د. ايمن منصور ندا يكتب : الإعلام الناقص وسنواته العجاف

profile
د.أيمن منصور ندأ رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة
  • clock 25 يونيو 2021, 6:57:50 م
  • eye 1103
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

على بركة الله نبدأ جولة جديدة من التفكير والكتابة حول قضايانا الإعلامية..

(هذه شهادتي على حال الإعلام في سنواته الأخيرة.. والشهادة مثل الصلاة لها مواقيتٌ معلومة، وتُؤَدى في أوقاتها؛ فلا خير في كلمة تقال في غير أوانها، ولا في شهادة يتم كتمانها وقت الحاجة إليها.. هذا المقال بأجزائه العشرة يعبر عن رأيي الشخصي.. وليس له علاقة بصفتي الوظيفية، أو بالكلية التي أعمل بها، أو بالجامعة التي أشرف بالانتماء إليها).

 الجزء الأول: المقدمة والتمهيد (1- 10)

  أسرار الدولة

في سنوات الحرب العالمية الثانية، وبينما كان رئيس وزراء بريطانيا الأشهر "ونستون تشرشل" في طريقه إلى مكتبه، اقتحم شخص موكبه، ونادى على تشرشل: يا غبي، يا جاهل! فما كان من رجال الشرطة إلا أن قبضوا على الرجل واعتقلوه.. وهنا ثارت المعارضة، واستدعاه البرلمان، وسأله أحد الأعضاء: هل يجوز أن تعتقل الشرطة مواطناً لمجرد أنه قام بسبك؟! أجابه تشرشل: إن الشرطة لم تعتقله لأنه سبّني بل لأنه أفشى سراً من أسرار الدولة!! 

ولست أدري هل أفشي أنا أيضاً سراً من أسرار الدولة عندما أشير إلى أنَّ أداء الإعلام المصري في سنواته الأخيرة إزاء كثير من القضايا المصيرية يتسم بالغباء والجهل معاً، وأنَّ أداء المسئولين الإعلاميين يتسم في مجمله بالتواضع وعدم الكفاءة، وأنَّ مهارات كثير من الإعلاميين وخبراتهم  لا تؤهلهم للاشتراك في مسابقات الهواة؟  وأنَّ منظومة الإعلام المصري تحتاج إلى ثورة حقيقية في حلقاتها كافة .. حلقات بعضها من بعض، تعاني وهناً على وهن. 

 ولست أدري أيضاً هل يتم اتهامي بالخيانة العظمى عندما أشير إلى أنَّ السنوات الأخيرة في الإعلام هي الأسوأ في تاريخ الإعلام المصري، وأننا مقبلون على "نكسة" إعلامية كبرى إلا إذا تداركتنا يد العناية، وانتبه عقلاء هذا الوطن إلى تأثير ذلك على أمننا العام؟ .. أوجه الشبه بين أداء الإعلام في الفترة ما بين مايو 1960 ويونيو 1967 وأدائه خلال الفترة ما بين يونيو 2013 ويونيو 2021 كبيرة إلى حدّ التطابق.. مع فارق وحيد لصالح الفترة الأولى؛ وهو أنَّه كان يقوم على شئون الإعلام ويمارسه "أساتذة وأسطوات"، واليوم حالنا لا يخفى على أحد مع البلية والصبية الجدد!... المقدمات المتشابهة تؤدي إلى نتائج متطابقة.. فياليت قومي يفهمون ويعقلون  (أرى تحت الرمادِ وميضَ نارٍ.. ويوشكُ أنْ يكونَ لها ضرامُ .... فإنْ لم يطفها عقلاءُ قومٍ ... يكون وقودها جثثٌ وهامُ).. 

    الإعلام الناقص 

في كتابه الشهير "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟"، أشار الأمير شكيب إرسلان (1930) إلى عدة أسباب لتخلف الأمة الإسلامية (يقصد بها الشرق في مقابل الغرب)، منها وعلى رأسها مفهوم "العلم الناقص".. علوم العرب ناقصة غير مكتملة.. فيها دائماً "حاجة غلط" أو نقطة غير مكتملة.. العلم الناقص أخطر على الأمة من الجهل التام.. وعلى حدّ تعبيره :" من أعظم أسباب تأخر المسلمين العلم الناقص، الذي هو أشدُّ خطراً من الجهل البسيط؛ لأنَّ الجاهل إذا قيّض الله له مرشداً عالماً أطاعه ولم يتفلسف عليه، فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنَّه لا يدري، وكما قيل: إبتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون، أقول: إبتلاؤكم بجاهل خيرٌ من إبتلائكم بشبه عالم"!! 

