- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
د. سعيد الشهابي يكتب: المقاطعة الرياضية.. سلاح فاعل ضد الاحتلال
د. سعيد الشهابي يكتب: المقاطعة الرياضية.. سلاح فاعل ضد الاحتلال
- 1 يناير 2024, 9:52:29 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
برغم تهافت بعض الحكومات العربية باتجاه إقامة علاقات تطبيع مع الكيان الإسرائيلي، ما يزال الرأي العام العربي يعتبر أية علاقة مع الاحتلال «خيانة». كما أن هذا العالم يضم الآلاف من الأحرار الذين ما يزالون يعتبرون قضية فلسطين جوهرية لتحديد بوصلة سياسات بلدانهم. فمن تخلى عن ذلك فقد ثوريته وانتمى للتيار الاستعماري الذي كان وما يزال الداعم الأكبر للاحتلال. ولطالما سعى البعض للتهوين من إقامة العلاقات مع «إسرائيل» معتبرا أنها تعبر عن «وجهة نظر» لدى من يقوم بها.
وقد سبق أن تنبأ فنان الكاريكتير، المرحوم ناجي العلي، بذلك وقال على لسان حنظلة، رمزه الذي ميّز رسوماته: «أخشى أن يأتي الوقت الذي تكون فيه الخيانة وجهة نظر». ما يزال أحرار العالم يعتبرون الموقف من فلسطين قضية مبدأ وموقف. فالكاتبة الهندية، أرونداتي روي، في مقالها الذي نشرته قبل أسبوعين في 15 ديسمبر تعاتب حكومتها وشعبها لعدم وقوفهم مع الدعوة لوقف إطلاق النار في غزة قائلة: «إننا، كبلد، فقدنا بوصلتنا الأخلاقية. ففي العالم هناك ملايين البشر من يهود ومسلمين ومسيحيين وهندوس وشيوعيين وملحدين يقومون بمظاهرات مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار. ولكن شوارع بلدنا التي كانت يوما صديقا حميما للشعوب المستعمرة، وصديقا حميما لفلسطين وكانت تكتظ بالملايين، أصبحت اليوم صامتة. وأغلب كتابنا صامتون. إنه لعارٌ عظيم، ودليل لغياب الرؤية».
أصبحت المقاطعة الرياضية ظاهرة مرتبطة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي. ويبدو أن الرياضيين أكثر وعيا ومبدئية من السياسيين
وإذا كان بعض «الدبلوماسيين» العرب قد وطّنوا أنفسهم لمد الجسور مع الاحتلال والتخلي عن مبدأ تحرير فلسطين، فإن أمة العرب والمسلمين ما تزال بخير، ويمكن الادّعاء بأن الغالبية الساحقة من الشعوب ترفض التخلي عن فلسطين، وترفع شعار التحرير، ولا تشعر بالتعاطف مع الاحتلال الإسرائيلي. ومن مؤشرات ذلك مواقف الرياضيين الذين يضحّون بمكانتهم ومواقعهم المهنية، ويرفضون التطبيع مع الاحتلال وذلك برفض التنافس مع الإسرائيليين.
وقد أصبحت المقاطعة الرياضية ظاهرة مرتبطة بالقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي. ويبدو أن الرياضيين أكثر وعيا ومبدئية من السياسيين. فهم يربطون الأزمة السياسية بالألعاب الرياضية. ويمتنعون عن اللعب والمنافسة مع الرياضيين الإسرائيليين. ويشاطرهم رياضيون من دول غير عربية أو إسلامية الأمر الذي جعل الساحة الرياضية ميدانا آخر للصراع، على عكس بعض الحكومات العربية التي تسمح للرياضيين الإسرائيليين بالمشاركة في السباقات التي تقام على أراضي بلدانها. ولا يمكن اعتبار السباقات التي تقام في الأراضي المحتلة مجرد رياضة بل أداة تستعملها سلطات الاحتلال لتحقيق أهداف سياسية وأيديولوجية. خصوصا مع وجود التمييز الواضح ضد أصحاب الأرض من الفلسطينيين.
وليس هناك شك بأن المنافسة مع الرياضيين الإسرائيليين هي نوع من التطبيع المباشر مع الصهاينة. في العام 1959 اجتمع عدد من مناضلي جنوب أفريقيا في المنفى، من بينهم المناضل المعروف نيلسون مانديلا رئيس الجمهورية لاحقا، لوضع أسس حركة مناهضة الفصل العنصري. وكان من أول ما فكّرت به استهداف الدجاجة الذهبية ذاتها التي تغطي قبح النظام الاستعماري، في كشف سوأته دوليًا. وبعد التداول دعت الحملة إلى مقاطعة جنوب أفريقيا على المستوى الرياضي الفردي والجماعي، سواء برفض القدوم إلى جنوب أفريقيا واللعب فيها أو برفض استقبالهم ومواجهتهم خارجها. بالطبع لم تنجح تلك الدعاوى بشكل كامل، لكنها ألقت حجرًا ضخمًا في الماء الراكد.
