصف الرئيس السيسي الدستور المصري (دستور 2014) بأنه "كُتِب بحسن نية، والدول لا تُحْكَم بالنوايا الحسنة" (سبتمبر 2015)، فهل يمكن أن يمتد "حسن النية" إلى توقيعه على إعلان المبادئ؟! هل وقَّع الرئيس السيسي على هذا الإعلان بحسن نية لا يتفق مع أهمية الموضوع وخطورة النتائج المترتبة عليه وبدون دراسة حقيقية له؟! هل أضاع الرئيس السيسي الحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل بالتوقيع على هذا الإعلان؟ وبتفويت الفرصة للتدخل العسكري في حسم هذا الموضوع؟ هل خذلتنا القوى الدولية ولم تنجح علاقاتنا الدولية في إدارة الملف لصالحنا؟ نسمع كثيراً أحاديث للرئيس السيسي تشير إلى أنه لم (ولن) يتم التفريط في نقطة ماء واحدة من حصتنا التاريخية، ونحن نصدقه في ذلك، وفيما هو أبعد من ذلك، غير أننا نحتاج إلى الاطمئنان "قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن؟  قَالَ بَلَىٰ، وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي"..... أسئلة تحتاج إلى البحث الموضوعي الدقيق. 
 

2. يزعم البعض أن الرئيس السيسي جانبه الصواب في إدارة الملف الاقتصادي في سنوات حكمه، وأنه أوصل مصر إلى أعلى معدل استدانة داخلية وخارجية في تاريخها.. الرئيس لم يستثمر دخل مصر ومواردها وقروضها في مشروعات تنمية حقيقية؛ وإنما أنفقها وأنفق عشرات المليارات من الدولارات غيرها في مشروعات تناسب تصوره للجمهورية الجديدة التي لا يعرف أحد ملامحها وتوجهاتها وسماتها غيره.. الرئيس السيسي لم يستغل المعونات السخية التي قدمتها دول الخليج لمصر في تحسين أحوال المصريين..  أراد الرئيس السيسي أن يكون مثل "محمد على باشا" مؤسساً لمصر الجديدة، وانتهى به الحال إلى تكرار تجربة "الخديوي إسماعيل" بكل أخطائها، وانتهى بنا الحال إلى فقرٍ مدقع، وحالٍ مزرٍ، وديونٍ "متلتلة".... وعدنا الرئيس السيسي بأننا "سنرى العجب العجاب" في مصر خلال سنوات حكمه.. (يوليو 2018)، ورأينا ذلك حرفياً بشكل عكسي!! وعدنا الرئيس السيسي بالسمن والعسل و"بالمشمر والمحمر"، وانتهى بنا الحال إلى الدعوة إلى أكل "أوراق الشجر"!! الثابت أن أي إصلاح اقتصادي يتبدى أثره في مظهرين أساسيين: زيادة القدرة الشرائية للعملة (وانخفاض مستوى التضخم)، وزيادة فرص العمل الحقيقية والدائمة (انخفاض مستوى البطالة).. المؤشران ليسا في صالح الرئيس السيسي... سألنا الرئيس مستنكراً "هو أنتو ما بتحلموش ليه؟!"(ديسمبر 2021).. والحقيقة يا سيدي الرئيس أن أحلامنا بدأت كبيرة جداً معكم وبكم، ثم صارت "أحلاماً عادية"؛ مجرد أن نعيش "حياة كريمة".. ثم تحولت في الفترة الأخيرة إلى "كوابيس" في رأي البعض، وإلى "أضغاث أحلام" في رأي البعض الآخر.. هل كنا مخطئين عندما حلمنا أحلاماً مشروعة في زمن الأزمات المتتالية؟!
 

3. يزعم البعض أن تبريرات الرئيس السيسي لعدم شعور المواطنين بنتائج الإصلاح الاقتصادي غير موفقة.. الرئيس السيسي يحمَّلنا، نحن المصريين، مسئولية تردي الأوضاع الاقتصادية (والصحية والتعليمية، والثقافية، ............) بسبب "كثرة الإنجاب".. ويتساءل سيادته "لما تسألونى أخبار التعليم إيه؟ هرد عليكم وأقول: أخبار تحديد النسل إيه؟" (يناير 2021).. وكأن الرئيس السيسي اكتشف تلك المشكلة مؤخراً!... ألم يكن الرئيس على علم بهذه المشكلة أثناء حديثه الشهير مع "لميس الحديدي" و"إبراهيم عيسى" (مايو 2014)؟ عندما أشار إلى أنه سيحل مشكلات مصر كلها وسيشعر المواطن بالتحسن بعد سنتين من حكمه؟ أين الوعود المتتالية بتحسن الأحوال والخروج من هذه الضائقة غير المسبوقة؟!! سيدي الرئيس، لقد اعترفتم مؤخراً اعترافاً كارثياً (فبراير 2022):"أنا مش لاقي آكل، ولا عارف أعلم، ولا أعالج، ولا أسكن، ولا أشغل"!! وأيضاً "لما يبقى دخلي تريليون دولار ابقوا حاسبوني" (يونيو 2022) ... آلآن يا سيدي الرئيس؟ أبعد هذه السنوات وكل هذه الوعود تكون النتيجة على هذا النحو؟! أبعد "مصر أم الدنيا وهتبقى قد الدنيا" (يوليو 2013) يصل بنا الحال إلى عرض موانئنا ومطاراتنا للبيع؟ وإلى اقتراح المزيد من الصبر وأكل أوراق الشجر؟! تجوع الحرة ولا تبيع أصولها.. الأمم ذات الحضارة لا تأكل من خشاش الأرض.... لا يا سيدي الرئيس.. لا يتحمل المصريون المسئولية كاملة فيما وصلنا إليه.. لم تكن مشكلاتنا خافيةً عليكم عندما تصديتم لها... لم يكن تشخيص حكومتكم وإدارتكم صائباً أو دقيقاً، وكان العلاج خاطئاً، وكانت النتائج كارثية ومروعة..
 

