- ℃ 11 تركيا
- 24 نوفمبر 2024
د. الشفيع خضر سعيد يكتب: ثورة السودان والثورة الرقمية
د. الشفيع خضر سعيد يكتب: ثورة السودان والثورة الرقمية
- 22 أغسطس 2022, 5:24:52 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تُعرف الثورات الصناعية بأنها طفرات علمية وتكنولوجية جديدة وطرق مبتكرة لرؤية العالم من حولنا والتعامل معه، مما يقود إلى تغيير عميق في البُعدين الاقتصادي والاجتماعي لصالح تحسين حياة الإنسان، بالإضافة إلى تطوير المفاهيم والتعميمات الفلسفية.
ومعروف أن الثورة العلمية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وعبر اكتشافات قانون بقاء المادة والحركة وقانون تحول الطاقة والنظرية الخلوية والنظرية الداروينية إضافة إلى إكتشافات العلوم الطبيعية الاخرى، وجهت ضربة صاعقة للمفاهيم التبسيطية التي كانت سائدة آنذاك وتقول إن العالم لم يتغير منذ وجوده وأن لا شيء في الطبيعة يتغير أو يولد من جديد. وكانت تلك الضربات الصاعقة من المقدمات الضرورية لنشوء العيد من الأفكار الفلسفية ومن بينها الفلسفة الماركسية. ويسجل التاريخ حدوث أربع ثورات صناعية أجمع المؤرخون على أنها غيرت مجرى حياة الناس، وأسهمت في تغيير وقائع الحضارة الإنسانية. وتفاصيل هذه الثورات الأربع يمكن لأي راغب أن يطلع عليها في المواقع الإسفيرية أو في أي من المصادر الأخرى التي تؤرخ لتطور المجتمع البشري، مع الأخذ في الإعتبار أن الثورات الصناعية ليست مجرد تاريخ، بل حاضر ومستقبل.
أما ما يهمنا في هذا المقال فهو الثورة الرقمية التي اندلعت مع إنفجار الثورة الصناعية الثالثة في ثمانينات القرن الماضي والتي فتحت المجال أمام تطورات استخدام الحاسوب والإنترنت وتطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ثم تطورت مع انفجار الثورة الصناعية الرابعة في مطلع الألفية الجديدة والتي أنجبت دمج التقنيات التي تطمس الخطوط الفاصلة بين المجالات المادية والرقمية والبيولوجية. وبانفجار الثورة الرقمية، شهدت عملية التواصل بين الناس وانتقال المعرفة وتبادل المعلومات طفرة كبرى عبر تدوير المعلومة بين أعداد ضخمة من البشر المرتبطين ببعضهم البعض عبر الفيسبوك أو الواتساب أو غيرهما من الوسائط والتي أيضا تعمل كمنصات إعلامية، وتغيرت مفاهيم التواصل بين الحكومات والشعوب، إذ لم تعد المعلومة حكرًا على الحكومات أو الأجهزة الأمنية، ولم تعد الحكومات وحدها هي القادرة على السيطرة والهيمنة على الأفكار والعقول والقلوب. والثورة الرقمية قلصت قدرة الأنظمة على شل الحركة بالإعتقال، وفي نفس الوقت كسرت العقلية النخبوية للعمل المعارض، وخلقت ميادين ومنظمات إفتراضية لتوسيع أفاق العمل السياسي، يمكن ترجمتها إلى قوة خارقة على أرض الواقع لإحداث التغيير.