إعلامنا ليس استثناء من حالتنا العامة، "كلنا نسبح في  نفس البحر".. إعلامنا في السنوات الأخيرة "ناقص" معنىً ومبنىً.. شيءٌ ما ينقصه يجعله لا يقوم بوظائفه الرئيسة، أو يقترب منها.. إعلامنا أشبه بالدواء الذي بلا مادة فعالة.. وأقرب إلى نهر الفرات حالياً؛ مجرى بلا ماء!.. إعلامنا جعجعة بلا طحين! 

سبعة نواقص رئيسة في إعلامنا في هذه السنوات الأخيرة، يمكن الإشارة إليها إجمالاً وقبل تفصيلها لاحقاً في أجزاء المقال التالية: (1) الحرية .. إعلامنا ليس حراً.. هناك عديد من القضايا لا يتم معالجتها إلا بإذن.. وفي نطاق محدد.. (2) التخطيط .. العقل المخطط .. المدير الفني .. الكوتش.. رؤية الدولة للإعلام تقوم على فكرة "الخادم المنفذ"، وليس "الشريك المساعد".. الإعلام أو من يمثله ليس شريكاً في عملية صنع القرار.. ولذلك ينتظر الإعلام التوجيهات والتلقينات.. إعلام اليومية لا يحقق أهدافاً استراتيجية.. (3) المهنية والاحترافية.. تطبيقات الإعلام في مصر لا تخضع للحد الأدني من قواعد المهنية والحرفية.. أصبح الإعلام ساحة مستباحة لكل من هب ودب.. ومهنة من لا مهنة له.. (4) التعددية.. إعلامنا ذو بعد واحد.. أشبه بالإنسان ذي البعد الواحد على حد تعبير المفكر الأمريكي هربرت ماركوز Marcuse .. شاشاتنا واحدة، وجرائدنا واحدة، وإذاعاتنا واحدة.. نسخة واحدة ووحيدة وطبق الأصل بلا تنوع أو اختلاف (5) الرشد أو العقلانية.. وسائل إعلامنا تقوم على دغدغة المشاعر والأحاسيس.. لا يوجد "صوت رشيد" بين الأصوات الزاعقة.. إعلامنا في السنوات الأخيرة وبالمقاييس العلمية هو مجرد "هرتلة"، وشوشرة، وصراخ.. ليس به جملة عقلانية مفيدة يمكن تكرارها، أو لعبة حلوة يمكن الاستمتاع بها..  (6) القدرة الهجومية/ الاستباقية.. إعلامنا يكتفي بدور "حارس المرمي" الذي يحاول الدفاع عن شباكه.. غير أنه لا يجيد صناعة الأهداف أو إحرازها.. نحن إعلامياً "حصالة" لإعلام القوى المعادية لنا.. (7) الإرادة.. تحليل الأداء الإعلامي يشير إلى غياب الإرادة الفاعلة لتغييره أو لتحسينه رغم وضوح أخطائه وخطاياه.. وعلى حد تعبير الأمير شكيب أرسلان "مَلاكُ الأمــر هو الإرادة، فمتى وجدِت الإرادةُ، وُجِد الشيء المراد".. ‼️  

ومن المضحكات المبكيات في أيامنا، أنَّ بعض الذين أغرقوا نظام الرئيس مبارك وقفزوا من سفينته في اللحظات الأخيرة يقومون بالدور نفسه مع الرئيس السيسي، ويعزفون له اللحن نفسه الذي تم عزفه لمبارك.. رجال كل العصور، والآكلون على كل الموائد حاضرون بقوة في المشهد الإعلامي الحالي (زعم الفرزدقُ أنْ سيقتلَ مُربعاً.. أبشرْ بطولِ سلامةٍ يا مربعُ!).  

    فقه الاختلاف

لست في حاجة إلى تكرار الإشارة إلى انتمائي إلى الدولة المصرية، ووقوفي معها وبجانبها في خندق واحد ضد أعدائها.. كنت، ولا أزال، أرى أن ثورة 25 يناير أفضل ما حدث لمصر بعد حرب أكتوبر 1973.. وأن ثورة 30 يونيو كانت ثورة تصحيحية لبعض أخطاء ثورة يناير ولانحرافاتها..  وإن وقعت هي الأخرى في بعض الأخطاء.. فكل ثورة، وإنْ علت، لها ما لها وعليها ما عليها..