4. يزعم البعض أن الرئيس السيسي يتحمل مسئولية حالة "الفقر" السياسي التي نعيشها خلال سنوات حكمه.. وأنه فتح الباب واسعاً لديكتاتورية ممتدة ولا سبيل إلى الخلاص منها، بتعديله لبعض مواد الدستور الحالي (دستور 2014) خاصة تلك التي تتعلق بمد فترة الحكم، وإمكانية ترشحه لفترة ثالثة (إبريل 2019)!! وهو المبدأ الذي سيستغله كلُّ رئيسٍ تالٍ لتعديل الدستور بنفس الطريقة والمنهجية والعقلية. الحل الأمني في مواجهة الفكر السياسي كان بارزاً وبشدة خلال هذه السنوات الأخيرة.. وعدد الذين في السجون لمعارضتهم السياسية والفكرية لا حصر لهم وإن كان ذلك بغطاءات وتوصيفات و"تكييفات" قانونية سليمة. قنوات الاتصال السياسي في عصر الرئيس السيسي مسدودة ومتجمدة، أصابتها أمراض الشيخوخة: الجلطات والذبحات الصدرية، وضيق الشرايين واختناقها، وخشونة مسامها وجدرانها، وترسب كثير من المواد الدهنية الصلبة عليها.  توجد لدينا أعراض "سكتة سياسية" شبيهة بالسكتة الدماغية في أسبابها ونتائجها!!  يسأل البعض، كيف سيترك الرئيس السيسي مصر في عام 2030؟ هل سيختلف الوضع سياسياً عن الوضع الذي تولى فيه حكم مصر؟ هل سنجد أكفاء يتنافسون على كرسي الرئاسة؟ أم سيكون الاختيار بين السيء والأسوأ؟ وسنكون مرة أخرى إزاء معضلة "المرشح الضرورة" و"الاختيار الإجباري"؟! المرشحون الأكفاء لا يظهرون فجأة.. ماذا لو حدث أيُّ ظرف طارئ لا قدر الله، مَنْ الجدير بحكم مصر؟ المشهد الحالي يشهد فراغاً حقيقياً في هذا المجال.. فكيف سيكون عليه الوضع في نهاية الفترة الثالثة للرئيس السيسي عام 2030؟!
 

5. يزعم البعض أن الرئيس السيسي يتحمل مسئولية سوء الحال الذي وصل إليه "الإعلام" في مصر خلال سنوات حكمه.. أصبحنا نترحم على الفترة التي تولى فيها المجلس العسكري حكم مصر بعد الثورة (فبراير 2011- يونيو 2012)، وعلى السنة التي تولى فيها الإخوان حكم مصر (يونيو 2012- يوليو 2013).. هذه الفترة الاستثنائية (يناير 2011- يوليو 2013) هي الفترة الذهبية في حرية التعبير في مصر خلال العقود الستة الأخيرة.. تاريخياً، وعلى العكس من الفترة السابقة، سيتم تصنيف هذه السنوات الأخيرة (2013- ......)، بأنها الأسوأ في تاريخ مصر إعلامياً.. المؤشرات، والأرقام تشير إلى ذلك وتؤكده... نظام الرئيس السيسي غير ديمقراطي.. ولا يقبل إلا برأيه، ولا يعتقد إلا في صواب ما يقوم به.. وهذا هو الخطر الأكبر على الرئيس السيسي نفسه، وعلى أي رئيس يقوم بالأفعال نفسها. فكرة الرئيس السيسي عن الإعلام لا تتماشى مع التطورات التي حدثت في آليات مخاطبة الجماهير.. رؤيته عن الإعلام الناصري واستدعاؤه باعتباره النموذج والمثال لا تناسب الظروف المحلية والدولية والحالية "الزعيم الراحل عبد الناصر كان محظوظ... صحيح.. لأنه كان هو اللي بيتكلم والإعلام معاه"(أغسطس 2016). إعلام الرئيس السيسي إعلام لا يصل ولا يؤثر.. كأنه إعلام! شيء ما شبيه به!!  خذل الإعلام الرئيس السيسي في تسويق سياساته الداخلية، كما فشل الإعلام في الدفاع عن مصالحه خارجياً.. إعلام كهن.. إعلام الكراكيب.. إعلام الوجوه المحنطة التي تتحدث من توابيت الزمن السحيق.. سبحانه، الذي أمد في أعمارهم، وأحياهم بعدما أماتهم، ورزقهم الجدل ومنعهم العمل! الفترة الحالية هي فرصة سانحة للمعارضة دون أن تجد من يرد بطريقة مؤثرة.. أقصى ما يفعله إعلاميو هذه الفترة (المؤلفة قلبوبهم) هو السباب والتخوين.. أشدُّ الموالين للرئيس السيسي من الإعلاميين الحاليين لا يقدرون على كتابة مقال مؤثر أو تقديم برنامج جذاب، ولو اجتمعوا له.. ضَعُفَ الطالبُ والمطلوبُ.. كلهم "كَسْر" بلا استثناء.. أداؤهم أقرب إلى أداء الببغاوات؛ يرددون دون فهم، ويتحدثون دون تأثير (اسمع الشعب (دُيُونُ) كيف يوحون إليه.... ملأ الجو هتافاً بحياتي قاتليه.... أثر البهتان فيه وانطلى الزور عليه.... يا له من ببغاء عقله في أذنيه!!).. اختيارات الرئيس لمن يتولون قيادة دفة العمل الإعلامي غير موفقة.. ورغم ذلك يتم التجديد لهم، وترقية بعضهم.. مما يعني رضاه عنهم، وموافقته على أدائهم.. وبالتالي يتحمل الرئيس نتائج أعمالهم! ظلم الرئيس الإعلام في عهده، وظلمه الإعلام ظلماً كبيراً بيَّناً.. وخسر الطرفان خسراناً مبيناً في معركة المواجهة مع الجماهير.
 