لقد كان واضحا في أذهان العالم، خصوصا النشطاء العرب والرياضيين أن الرياضة كانت وستبقى مدخلا للتطبيع إذا لم تكن هناك رقابة صارمة ورفض قاطع للتنافس مع رياضييها، أو حضور السباقات التي تعقد في الأراضي الفلسطينية التي تحتلها أو السماح لها بالمشاركة في السباقات التي تقام في الاراضي العربية. وما أكثر الرياضيين الأجانب الذي رفضوا التنافس مع الإسرائيليين حتى في السباقات الدولية، وعرّضوا أنفسهم لخسارة الألقاب أو الإبعاد من تلك الدورات.
قبل شهرين فحسب قرر الملاكم السوري محمد مليس الانسحاب من مواجهة نظيره دانيس لابتبوف (الذي قامت حكومة البحرين بتجنيسه) في دورة الألعاب الآسيوية التي أقيمت في الصين بسبب إسناد مهمة تحكيم النزال إلى حَكَم إسرائيلي. ولم يجد «البحريني» غضاضة من القبول بحكم إسرائيلي، فأُعلن فوزه بسبب انسحاب الملاكم السوري الذي حظي باحترام عربي واسع بسبب موقفه. هؤلاء الرياضيون ينظرون بعمق لما يجري في الأراضي المحتلة ويرون أن التطبيع مع المحتل في الجانب الرياضي يمنحه شرعية لا يستحقها ما دام يحتل أراضي الغير. هذه النظرة لا تتوفر لدى الكثير من الحكام والسياسيين الذين يخشون ردة فعل الغرب إذا أصروا على مقاطعة الاحتلال، بل أن بعضهم بدأ التطبيع الاقتصادي مع تل أبيب.
مسيرة الانسحابات الرياضية التي بدأت منذ عام 1991، عبّرت عنها صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية بالقول: «العرب يجعلون منّا أضحوكة بانسحابهم أمام لاعبينا، توجد كل أنواع اتفاقات السلام والحبر الذي يكاد ينتهي بالطابعة من كثرة النسخ، أما على الأرض فيثبت الرياضيون العرب أن إسرائيل بنظرهم ليست موجودة». وهذا يعكس مدى الأثر النفسي للمقاطعة، ومدى ما يستحقه الرياضيون الشرفاء الذين يلتزمون بها من إكبار وتقدير. ففي ذلك العام رفض بطل أفريقيا في الجودو الجزائري مزيان دحماني المشاركة في بطولة العالم للجودو في برشلونة بعد أن أوقعته قرعة الدور الأول أمام منافس إسرائيلي.
كان ذلك الموقف بداية لانطلاق حركة مقاطعة واسعة تواصلت حتى الآن. وقد كرر هذا اللاعب موقفه في العام التالي في دورة الألعاب الأوليمبية التي جرت في إسبانيا أيضًا. وإذا كان الرياضيون الجزائريون قد أطلقوا مبادرة المقاطعة الرياضية للإسرائيليين، فقد تبعهم رياضيون من عدد من الدول العربية: مصر وسوريا وتونس واليمن والكويت والعراق ولبنان والسودان. ولم تمنع المقاطعة الرياضيين العرب من التألق دوليّا، وقصة اللاعب محمد صلاح تؤكد ذلك. ففي الدور التمهيدي الثالث، لمسابقة دوري أبطال أوروبا عام 2013، رفض محمد صلاح نجم ليفربول الإنكليزي، مصافحة لاعبي فريق مكابي تل أبيب، عندما كان لاعبا في فريق بازل السويسري، وتعلل وقتها بربط حذائه، وفي نهاية المباراة أسرع صلاح إلى غرفة خلع الملابس بدون أن يصافح أو يبدل قميصه مع أي من لاعبي الفريق الإسرائيلي، كما جرت العادة في مثل هذه اللقاءات.
الداعون للمقاطعة الرياضية يذكرون دورها في إسقاط النظام العنصري بجنوب أفريقيا، ويروّجون لها كوسيلة لمواجهة الكيان الإسرائيلي. يقول كريس ماغريل في مقال نشرته صحيفة «أوبزيرفر» البريطانية قبل عامين: ساعدت المقاطعة والعقوبات على التخلص من نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فهل جاء الدور على إسرائيل؟”. مضيفا: «أسأل الجيل القديم من البيض في جنوب أفريقيا متى شعروا بضغط العقوبات المضادة لنظام التمييز العنصري، وبعضهم يشير إلى لحظة عام 1968 عندما منع رئيس الوزراء بي جي فورستر جولة لفريق كريكيت إنكليزي لأنه يضم اللاعب بازل دوليفيرا الذي كان من عرق مختلط».
وكان الكاتب قد عمل مراسلا لصحيفة «الغارديان» في تل أبيب مدة أربعة أعوام من 2002 حتى 2006، وعمل في جوهانسبرغ منذ 1990. ومُنعت بعد ذلك جنوب أفريقيا من المشاركة بمباريات الكريكيت الدولية حتى خروج نيلسون مانديلا من السجن بعد 22 عاما. وكانت قضية دوليفيرا نقطة مهمة في زيادة الدعم للمقاطعة الرياضية، حيث استُبعد البلد من المباريات الدولية بما فيها لعبة «الرجبي» التي يعشقها «الأفريكانز البيض» الذين كانوا يشكلون أساس الحزب الحاكم وشعروا بالسخط من استبعادهم.
إن من الخطأ بمكان التعاطي مع الاحتلال وكأنه أمر أزلي لا يمكن إنهاؤه. فالنضال من أجل إزالة ظلم وقع على شعب لا بد أن يحقق هدفه ولو بعد حين.