- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
د. سعيد الشهابي يكتب: التديّن والإلحاد بين الفطرة والتسييس
د. سعيد الشهابي يكتب: التديّن والإلحاد بين الفطرة والتسييس
- 11 يوليو 2022, 3:24:23 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
هل يمكن القول أن الإلحاد أصبح ظاهرة تجتاح العالم؟ أم أنها إحدى الظواهر الاجتماعية التي تنحسر تارة وتنتشر تارة اخرى؟
هذا السؤال ليس جديدا، وإن شعر بعض الدوائر الدينية بقلق إزاء ما يبدو من انحسار نسبي لظاهرة الالتزام خصوصا في العالم الإسلامي. الأمر الذي يمكن تأكيده أن ظاهرة الصحوة الإسلامية التي عمت مناطق كثيرة من العالم بدأت منذ أكثر من عقد بالتراجع لأسباب عديدة، ولكن ذلك لا يعني أن الإلحاد حل مكانها، بل إن الالتزام بالدين ظاهرة صاحبت الإنسان منذ بداية وجوده على هذا الكوكب. فهناك ثلاثة تجليات للظاهرة الدينية: أولها انتشار الدين كعقيدة في المجتمع وتبني المجتمع للدين كإطار لحياتهم العامة مع اختلاف في مدى حضوره في الحياة العامة. ثانيها: ظاهرة الالتزام الديني وتجلياتها الواضحة كارتياد المساجد وارتداء الحجاب من قبل النساء وربما إطلاق اللحى لدى الرجال، بالإضافة للفعاليات الأخرى كالندوات والمؤتمرات والمقالات والكتب والاحتفالات الدينية. أما البعد الثالث فيتجلى بحضور الدين في الحياة العامة، الذي بلغ ذروته في توسع الحركات الإسلامية أو ما أطلق عليه «الإسلام السياسي» الذي صاحبته شعارات أثارت القوى المضادة للدين وأهمها: الإسلام هو الحل. وبمراجعة هذه الأبعاد يمكن القول إن ظاهرة الانتماء الى الدين لم تنحسر في العالم الإسلامي، برغم سعي بعض الحكام لإضعافه. فأغلب دساتير الدول العربية والإسلامية ينص على أن «الإسلام دين الدولة». ولذلك تصاعدت الانتقادات وخرجت المظاهرات عندما قرر الرئيس التونسي الحالي بعد انقلابه على ما تبقى من مكتسبات الثورة التي دشنت الربيع العربي قبل أقل من اثني عشر عاما، إلغاء المادة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة من دستوره الذي رفضته قطاعات واسعة من الشعب التونسي. وبعيدا عن النصوص الدستورية فإن العقيدة شأن يخص الفرد ولا يحتاج لانتشاره الى تقنين. صحيح أن الأديان الأخرى خصوصا المسيحية تشهد انكماشا في الانتماء، وأن مرتادي الكنائس في تناقص مستمر، ولكن ما يزال للزعامات المسيحية دورها السياسي والاجتماعي، وما يزال بابا الفاتيكان شخصية مرموقة عالميا ويحظى باحترام واسع أينما ذهب.