6. يزعم البعض أن الرئيس السيسي لم يكن موفقاً في إدارته لملف جزيرتي "تيران وصنافير".. المعالجة السياسية والإعلامية لهذه القضية كانت ضعيفة وفاضحة.. لا أتحدث عن الناحية القانونية، وحقيقة ملكية الجزيرتين لمصر أم للسعودية (فهناك متخصصون يستطيعون الحكم في هذا الموضوع، ونثق تماماً في وطنية الرئيس وقادة الجيش ورجال الدولة)، وإنما أتحدث عن كيفية الإخراج السياسي لهذه القضية، والمكاسب والخسائر التي عادت على "الروح الوطنية" و"الكرامة الشعبية".. أصابت المعالجة السياسية والإعلامية لهذه القضية "الكبرياء الوطني" في مقتل يتحمل مسئوليتها الرئيس السيسي. البعض يسأل عن المغانم التي عادت على مصر من هذا القرار؟ وعن الدوافع التي دفعت الرئيس السيسي للتفتيش في ملفات قديمة عن أشياء لا تفيد الوطن في هذا التوقيت؟ هل باعت مصر الجزيرتين كما يدعي البعض اتساقاً مع مقولة الرئيس السيسي "أنا لو ينفع اتباع لاتباع" (فبراير 2016)؟ هل تأييد السعودية لثورة 30 يونيو وتقديمها مساعدات سخية لنا كان مرهوناً بهذا الملف؟ هل تعرضت الإدارة المصرية للابتزاز للقبول بهذا التنازل؟ أسئلة شائكة تحتاج إلى إجابات قاطعة وواضحة.

7. يزعم البعض أن الرئيس السيسي أسَّس لنوعية معينة من الخطاب السياسي لا تتفق مع المقومات المتعارف عليها للخطاب الرئاسي محلياً ودولياً... كثير من خطابات الرئيس السيسي غير رئاسية Nonpresidential.. الفكر الذي يعرضه الرئيس في خطبه وكلماته ليس فكراً رئاسياً... الرئيس السيسي يعطي ظهره للشعب شكلاً وموضوعاً.. الرئيس السيسي هو الرئيس الوحيد في العالم الذي يتحدث إلى شعبه من ظهره أحاديث طويلة ومتكررة.. ما هكذا تكون الطريقة المثلى لمخاطبة الشعوب الحرة... يزعم البعض كذلك أن الرئيس السيسي قد لا تكون لديه ثقافة عبد الناصر وجاذبيته، أو ذكاء السادات ودهاؤه السياسي، أو انضباط مبارك والتزامه بالنص.. ورغم ذلك، فهو الأكثر ارتجالاً بينهم، وهو ما ترتب عليه أخطاء غير مبررة، وسيطرة نوع معين من الخطاب لا نقول عنه إلا أنه غير رئاسي!! إضافة إلى ذلك، فإن الخطاب الرئاسي الحالي للرئيس السيسي يليق بالسنة الأولى من الحكم لا بالثامنة منه.. هو خطاب عكسي.. يجوز في السنة الأولى أن تقول على الدولة إنها "دولة كهن"، و"شبه دولة"، و"دولة فقيرة قووي"، ويكون ذلك بمثابة أهداف يجب تحقيقها لمواجهتها، وبرنامج عمل يجب تطبيقه للتخلص منها.. أما أن نأتي في نهاية "الماراثون" ونقول إننا لن ندخله فهذا هو النكوص بعينه؛ وهو نكوص يخدش الكرامة الوطنية، وتتحتم معه المساءلة لو صدر من مسؤول آخر في الدولة! في كل خطاب للرئيس السيسي أضع يدي على قلبي رهباً ورعباً، وأردد بعده دائماً "ليته سكت.. ليته سكت".. أخطاء فادحة على الهواء تصبح مادة ثرية لتشويه صورته على القنوات المعادية..