 انتمائي لنظام الحكم الحالي وتأييدي وحبي للرئيس السيسي ليس موضع نقاش أو مزايدة.. غير أنَّ هذا الانتماء، وذلك التأييد والحب، لا يعني الاتفاق الدائم في وجهات النظر..  صحيح أنَّ هناك ثوابتَ ومسلماتٍ نتفق عليها جميعاً على اختلاف توجهاتنا ومواقفنا، غير أنَّ الكاتب الحق والمفكر الحر- في غير هذه الثوابت والمسلمات- يجب أنْ يكون  على "يسار" السلطة؛ يرشدها، ويوجه أعمالها، ويراقب شئونها.. وظيفة "مهرج الملك"، أو "حامل المبخرة" لا تليق بمن يشتغل بالفكر.. ولا ينبغي له ذلك.. هناك مجالات إنجاز كثيرة تدعو للزهو وللفخر.. وهناك مجالات عديدة من بينها الإعلام والثقافة، تحتاج إلى إعادة نظر.. ومن يحاولون إيهام الناس بأن السياسات الحكومية الحالية وتوجهات الدولة الراهنة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها في كل المجالات موهومون، ومخادعون.. 

إنجازات الدولة في مجالات عديدة في السبع سنوات الماضية تجعلني أشعر بالغبطة وبالغيظ (وليس الغيرة).. طفرات وقفزات عالية في مجالات تنموية مختلفة.. غير أنها في مجال الإعلام  تبدو عكسية.. سيارة الإعلام ترجع إلى الخلف.. جرأة الدولة وشجاعتها في مجالات متعددة ليست موجودة في المجال الإعلامي.. الخوف هو سيد الموقف.. والأفكار المرتعشة هي الغالبة رغم قبضة الدولة الحديدية على وسائل الإعلام..

علَّمنا التاريخ أنه بعد السنوات اليابسات العجاف تأتي السنوات الخضر السمان، وبعد المحنة تأتي المنحة، وبعد الضيق تأتي الإنفراجة.. وإن لم يعلمنا التاريخ عدد السنوات العجاف، أو طول المحنة،  إذ قد تمتد إلى قرون إن لم يتم معالجة أسبابها.. الصبر بمفرده ليس حلاً.. والأمنيات وحدها غير كافية.. ووضع الإعلام المصري يحتاج إلى جراحة عاجلة قبل فوات الآوان!

في هذا المقال بأجزائه العشرة، سيتم طرح عدد من الأسئلة الجوهرية، وسنحاول الإجابة عنها بقدر كبير من الموضوعية والصراحة والمكاشفة.. ومنها:

1. ما تصور النظام السياسي بعد ثورة 30 يونيو لدور الإعلام؟ وما الأطر الحاكمة له؟

2. ما تصور الإعلاميين لدورهم في المشهد السياسي؟ وما أدواتهم لتحقيق هذا الدور؟

3. من يدير ملف الإعلام في مصر؟ وما هي مؤهلاته؟ وهل  نجح في هذا الملف؟

4. كيف عالجت وسائل الإعلام المصرية قضايانا المصيرية؟ (السد الأثيوبي- تيران وصنافير- برنامج الاصلاح الاقتصادي – أولويات الإنفاق الحكومي- أداء الحكومة والوزراء......)؟ 

5. لماذا تفشل حملاتنا الإعلامية؟ ولماذا لا يحقق إعلامنا الأهداف المنشودة منه داخليا وخارجياً؟ وما أبرز الأخطاء التي وقع فيها الإعلام المصري في السنوات الأخيرة؟ وما نقاط القوة والضعف في حملتي (الجمهورية الجديدة- 7 سنوات من الإنجازات)؟ 

6. ما خصائص أداء المؤسسات الإعلامية الراهنة؟ وكيف يمكن تفعيل أدائها؟ وهل يتناسب أداؤها مع الاحتياجات الحالية والمتطلبات الراهنة؟ 

7. ما التصورات المستقبلية لإدارة ماسبيرو؟ وكيف يمكن الخروج به من مأزقه الحالي؟

8. هل نحتاج إلى وزارة إعلام؟ وكيف السبيل لتفعيل دورها؟

9. هل نشهد احتكاراً إعلامياً في مصر؟ ما سماته وأشكاله؟ وكيف يمكن مواجهته؟

10. ما طريقة تعامل الدول الأخرى ذات التجارب المتشابهة مع الملف الإعلامي؟ وهل نجحت في ذلك؟ وكيف نستفيد من هذه التجارب؟

وختاماً.. أدعو الزملاء والمختصين إلى الاشتباك بالتعليق والنقد على هذه المقالات.. فالحقيقة لا يملكها أحد، والصواب ليس حكراً على فرد أو قصراً على جهة.. المهم أن نتمتع جميعاً بالموضوعية دون غيرها، وبإعلاء القيم المهنية على أية اعتبارات شخصية، أو تحيزات ذاتية.. والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل..

التعليقات (0)