بعد اربعين عاما من بدء حقبة الصحوة الإسلامية، بدأت ظاهرة الالتزام الديني بالتقلص لأسباب من بينها إفشال ثورات الربيع العربي واستهداف «الإسلاميين» بشكل خاص بسبب تصدرهم المشهد الثوري، وتضافر القوى المضادة للثورة للإجهاز على المسار الثوري وإفشال الحراك العربي، وتبني مشروعات إعلامية واسعة لدعم ذلك التوجه. ويمكن ملاحظة الارتباط بين استهداف الظاهرة الإسلامية وتجلياتها السياسية من جهة وفرض مسار التطبيع في العالم العربي من جهة أخرى. وما شهده بعض دول مجلس التعاون الخليجي من «انفتاح»، من وجهة نظر الغرب، إنما تجلى في جانبين: استهداف الظاهرة الدينية وتجلياتها الاجتماعية والسياسية والتخلي عن قضية فلسطين باعتبارها أحد الروافد التاريخية الأساسية للمسارين الديني والثوري. والسؤال هناك هل نجم عن ذلك توسع ظاهرة الإلحاد؟ إن من الصعب القول بأنها أصبحت مهيمنة على المشهد العقيدي والثقافي في العالم العربي. صحيح أن هناك انحسارا لتجليات الظاهرة الدينية كالحجاب وإطلاق اللحى وانتشار الموضات ومظاهر التحلل الأخلاقي، ولكن ذلك ليس كافيا للقول بوجود ظاهرة الإلحاد على نطاق واسع. مع ذلك فلا بد من الاعتراف بوجود مشاريع لدى تحالف قوى الثورة المضادة في ذلك الاتجاه. وهذا التوجه مدعوم من القوى الغربية بحماس كبير تحت عناوين براقة في مقدمتها ضمان الحرية الشخصية في الاختيارات العقيدية او حتى الهوية الجنسية للفرد. هذه الثقافة التي شقت طريقها للمجتمعات الغربية في السنوات الأخيرة تحظى بدعم واسع من مجموعات الضغط الليبرالية وكذلك دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. هؤلاء لا يكتفون بانتشار هذه الثقافة في مجتمعاتهم فحسب، بل يسعون لترويجها عالميا، ويرون فيها مشروعا موازيا للمشروع الإمبريالي الرأسمالي. ويزيد من خطر هذا التوجه انه مدعوم بالقانون وتروّجه وسائل الإعلام، ويفرض بهذه الوسائل على الجهات الدينية المحافظة. فلم تستطع الكنيسة الصمود بوجه الحملات الليبرالية. وقبل عشرين عاما أصدر باتريك بوكنان، الذي كان مستشارا لرؤساء ثلاثة: نيكسون وفورد وريغان، كتابا بعنوان: موت الغرب. وتنبأ الكاتب بانحدار الغرب وتلاشيه كقوة عملاقة بحلول منتصف القرن التالي، لأسباب من بينها الانحدار الأخلاقي.
إذا كان العالم يبحث عن أمن واستقرار فعليه أن يدفع نحو الحرية الحقيقية التي ينظمها القانون، وان يضغط لتحرير الإنسان من الاستسلام للاستبداد والديكتاتورية، وعدم دفعه نحو التطرف او فرض الانحراف العقيدي أو الأخلاقي عليه
في الأسبوع الماضي أعرب مجلس العلاقات الأمريكية-الإسلامية (CAIR)، كبرى المنظمات الإسلامية في مجالات الدعوة والحقوق المدنية في الولايات المتحدة، عن «قلقه» بشأن برنامج المنح المالية التي تقدمها وزارة الخارجية الأمريكية لتشجيع الحركات الإلحادية في المناطق ذات الأغلبية المسلمة في آسيا والشرق الأوسط. ووفقاً لمكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل (DRL)، ستُستخدم الأموال لإنشاء وتقوية «شبكات من المدافعين عن المجتمعات المتنوعة من الملحدين والإنسانيين وغير الممارسين وغير المنتسبين من جميع الطوائف الدينية في البلدان المستهدفة». فتحت شعار الحرية الدينية ثمة أهداف غير معلنة ذات أبعاد يعتبرها المنظّرون الغربيون «استراتيجية». وبعد بضعة عقود من استهداف الحركات الإسلامية التي رفعت لواء ما تعتبره «المشروع الإسلامي» بدأ استهداف الإسلام نفسه بالاضافة لتجلياته الحركية. وما استهداف مقدسات