8. يزعم البعض أن الدولة في عصر الرئيس السيسي قد تغيرت وظيفتها ومسئوليتها، وتحولت عن أهدافها المعيارية المعروفة للدولة الحديثة..  فبدلاً من أن تكون وظيفة الدولة ومسئوليتها تحقيق الرفاه لمواطنيها، أصبحت "جابية" ومحصلة للضرائب.. الدولة تعامل مواطنيها بنظام "الالتزام" الذي طبقه محمد علي باشا، وبنظام "الاحتكار" الذي طبقه جمال عبد الناصر.. أطلقت الدولة يد كل "ملتزم" في سحب ما لدى المواطنين، كلٌّ في دائرته وفي زمام مسئوليته.. واحتكرت الدولة تقديم خدمات معينة، والانفراد بمجالات كثيرة.. الدولة تقول لمواطنيها "العدو أمامكم، والبحر خلفكم".. والمواطنون حائرون بين السيء والأسوأ..  الدولة تحاسبنا على الخدمات التي تقدمها بالأسعار العالمية، وتدفع لنا مرتباتنا بالأسعار المحلية.. مرتبات المسئولين التي هي جزء من ضرائبنا في ارتفاع مستمر، ومرتبات أصحاب البلد وممولوها في انخفاض دائم.. الدولة تطبق "مبدأ باريتو" في توزيع ثروات البلد: 80% من أموالنا تصب لصالح 20% من الشعب.. و20% من مواردنا يتم توزيعها على 80% من شعبنا... قديماً، تحدث المؤرخون عن مجتمع النصف بالمائة الذي جاءت ثورة يوليو 1952 للقضاء عليه.. قديما تحدثوا عن "القضاء على الإقطاع وأعوانه".. ماذا تحقق بعد 70 عاما؟! عادت نسبة النصف في المائة في الظهور بقوة، وعاد الإقطاعيون مرة أخرى بأسماء مختلفة، ومسميات أخرى.. لأول مرة في تاريخ مصر، تستحق كل فئاتها "المعونة الحكومية" و"كوبونات الطعام"!! اشتكى الرئيس السيسي من أن "هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه" (يوليو 2013)، وكان نظام الرئيس السيسي أشدَّ قسوة على المواطنين جميعاً وبدون تفرقة مقارنة بسابقيه..
9. يزعم البعض أن الرئيس السيسي يحكم وفق نظرية "التفويض الإلهي": "ربنا اللي جابني للكرسي وهو اللي هيمشيني" (أغسطس 2021).. حصل الرئيس السيسي على تفويض محدد من الشعب في لحظة محددة للقيام بتصرف معين، ثم توسع في بنوده بحيث شمل مناحي الحياة كافة: "أنا مسؤول عن كل شيء في الدولة حتى دينها، وأنا مسؤول عن القيم والمبادئ والأخلاق والدين" (مايو 2014).. الرئيس السيسي أصبح "وصياً" على الشعب وليس "وكيلاً" عنه في إدارة أموره أو "نائباً" له في تصريف شئونه.. الفرق هائل بين المفهومين كما يشير إلى ذلك علماء السياسة ومنظروها Trustee versus Delegate ... لم يستشر الرئيس "الشعب" في سياساته، ولا استعان برأيهم في تحديد احتياجاتهم الأساسية..  وأعلن الرئيس مراراً أن حسابه ليس لدى الشعب وإنما لدى الله "ربنا هيحاسبني وهيقولي أنت كنت فاهم وساكت ليه.. هقوله أصل أنا كنت عايز استمر كنت عايز أفضل على الكرسي على طول فلازم أخلي بالي.. هيقولي الكرسي ده أنا اللي جبتك فيه وأنا اللي همشيك منه.. مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.. لا أحد بيجيب حد ولا أحد بيمشي حد طيب أنت عملت كده ليه أقوله إيه أنا ساعتها؟" (أغسطس 2021).. بل ووصل الأمر إلى أن الرئيس سيقيم الحجة على الشعب لدى الله "والله(لأحاجي) الكل يوم القيامة" (أكتوبر 2020) "أنا عايز يوم القيامة ربنا يشيلني كل حاجة عملتها" (ديسمبر 2021)" أنا هتحاسب على كل موضوع من دول متدخلتش ليه؟؛ أنا مسئول أمام الله سبحانه وتعالى على كل بيت" (مايو 2022) ... حوارات الرئيس الدائمة والمتكررة مع "الله" لا تجوز في الدولة المدنية وليس لها موقع من الإعراب فيها "جه ربنا قال لي طيب أنا هخلي معاك أكتر من الفلوس أنا هخلي معاك البركة" (يوليو 2021) "اللي بيتعمل دة بدعم إلهي.. وربنا بيساعدنا عشان إحنا غلابة" (أكتوبر 2021).. خطاب الرئيس ضرب أصول الحكم المدني في مقتل، وأدخلها في دهاليز غيبية ضيقة.. في أكثر من مناسبة كرر الرئيس السيسي "أنا مش سياسي" (يناير 2018)، و"أنا مش رئيس والله" (مارس 2022)، وهو ما يجعلنا نتساءل: ما الوظيفة الحقيقية التي يتصور الرئيس السيسي أنه يقوم بها؟!
 