لم ينتبه رواد الوسائط إلى حقيقة أن كيفية اختيار رئيس الوزراء، وليس اسمه، وعلى أي سند دستوري سيتم اختياره وإختيار حكومته، وماهية البرنامج الذي ستنفذه هذه الحكومة، هي المعضلة الرئيسية في الأزمة الراهنة
لكن أدوات ثورة الاتصال والمعلومات ستظل مجرد آلات صماء عمياء إذا لم تدرها عقول فعالة تحسن قراءة الواقع وتحولاته، وتترجم معطياته إلى مبادرات مبتكرة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ففي الجانب الآخر من المسألة، جاءت الثورة الرقمية بمفاهيم جديدة تشمل التجسس الإلكتروني واختراق الشبكات بين الأفراد والدول، إضافة إلى ولادة الكثير من الظواهر السلبية، والخطيرة أحيانا، على المستوى الفردي مثل الاحتيال، سرقة الهوية، اختراق الخصوصية وانتهاك الحقوق العامة والخاصّة، إرتكاب الجرائم ضد المستخدمين، التنمر الإلكتروني، انتحال الشخصيات والتزوير، ومحاولات إغتيال الشخصية. أما على المستوى الاجتماعي، فمثلما لعبت الثورة الرقمية ووسائلها للتواصل الإجتماعي دورا هاما وأساسيا في إندلاع وإنتصار الحراك الشعبي في العديد من البلدان مثل ثورات الربيع العربي وثورة ديسمبر/كانون الأول في السودان، فإن دوائر الثورة المضادة تستخدمها لفرملة مسار التغيير أو إختراقه وتصفية محتواه الثوري، خاصة إبان المنعطفات والصراعات الاجتماعية الحادة التي دائما ما تتفجر عقب إنجاز المرحلة الأولى من مراحل التغيير، أي الإطاحة بالنظام السابق، والبدء في تنفيذ شعارات وبرامج الثورة. ففي السودان، وفي ظل الأزمة الحادة الجاثمة اليوم على صدر بلادنا حد الإختناق، تسعى دوائر الثورة المضادة داخل البلاد، وكذلك أجهزة الاستخبارات الأجنبية التي يزعجها التغيير في السودان، تسعى لبناء حسابات ومنصات رقمية بأسماء وهمية تبث عبرها الأفكار الهدّامة والشائعات والأكاذيب، وتسعي لاغتيال شخصيات قادة الحراك الشعبي والقيادات الوطنية المؤثرة سياسيا وإجتماعيا وتتبنى أهداف الثورة.
وإذا كان نشاط دوائر الثورة المضادة والاستخبارات الأجنبية المعادية عبر وسائل التواصل الإجتماعي مفهوما ومبررا ومتوقعا، فإن الخطل الأكبر والذي يسبب أضرارا كبيرة هو تعاملنا غير الواعي، حد السذاجة أحيانا، مع محتويات هذه الوسائط. فمثلا، كثيرا ما تأتي الوسائط بخبر أو معلومة ذات أبعاد خطيرة، ولكن دون الإشارة إلى مصدر محدد والإكتفاء بعبارة “أفادت مصادر موثوقة” أو “يدور في الأوساط السياسية” أو “خبر عاجل…”، ونقرأ نحن الخبر مركزين على محتواه غير مهتمين بغياب مصدره، وننخرط في مجادلات تلهينا عن الأهم، بينما الخبر إما مفبرك أو سم مدسوس في العسل، أو يخدم أغراض جهة ما. خذ مثلا الخبر المنتشر في الوسائط ويحمل ترشيحات أسماء لتتولى رئاسة الوزراء. في الخبر لا يوجد أي مصدر يُنسب إليه، والموجود فقط هو “علمت مصادرنا” أو “أفادت الأخبار…”! ومعروف أنه حتى اللحظة لم يحدث أي توافق حول طبيعة وتركيبة الجهة التي ستختار رئيس الوزراء، ومع ذلك فإن تعاملنا غير الواعي مع خبر الوسائط انصرف إلى مناقشات وتحليلات حول أسماء الشخصيات المرشحة والتي ربما جاءت نتاج أفكار وأحلام رغائبية من رواد الوسائط، أو هي مجرد بالونات اختبار من جهات بعينها، أو الغرض منها حرق بعضها، ما دام الجهة المرشحة غير مذكورة ويسهل التأويل هنا. لم ينتبه رواد الوسائط إلى حقيقة أن كيفية اختيار رئيس الوزراء، وليس اسمه، وعلى أي سند دستوري سيتم اختياره وإختيار حكومته، وماهية البرنامج الذي ستنفذه هذه الحكومة، هي المعضلة الرئيسية في الأزمة الراهنة. أما اختصار هذه الأزمة في تسمية رئيس الوزراء دون تصفية جوهرها المتمثل في تداعيات وإجراءات إنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2021، وقبل أي إتفاق سياسي جديد ووثيقة دستورية جديدة، لهو إستهتار بالثورة وتقليل من قيمة تضحية شهداءها، وعمليا لن يحقق ذلك أي استقرار، بل ستزداد الأزمة اختناقا.
٭ كاتب سوداني