المسلمين في السنوات الأخيرة وفي مقدمتها القرآن الكريم وشخص الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، إلا ضمن مشروع استهداف الدين. ولاحظ الغرب أن هذه الأعمال إنما تشد المسلمين الى دينهم لأنهم يرون في تلك التجليات جوهر هويتهم ويرفضون التخلي عنها. مع ذلك تواصلت جهود الغرب باستخدام كافة الوسائل ومن بينها تفريق المسلمين بتضخيم اختلافاتهم التاريخية. ولا يمكن استيعاب الفيلم البريطاني (سيدة الجنة) الذي بدأ عرضه الشهر الماضي في دور السينما البريطانية إلا أنه جزء من المخطط الغربي لإضعاف المسلمين وتوهين موقع الدين في حياتهم. لذلك لم يكن مستغربا حالة الغضب التي انتابت المسلمين الواعين إزاء تمويل الخارجية الأمريكية التوجهات الإلحادية في العالم الإسلامي. فقال نائب مدير المجلس إدوارد أحمد ميتشلفي: «من غير المناسب لوزارة الخارجية التمويل المباشر لانتشار الدين في المجتمعات العلمانية، وتمويلها المباشر لانتشار الإلحاد في المجتمعات الدينية والحركات المناهضة للإيمان». وأضاف : «يجب أن تموّل أمتنا الجهود المبذولة لتعزيز الحرية والعدالة لجميع الناس في جميع أنحاء العالم، لا الحركات المناهضة للإيمان على وجه التحديد». وفي مطلع هذا العام كشف تقرير أمريكي أن 35 مؤسسة قدّمت ما يقرب من 106 مليون دولار من المدفوعات من 2017 إلى 2019 إلى 26 مجموعة تعمل «ضد المسلمين».
تجدر الإشارة الى أن الإلحاد يختلف عن العلمنة او الانحراف السلوكي، وان كان البعض يخلط بينهما. فدار الإفتاء المصرية تقسّم «الملحدين» إلى ثلاث مجموعات: أولاها الذين لا يعترضون على الإسلام كدين ولكن يرفضون أسلمة السياسة وينادون بدولة علمانية. وثانيا: الذين يرفضون الإسلام كدين تماما. وثالثا: الذين تحولوا من الإسلام إلى دين آخر. هذه التصنيفات تلامس الظاهرة ولكنها لا تفسر أسبابها بشكل دقيق. ومن المؤكد أن التطرف يساهم في تشويش أذهان الشباب وقد يدفع بعضهم نحو الإلحاد. وعانى المسلمون من ظاهرة التطرف التي نشأت لأسباب من بينها تطرف أنظمة الحكم التي تصادر الحريات وتدفع الشباب نحو اليأس. وقد بدأت ظاهرة التطرف بالتلاشي التدريجي لأنها مناقضة لطبيعة الدين الإسلامي الذي يتميز بالاعتدال والوسطية برغم ما يروجه أعداؤه ضده. وبمنطق مشابه، يمكن التنبؤ أن تؤدي سياسة ترويج الإلحاد التي ينتهجها الغرب حاليا لتطرف مضرّ بأمن المجتمعات. فثمة فرق بين حرية المعتقد التي يسمح بها الدين، وسياسة فرض أي من المعتقدات او الممارسات عن طريق الفرض والإكراه والتنمر. أليس مثيرا للقلق دفع المساجد والكنائس للتظاهر بدعم الشذوذ؟
أليس من المقلق أيضا أن يتم استفزاز الغالبية الساحقة من قاطني العالم الإسلامي الذين يعيشون الفطرة والبساطة وقدرا من النقاء الإيماني والنفسي، بترويج المظاهر والممارسات التي تستفزهم وتحرك فيهم مشاعر التقزز والغضب؟ فإذا كان العالم يبحث عن أمن واستقرار فعليه أن يدفع نحو الحرية الحقيقية التي ينظمها القانون، وان يضغط لتحرير الإنسان من الاستسلام للاستبداد والديكتاتورية، وعدم دفعه نحو التطرف او فرض الانحراف العقيدي او الاخلاقي عليه. وفي النهاية فإن عليه ان يدعم حرية المعتقد ويقتضي ذلك حماية الأفراد والمجموعات من السياسات الاستفزازية التي تزعجهم ومن ذلك سياسات دعم الإلحاد وترويج القيم والممارسات التي ترفضها الأديان، وبدون ذلك ستتواصل محنة هذا المخلوق، ولن تجدي سياسات التنمّر الغربية شيئا في مجال إحلال الوئام والأمن والسلم.
كاتب بحريني