10. يزعم البعض أن الرئيس السيسي ليس قارئاً محترفاً للكتب، وأن ثقافته "سماعية" أكثر منها مطبوعة.. يظهر ذلك في مفرداته وطريقة إلقائه.. ليس مطلوباً من الرئيس؛ أيّ رئيس، أن يكون في ثقافة "العقاد"، ومنهجية "طه حسين"، وشاعرية "شوقي"، وخفة ظل "محمود السعدني".. ليس مطلوباً منه أن يكون في عمق "تشرشل"، وسخرية "برنارد شو"، وجاذبية "جون كيندي".. كلُّ ما هو مطلوب من الرئيس، أيّ رئيس، أن يلتزم بما هو مكتوب، ومعد، ومخطط له، دون ارتجال أو تفكير عفوي على الهواء! رئيس أقوى دولة في العالم لا يستطيع أن ينطق كلمة واحدة خارج السيناريو/ الإسكريبت المعد مسبقاً.. ودون استشارة مستشاريه ومعاونيه ومراجعتهم! الرئيس السيسي يفعل عكس ذلك تماماً.. الرئيس السيسي يثق بشدة في قدراته البلاغية والفكرية، وهو ما يدفعه إلى الارتجال على الهواء، وصياغة المبادرات من وحي اللحظة.. فن "الارتجال الوهمي" لا يجيده الرئيس، وهو ما يوقعه ويوقعنا معه في مشكلات عديدة.. كثير من المبادرات التي يعلنها الرئيس على الهواء لا تكون جاهزة، ولا "مستوية" بالشكل الكافي، ويكون مصيرها النهائي عدم النجاح والنسيان.

11. يزعم البعض أن الرئيس السيسي لا يجيد اختيار رجالاته ومساعديه.. عبد الناصر كان يجيد ذلك وساعدته الظروف العامة في إيجاد من يقفون بجواره ويساعدونه.. السادات، السياسيّ الأوحد والأبرز في كل رؤساء مصر، كان يستطيع الفرز، وكان أشبه بالجواهرجي في عالم الحكم.. مبارك على ضعف تكوينه الثقافي فقد عمل على إحاطة نفسه بعديد من رجال السياسة المحترفين.. الرئيس السيسي لا يجيد اختيار من حوله، أو هو لا يريد ذلك مكتفياً بذاته، وباعتقاده عن نفسه "ربنا خلقني طبيب أوصف الحالة.. هو خالقني كدة أبقى عارف الحقيقة وأشوفها.. ودي نعمة من ربنا أدهالي" (يونيو 2015) ... قل لي من هو مستشارك أقل لك من أنت كرئيس... الرئيس حوله مساعدون عديدون، لا يرقى أحدهم لوظيفة المستشار الحقيقي الذي يوجه الرئيس ويضبط إيقاع أدائه الرئاسي... الرئيس السيسي يقف في قصر الاتحادية بلا ظهير فكري أو سياسي.. لا يوجد مفكر حقيقي يقف بجانبه.. ولا يوجد سياسي محنك يقف خلفه، ولا يوجد خبير مجرب يستمد رؤيته منه ويعتمد على رؤاه، في ضوء غياب مراكز التفكير الحقيقية... كل الرؤساء في العالم لهم ظهير فكري (على سبيل المثال في الوقت الحالي ألكسندر دوجين بالنسبة للرئيس الروسي.. وفي الولايات المتحدة بعض الأسماء التاريخية مثل هنري كسينجر، كونداليزا رايس، وغيرهم..... (إلا الرئيس السيسي يكتفي بذاته (ففهمناها سليمان!) (مارس 2019).. كذلك، ومن الناحية الإعلامية، يقف الرئيس السيسي بلا نصير حقيقي، الأسماء المتصدرة للمشهد إعلامياً تسيء للرئيس وتفقده شعبيته أكثر مما تضيف إليه.. عندما نقارن إعلاميّ النظام الحالي بسابقيه نترحم عليهم جميعاً ونشفق على الرئيس السيسي؛ "سعد زغلول" كان معه "العقاد" مدافعاً ونصيراً.. "مصطفى النحاس" كان معه "طه حسين" كاتباً ووزيراً.. "عبد الناصر" كان معه "هيكل" و"ثروت عكاشة" وعشرات المبدعين.. "السادات" كان معه "يوسف السباعي" و"أنيس منصور" و"موسى صبرى".. "مبارك" كان معه "إبراهيم سعدة" و"مكرم محمد أحمد"، وفوقهم "أسامة الباز" و"صفوت الشريف"، وعديد من أسطوات السياسة...  مَنْ في خبرات هؤلاء وبلاغتهم وخبراتهم مع الرئيس السيسي الآن؟!

12. يزعم البعض أن الرئيس السيسي لا يؤمن بدراسات الجدوى، ولا بالبحث المـتأني السابق للتخطيط "لو مشينا بدراسات الجدوى كنا حققنا 25% من اللي حققناه" (ديسمبر 2018).. رغم اتهامه لمنتقديه بعدم الدراسة الكافية لما يقولون: "إنت دارس الموضوع اللي بتتكلم فيه دة؟!" (مايو 2017).. بعض المشروعات الكبرى يتم اقتراحها على الهواء، ويتم ترسية عطاءاتها على بعض الشركات على الهواء (الحاج سعيد نموذجاً (ديسمبر 2021)، والفتاة المعجزة "غادة والي" مثالاً! (يوليو 2018)).. أدخل الرئيس السيسي مبدأ "الفصال العلني" إلى قاموس السياسة المصرية.. شائعات كثيرة عن سيطرة قطاع معين وشركات معينة، ورجال أعمال معينين، على المشروعات القومية.. وأقاويل كثيرة عن عمولات سمسرة ضخمة وراء هذه المشروعات... وهذه كلها مزاعم لا يمكن إقامة الدليل عليها، ونثق في قدرة أجهزتنا الرقابية والمحاسبية وفي كفاءتها، غير أن انتشار مثل هذه المزاعم كفيل بزعزعة الثقة في "النظام العام للدولة"، وفي خفض الثقة في شفافية سياساتها.. تغفر الشعوب هفوات قادتها الأخلاقية، وسياساتهم الفاشلة، شريطة ألا يقترن ذلك بشعورهم بالخديعة، وبأنه تم النصب عليهم واستغفالهم.. غضب الشعوب في هذه الحالة جارم، وسخطهم عارم، وعقابهم أليم.

13. يزعم البعض أن الرئيس السيسي غير قارئ جيد للتاريخ.. ورغم كونه "قائد ثورة 30 يونيو" لاستعادة مصر وهويتها، ورغم إعلانه "أنا بقالي 50 سنة بتعلم وبعلم نفسي يعني إيه دولة" (أغسطس 2021) فإنه لم يدرس أسباب الثورات في العالم، وخاصة مصر.. تشير كتب التاريخ إلى أن أسباب ثورة المصريين على حكامهم طوال تاريخهم تتلخص في: ارتفاع الأسعار، فرض الضرائب، غياب العدالة الاجتماعية، التضييق على الناس في أكل عيشهم، انتشار الفساد.... وتشير تحليلات الماضي القريب والحاضر المعاصر أيضاً إلى أن هذه الأسباب هي ذاتها أسباب الثورات في رومانيا (ضد تشاوشيسكو)، والفلبين (ضد ماركوس)، وسريلانكا مؤخراً (ضد راجاباكسا).. لم يثر الشعب المصري على "عبد الناصر" بعد هزيمته المذلة في (يونيو 1967) لأنه ضمن قبلها للناس أقواتهم ووظائفهم.. وثار على "السادات" (يناير 1977) رغم انتصاره الملهم في (أكتوبر 1973)، لأنه حاول المساس بأسعار سلعهم ولقمة عيشهم.. المصريون يتقبلون القهر ولا يقبلون الفقر.. ونادراً ما اجتمع الفقر والقهر في التاريخ المصري كما اجتمعا معاً في هذه الفترة الأخيرة التي نعيشها!! كان "مكيافيللي" ينصح الأمير "لورنزو" بقوله "رعاياك ربما يسامحونك إن قتلت أباءهم، لكنهم أبداً لن يسامحوك إن سلبت أموالهم".. وكذلك المصريون يا سيدي!! ألا يشعر الرئيس السيسي بما يشعر به كثير من المصريين في الظروف الحالية؟ هل تصل إليه تقارير حقيقية تعكس حقيقة الأوضاع في الشارع؟! في سنواته الأخيرة، انعزل الرئيس مبارك عن الشارع المصري، وتم منع وصول أي تقارير سلبية إليه قد تؤثر على حالته النفسية ومزاجه الشخصي.. وفضَّل مبارك الإقامة في "شرم الشيخ" بعيداً عن القاهرة ومشكلاتها.. هل يعيد التاريخ دورته بهذه السرعة؟! هل تصبح "العاصمة الإدارية الجديدة"، و"العلمين الجديدة" هي "شرم الشيخ" الجديدة؟!!

14. يزعم البعض أن الرئيس السيسي تسبب في تغييب الشعب عن الحياة في مصر.. الشعب آخر من يعلم.. في كرة القدم؛ الجمهور الحقيقي غائب عن الملاعب.. في السياسة؛ الجمهور الحقيقي غائب عن المؤسسات النيابية.. في الثقافة؛ المثقفون الحقيقيون غائبون عن فعالياتها.. في مؤتمرات الشباب؛ الشباب الحقيقي غائب عنها.. حتى في مؤتمر الحوار الوطني؛ المعنيون الحقيقيون بالأمر غائبون عنه.. كل شيء في مصر أصبح له "ديكور" ثابت.. و"راكور" معلوم.. وهناك أكثر من "دوبلير" يقوم بدور الشعب الذي يكتفي "بالفرجة من بعيد" أو القيام بدور "الكومبارس الصامت".. كلُّ شيء أصبح "فيك" (مزيفاً) ويخضع لمؤثرات (الفوتوشوب)! نحن نعيش في دولة (كارتونية)، ومسرح كبير، أو في حي من أحياء مدينة الإنتاج الإعلامي! يزعم البعض كذلك أن النظام السياسي غير عادل في تعامله مع الشعب؛ النظام ينهانا عن أفعال يرتكبها، ويمنعنا من أشياء يدمنها ويأتيها.. النظام غير صادق معنا.. ويعتبرنا "أهل شر" له.. نحن شركاء النظام في الغرم والخسارة، ولسنا كذلك في المغنم والمكسب.. العدل أن نكون شركاء في المغنم والمغرم.. شراكتنا منقوصة سيدي الرئيس، وتلك لعمري "قسمة ضيزى"..

15. يزعم البعض أن ملف حقوق الإنسان في مصر في عصر السيسي يسبب الإحراج والصداع لهذا النظام داخلياً وخارجياً... الحريات السياسية غير موجودة.. حرية الرأي والتعبير في أدنى حالاتها.. ترتيبنا في التصنيف العالمي لحرية الصحافة والإعلام متدنٍ للغاية.. الأطروحة التي صاغها الرئيس السيسي بأن القضاء على الإرهاب ومحاربته حق من حقوق الإنسان ويجَّب الحقوق الأخرى ليست مرضية داخلياً، وليست مقنعة خارجياً... مبادئ حقوق الإنسان الدولية هي الحد الأدنى المتفق عليه لكل إنسان بغض النظر عن ظروفه أو مكانه.. الاختلاف بين الدول يكون في الدرجة وليس في النوع.. في مصر الاختلاف بين الوجود والعدم.. هناك حقوق غير موجودة من الأساس.. الذين يغضون من قيمة هذا الملف، ويشيرون إلى أنه "رفاهية" لا ينتمون إلى هذا العصر الذي نعيشه.. ليس هناك تناقض بين أن يتمتع الإنسان بحقوقه الإنسانية وأن يعيش بكرامة اقتصادياً.. من قال إنه يوجد تعارض بين الأمن والحرية؟ أو بين الكرامة والحق في الحياة؟ (لا تسقني كأس الحياة بذلةٍ.. بل فاسقني بالعز كأس الحنظل).
 

16. يزعم البعض أن الرئيس السيسي قد قلل من مكانة وأهمية منصب رئيس الوزراء والوزراء في مصر.. الرئيس لا يحتاج إلى رئيس مجلس وزراء ولا يحتاج إلى وزراء.. يحتاج إلى مدراء تنفيذيين، وإلى سكرتارية خاصة.. وهذا ما عهدناه في سلوك مؤسسة الرئاسة مع الوزراء ما بعد ثورة يوليو 1952، ولكنه الآن في قمة تطوره.. الرئيس "محمد نجيب" مع رئاسته للدولة، ترأس الحكومة ومجلس الوزراء ثلاث مرات.. الرئيس عبد الناصر، إضافة إلى رئاسته للدولة، ترأس الحكومة ومجلس الوزراء عشر مرات.. الرئيس السادات فعل الأمر نفسه؛ وترأس الدولة ومجلس الوزراء ثلاث مرات، إضافة إلى ترأسه الحكومة في الفترة الانتقالية بعد وفاة عبد الناصر وحتى انتخابه رئيساً.. الرئيس مبارك ترأس مجلس الوزراء لمدة ثلاثة أشهر تقريباً بعد وفاة السادات.. لماذا لا يفعلها الرئيس السيسي ويتولى رئاسة الحكومة إضافة إلى رئاسته للدولة مثلما فعل الرؤساء السابقون؟!! رئاسة مجلس الوزراء حالياً هي "لوحة نيشان" (لوحة رمي السهام) لاستقبال النقد بديلاً عن الرئيس نفسه..  المدح والمجد كله للرئيس، والقدح والنقد كله لرئيس مجلس الوزراء، رغم أنهما واحد، وقراراهما واحد! رئاسة الوزراء أصبحت منصباً بروتوكولياً شرفياً، وأصبحت مهامها شكلية.. ولم تعد تفترض فيمن يتولى مسئوليتها "ثقلاً سياسياً"، أو "خبرة اقتصادية".. اختيارات الرئيس السيسي لشخصيات رؤساء حكوماته تتفق مع تصوره عن فكرته عن مشروعه كبنَّاء وكمقاول.. دون التفات إلى الأبعاد الاجتماعية والإنسانية للاقتصاد وللسياسة، وهو ما لا يعيه كثير من رؤساء الحكومة المتعاقبين في عهد الرئيس السيسي! لقاءات الرئيس مع الوزراء ومساعديهم تتم بشكل مباشر دون المرور على بوابة رئيس الوزراء.. منصب الوزير أيضاً أصبح منصباً شرفياً؛ تستطيع أية وزارة أن تستمر في عملها بدون وزير عدة أشهر!! ويستطيع وزير واحد أن يدير شئون عدة وزارات دون أن يؤثر ذلك على دولاب العمل في أية وزارة!!
 

17. يزعم البعض أن إدارة الرئيس السيسي وحكومته لشئون الدولة تقوم على مفهوم "اللقطة السريعة"، و"المبادرات غير المكتملة".. الرئيس السيسي أكثر رؤساء مصر شبهاً بالرئيس السادات في غرامه بوسائل الإعلام وبطريقة ظهوره فيها.. السياسات الحكومية الحالية هي "مبادرات" سريعة وعاجلة" لحل مشكلات دائمة وقديمة.. المهم فيها "اللقطة".. الصورة الذهنية لأي رئيس هي أحد مقومات استمراره، وأحد ركائز شرعيته.. وبديهي أن يهتم كل رئيس بها، غير أن الصورة التي يتم تقديم الرئيس السيسي بها، والإطار الذي يتم وضعه فيه، لا يفيده، ولا يضيف إليه.. "كادرات" مكررة، وأفكار باهتة، كثيراً ما تضر بصورته العامة، وبالمصلحة العامة.. على سبيل المثال، من نصح الرئيس السيسي بركوب "دراجته" والظهور بها يوم مناقشة مجلس الأمن لموضوع سد الخراب الأثيوبي؟! (يوليو 2021).. ومن نصحه بركوب "الدراجة" ذاتها يوم انتهاء الملء الثالث للسد (أغسطس 2022)؟! من نصح الرئيس السيسي بالحديث بهذه الطريقة إلى الشعب؟!... كثير من الرؤساء لديهم "مستشار للرأي العام ولإدارة الصورة الذهنية".. وعادة ما يكون هؤلاء خبراء في هذا المجال.. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، ومنذ الأربعينيات، يوجد في البيت الأبيض مستشار أو أكثر لشئون الرأي العام.. في عهد روزفلت، تم تعيين "هادلي كانتريل".. وفي عهد كينيدي، تم تعيين "لويس هاريس".. وكان "بات كاديل" مستشارا لكارتر.. وكان "ريتشارد ويرثلين" مستشاراً لريجان.. وكان "ستانلي جرينبرج" مستشارا لبيل كلينتون.. وكان "بول هارستاد"، و"جويل بينسيون" مستشارين لأوباما..  وكان "ستيفن ميلر" مستشاراً لترامب.. وكلها أسماء بارزة في مجال صناعة الرأي العام وقياساته..   من يدير هذا الملف في رئاسة الجمهورية؟ هل يقوم الرئيس بنفسه بإدارة هذا الملف الهام؟!

18. يزعم البعض أن سياسات الرئيس السيسي الاقتصادية قد أدت إلى تغيرات اجتماعية خطيرة، وأن هذه التغيرات من القوة بحيث أحدثت تحولات سلبية في البنيان الاجتماعي للشعب... معدلات الفقر المتزايدة والتي وصلت إلى نسب غير مسبوقة، أدت إلى ارتفاع حالات الطلاق بنسب غير مسبوقة أيضاً. الفقر هو القاسم المشترك والعامل الحاسم وراء معظم حالات الطلاق.. العنف الاجتماعي مظهر آخر من مظاهر الحياة المصرية في السنوات الأخيرة.. اختلال منظومة القيم، وسيطرة المادية والمظهرية والتفسخ الاجتماعي، وبروز الطبقية، والتباعد الاجتماعي بين فئات المجتمع المصري، كلها مظاهر للتغيرات التي حدثت في السنوات الأخيرة... ما أحدثته السياسات الاقتصادية في عصر الرئيس السيسي من آثار اجتماعية سلبية شبيه بتلك الآثار المترتبة على تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي غير المدروس في آواخر عصر الرئيس السادات.. الأنوميا الاجتماعية Social Anomy (فقدان المعايير واختلال القيم المجتمعية) هي جماع وملخص لما حدث في السنوات الأخيرة، دون وجود حائط صد ثقافي وسياسي يمنع من حدوث هذه التحولات ويحاول استيعابها والتقليل من آثارها.

19. يزعم البعض أن نظام الرئيس السيسي يبرر فشل السياسات الداخلية بالظروف الدولية.. قيل في تبرير شق "قناة السويس الجديدة" (2016) أنها ستدر على مصر دخلاً سنوياً يقدر بمائتي مليار دولار سنوياً!! ثم قيل في تبرير عدم تحقق هذا الوعد أن العالم يمر بحالة كساد اقتصادي غير مسبوق... قيل إننا كنا على وشك أن نكون أقوى اقتصاد في المنطقة لولا "كورونا"!! وكنا سنتجاوز عنق الزجاجة لولا الحرب الروسية في أوكرانيا!! وكنا سنكون في مصاف الدول المتقدمة لولا "الإرهاب العالمي" ... المؤكد لديّ أن الظروف الدولية لا تنتهي.. والإدارة الناجحة جزء منها يقوم على "توقع المخاطر" والاستجابة لها.. والإعداد الجيد لها قبلها بفترة طويلة.. في خطاب الاعتراف بالهزيمة والتنحي (يونيو 1967)، برر الرئيس عبد الناصر هزيمتنا بالمفاجأة: "انتظرناهم من الشرق فجاءوا من الغرب"! المنطق نفسه يسيطر على تفكير الإدارة الحالية.. لم نتوقع التغيرات الدولية، وهي التي أثرت على مشروعاتنا الداخلية.. وفي كل الأحوال نحن في مكانة متميزة "مش أحسن ما نكون زي سوريا والعراق"!!

20. يزعم البعض أن إدارة الرئيس السيسي لا تتعلم من أخطائها، ولم تتعلم من أخطاء الإدارات السابقة.. تخلط إدارة الرئيس السيسي عملاً صالحاً وآخر سيئاً.. والمحصلة صفرية في النهاية.. وهو الواقع الذي نعيشه حالياً!!  

لا حياء في الدين، ولا في السياسة..  لا أخفي حبي للرئيس السيسي، ودعمي لنظام حكمه.. غير أنه عندما يتعلق الأمر بمصر، فلتكن مصر فوق الجميع.. ولتكن المصارحة هي طريقنا إلى الإصلاح.
في المقال القادم (4- 5) نعرض لبعض المقترحات والأفكار التي تقدم تصوراً شخصياً لمستقبل الحكم.. ما الذي يتوجب على الرئيس السيسي فعله خلال السنوات القادمة؟ ونعرض لبعض المبادرات التي أتصور ضرورة طرحها في هذا الإطار.. وعلى الله قصد السبيل.

رابط المقالين السابقين والمقال الحالي في ملف PDF  
المقال الأول: التمهيد
المقال الثاني: إنجازات الرئيس السيسي
المقال الثالث: إخفاقات الرئيس السيسي
https://drive.google.com/file/d/1If_GZUJn9j78uLGjaTeZdobOtgd96h0d/view?usp=sharing

التعليقات (0)